روسيا (ادب في)
Russia - Russie
الأدب الروسي
يبدأ التأريخ للأدب الروسي من القرن العاشر الميلادي، أي مع نشأة الكتابة الروسية وظهور أول النصوص المكتوبة بالروسية القديمة. وكانت تلك النصوص تتسم بطبيعة عملية معرفية تعليمية مرتبطة بالخدمة الكنسية والنصوص القانونية والتاريخية، ويطغى عليها الأسلوب البلاغي. كما ارتبط ظهور الأدب الروسي أيضاً بنشوء الدولة الروسية الإقطاعية التي كان مركزها كييف، عاصمة روسيا الكبرى التي اعتنقت المسيحية عام 988 بقرار رسمي.
تشرَّب الأدب الروسي في القرن الثالث عشر ـ قرن تبعثر الدولة ـ بالتراث اليوناني والبيزنطي، ليرتقي في هذا الأدب فن الحكاية. وتُعدُّ «كلمة عن جيش إيغور» قمة نمو الأدب الروسي القديم إذ شكلت نصاً ملحمياً وغنائياً دينيّاً ودنيويّاً جمع تقاليد الكتابة الرفيعة والإبداع الشفهي. وظهرت في روسيا مع الاجتياح المنغولي - التتاري ملاحم عدة مثل «حكاية الكسندر نيفسكي» (1263ـ1280). وجاءت معركة كوليكوف عام 1380 لتفتح الطريق أمام تحرر روسيا من النير المنغولي ـ التتاري فظهرت قصص زودونكينا (1380) Zodonchina لتمتدح انتصار ديمتري دونسكوي في تلك المعركة.
ازدهر في القرن السادس عشر - قرن تكوّن الدولة الروسية المركزية - التدوين التاريخي الموسكوفي، وظهرت كتب الرحلات، وجرى تحوّل في الإبداع الروسي نحو النثر لتتكون معالمه عبر ترجمات من الأدب السلافي واليوناني والعربي (ترجمة كليلة ودمنة). ويعد القرن السابع عشر قرن الانتقال من نصوص القرون الوسطى إلى أدب العصر الحديث، ويمكن تحديد أهم سمات هذا الأدب على النحو الآتي:
1ـ الاهتمام بالحياة الخاصة للإنسان العادي وانتعاش الأدب النثري في مقابل الشعري.
2ـ دخول أدب الحب، ونشوء القصة الاجتماعية وأدب المرافعات والأدب الهزلي في مقابل الثقافة الرسمية.
3ـ الاهتمام بترجمة الآداب العالمية.
يكوّن القرن الثامن عشر مرحلة انتقالية في الأدب الروسي سبقت ظهور الأدب الحديث فيه، فقد بدأت الاتباعية[ر] (الكلاسيكية) الروسية بالتشكل، وتميزت من مثيلتها في أوربا الغربية بسمات فكرية وجمالية خاصة، وذلك في كتابات كانتيمير، وتريدياكوفسكي و لومونوسوف[ر] الذين كانوا عماد حركة أدبية إصلاحية هدفت إلى خلق أدب قومي وتوسيع حركة بطرس الأول الإصلاحية لتمتد إلى حقل الثقافة والأدب. وفي ثلاثينيات القرن الثامن عشر وأربعينياته أعدَّ كل من تريدياكوفسكي ولومونوسوف إيقاعاً شعرياً روسياً يقوم على النَّبْرِ المقطعي النغمي فكان أكثر توافقاً مع البنية الإيقاعية للغة الروسية، مما مهّد لازدهار الشعر في القرنين التاسع عشر والعشرين.
يتسم الأدب الروسي في القرن التاسع عشر بفضح النظام القيصري المطلق والنظام الإقطاعي، وبقيام الحرب الوطنية عام 1812 ونضج أفكار النبلاء الثوريين. وجرى في هذا القرن الانتقال التدريجي من الاتباعية إلى الإبداعية[ر] (الرومانسية) والواقعية[ر]، وقد بدأ هذا في النصف الأول من القرن في إبداع درجافين وباتوشكوف وباراتينسكي. وظهر في هذه الحقبة الشعر المدني وتبلور في شعر الديسمبريين (اتباع حركة ديسمبر) مثل: غلينكا، وراييفسكي، وريليف، وكوخلبيكر، وبستوجف[ر]، وقد رأى الديسمبريون في الأدب أهم أداة للنضال، وأثرت برامجهم في إضفاء طابع سياسي على الشعر يؤكد المعايير الفكرية لأخلاق الإنسان المدنية وسلوكه. وكان هذا سبب نزوعهم نحو «الكلاسيكية التنويرية». وظهرت في هذه المرحلة أيضاً قصص كريلوف[ر] وغريبويدوف. تشكلت حكايات كريلوف من لغة المشافهة الشعبية، أما كوميديا غريبويدوف فقد جمعت بين الاتباعية والواقعية. وتطورت الكتابة المسرحية أيضاً لتأخذ طبيعةُ هذا الجنس بالتعقيد بعد أن انصهرت فيها معالم الهجاء والسخرية والكوميديا والدراما الغنائية.
يقف شعر بوشكين[ر] في مركز الإبداع الأدبي الروسي، فقد تشرَّب شعره بحماسة شخصية اتحدت مع تمرد بايروني [ر. بايرون]، لكنه تجاوز المقولات الفلسفية الأخلاقية البايرونية لتظهر ملامح أسلوب واقعي. أما في مسرحيته الشعرية «بوريس غودونوف» فقد تبدَّت علاقة واضحة بين «مصير الإنسان الفرد» و «مصير الشعب». وفي روايته «يفغيني أونيغين» يصبح مصير الإنسان المعاصر معجوناً بغنى الحياة الروسية وتجربة الأمة الروحية. جدد بوشكين في قصائده اللغة الروسية وتجاوزت هذه القصائد التقاليد الأسلوبية الراسخة لتخلق غنائيتَها الخاصة بها. ويتمثل التطور الإبداعي الأهم في تاريخ الشعر الروسي في القرن التاسع عشر بشعر ليرمنتوف[ر] الذي كان تمجيداً للغنائية تشكل خارج جنس القصيدة الغنائية في وحدةٍ تعبيرية مع اللغة الشعرية.
يقف غوغول[ر] على طرف النقيض من بوشكين وليرمنتوف فقد توجه نحو تحقيق حلم رومنسي عن عدالة رائعة في العالم تقابل «حقارة» الواقع القائم و«أرضيته»، وكان حلم غوغول يصطدم في مسرحه وقصِّه بواقع الحياة الاجتماعية المعاصرة، ثم راح يقترب من واقعية هذه الحياة، محاولاً كشفها وتحليلها.
أثّرت أفكار الناقد الروسي بِلنسكي[ر] في تطور نزعتين في أدب القرن التاسع عشر الروسي: الديمقراطية الثورية والطبيعية. وقد جمعت هاتان النزعتان أدباء من مشارب واتجاهاتٍ مختلفة وحَّدت بينهم مناهضة نظام القنانة والدفاع عن حرية الإنسان وكرامته والانتباه إلى الوسط الاجتماعي المحيط بالفرد، وقد ظهر هذا واضحاً في مؤلفات دستويفسكي[ر] المبكرة وعند غيرتسين وغونتشاروف[ر]، و تورغينيف [ر]. أما الواقعية الروسية فقد راحت تتطور في هذه الحقبة في كوميديات أوستروفسكي[ر] وفي قصائد نيكراسوف[ر] وغيرهما.
بدأت في ستينيات القرن التاسع عشر مرحلة جديدة من مراحل تجديد الأدب الروسي، فقد انكشفت أمام هذا الأدب مضامين تاريخية ـ اجتماعية جديدة خلقها انهيار نظام القنانة وما تلاه من سلسلة متلاحقة الحلقات من الإصلاحات التي تناولت الإدارة والقضاء والجيش والرقابة، وكذلك التطور المتنامي للرأسمالية وسيرورة تشكل مجتمع مدني في روسيا، وبدء طور جديد من أطوار حركة التحرر الوطني قام على أساس تفاوت القوى الاجتماعية وتفاضلها واستقطاباتها. وقد حمل هذا كلّه أفكاراً وموضوعات جديدة راح الأدب يرتاد من خلالها آفاقاً جديدة. وكان من أهم أعلام هذه المرحلة تشيرنيشفسْكي[ر] ودوبرولوبوف وسلطيكوف ـ شِدرين[ر] وغيرتسين وغونتشاروف ونيكراسوف وأوستروفسكي وفِيت، إضافةً إلى تورغينيف وليف تولستوي[ر].
كتب تشيرنيشفسكي روايته الشهيرة «ما العمل؟» لتكون التجربة الأولى في الأدب الروسي التي تجسِّد المثال الاشتراكي في نموذجٍ روائي خاص يُعرب عن أيديولوجيا، ويقوم على فلسفة اجتماعية تجمع في طياتها واقعية نثر الحياة المعيشة مع الطوباوية والهجاء الساخر. وكانت «ما العمل؟» الرواية الضدّ، المقابلة لمقولة «الفن الخالص» التي شاعت حينها و«الفن للفن». فقد نظر تشيرنيشفسكي إلى الأدب على أنه قوة إدراك وتقويم وخلق لواقعٍ جديد.
وتبرز النزعة الطبيعية في رواية غونتشاروف «أبلوموف» حيث نلمس تصويراً للشخصيات والأحداث يكاد يقترب من التحقيق الصحفي، فهو يصف الشخصية في الإطار المعيشي الطبيعي معيداً إنتاج جزيئات هذا الإطار وتفصيلاته، رابطاً العالم ونفسية الشخصية بتربيتها ضمن شروط الوسط المحيط في الحياة اليومية. أما «الماضي والخواطر» لغيرتسين فهو توليف فني وظّف البحث التاريخي والتحقيق الصحفي والتأملات والتحليل الفلسفي ليشكل عملاً فنياً متعدد المحاور، يشمل حركة الحياة ذاتها والعمل الدؤوب الطامح إلى خلق وعي ثوري يسمح بالربط بحرية بين ظواهر الحياة والعالم الداخلي للإنسان، بين الحياة الخاصة وقوانين الحياة، بين تجربة روسيا وتجربة الغرب، بين الماضي والحاضر، بين التطور الحاصل والمستقبل المستشرف.
تطورت في شعر النصف الثاني من القرن التاسع عشر نزعتان أيضاً، إذ تجلّت الحماسة للديمقراطية والمواطنية في شعر نيكراسوف، وظهرت النزعة إلى «الفن الخالص»، بهذا الحدّ أو ذاك، في شعر فِيت وبولونسكي وألكسندر تولستوي، ودخلت النزعتان في نزاعٍ حاد. وسّع نيكراسوف الأطر الأسلوبية والثيمية Theme للشعر الغنائي واستوعب شعره نثر حياة الإنسان العادية بما فيها من أعباء وهموم لتكتسب هذه المادة غير الشعرية توتراً غنائياً عالياً، وبهذا راحت الحدود تضيق في أدبه بين الخطاب الشعري والخطاب النثري، وراحت الموضوعات التقليدية والصور الرفيعة والأسلوب العالي تلتقي متصادمة ومتباينة مع الخطاب المعيش ليصبح هذا التصادم معياراً يحوِّل الحياة العادية إلى مادة شعرية تبرز جوانبها الروحية والجمالية وفعاليتها الاجتماعية.
اتسم شعر فيت بنظمٍ رفيع وغنائية وجدانية وقدرة فائقة على تجسيد المنطلقات العفوية في الحياة الروحية وإحساسٍ مرهف بالطبيعة والتناغم معها. تميز شعره بمجاز استعاري شفيف يخلق صوراً مشهدية تشبه اللوحات التشكيلية إلا أنها تتميز بموسيقاها التي تفتح آفاقاً واسعة للتعبير صوتياً عن عوالم روحية لا تُسلم قيادها للكلمة بسهولة.أما شعر تيوتشف[ر] فقد اكتسب المتأخر ملامح جديدة على الرغم من أنه حافظ على بنيته المجازية، إلا أن مضامينه راحت تقترب أكثر فأكثر من مصائر الناس كاشفة عن درامية العلاقات اليومية في الحياة المعيشية، وراح يغني الشعر بنزعة نفسية متعمقة.
تنوعت ثيمات الكتابة المسرحية الروسية وأشكالها في هذه الحقبة واغتنت شعرية الدراما بتمثلها تقاليد المسرح الشعبي الروسي وتقاليد المسرح الأوربي، وتشكلت برامج عروض وطنية واسعة مؤهلة للنهوض بثقافة مسرحية وطنية. وقد بدا هذا واضحاً في مسرحيات سوخوفا - كابيلين. وقدم أوستروفسكي نموذجاً جديداً للمسرح في أعماله أراد لها أن تكون مسرحيات للحياة، فقد سعى إلى أن يوحد بين الصراع المسرحي الحاد والإدراك العميق لسيرورة الحياة ومشكلاتها. وظهر هذا في تركيب درامي غير معتاد يسمح بظهور مشاهد غير مترابطة لكنها تفسح المجال لتلاقي مستويات لغوية مختلفة تحتضن عناصر من الغنائية الشعبية والحكاية الملحمية.
بدأ إبداع ليف تولستوي بالظهور في خمسينيات القرن التاسع عشر ليشكل قمة الأدب الروائي والقصصي في هذه الحقبة، وقد توّج رواياته بملحمة «الحرب والسلام» وهي بانوراما واسعة للواقع الروسي المواكب للأحداث، و«آنا كارنينا» التي صورت روح العصر الذي كانت تهب عليه رياح التغيير، وأرست مسرحيته «سلطة الظلام» بداية المسرح القائم على موضوعات الحياة الريفية. ويعد دستويفسكي أحد أعلام الرواية الروسية والعالمية، بدأ أدبه في الظهور في أربعينيات القرن التاسع عشر واعتمد إنتاجه المنهج الفني الجديد الذي يبتعد عن الخط الهجائي المميز لمعلمه غوغول، فقد اتجه إلى البحث العميق في نفوس أبطاله وقدّم من خلاله صورة الواقع والحياة القائمة. وانعكست أزمات العصر في روايات إيفان تورغينيف أيضاً، فابتعدت الرواية عن البنية الروائية المعتادة التي تتمحور حول بطل رئيس ليخلق تورغينيف حالة اجتماعية متكاملة يقوم عليها محور الرواية.
بدأ تشكل الرمزية[ر] في الشعر الروسي من ثمانينيات القرن التاسع عشر متواكبة مع تطور الواقعية، في حقبة تشكل الرجعية بوجوهها المتعددة وانتهازيتها وقابليتها للتكيف مع المستجدات ونفسية الخنوع العبودي لدى غالبية الشعب ومأساة (تراجيدية) الحياة العادية. وقد شكلت هذه الحالة الموضوعات الرئيسة في الأدب الساخر لدى سلطيكوف ـ شِدرين[ر] الذي استطاع أن يبدع حكايات فولكلور سياسي للواقع القائم، لتكون هذه الحكايات مثقلة بثيمات فكرية وسياسية حادة، وقامت مسرحياته الملهاة على مبالغات خيالية ساخرة. وقد حاول غونتشاروف في روايته «الهاوية» أن يقدم برنامجه الطوباوي المحافظ. أما رواية تشيرنيشفسكي «الفاتحة» فقد اعتمدت بنية جدلية معقدة تقوم على فهم عميق للحركة الثورية في روسيا.
يشكل تشيخوف[ر] المرحلة الأهم في تطور الواقعية الروسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فقد بدأت قصصه الساخرة بالظهور في منتصف ثمانينيات القرن التاسع عشر لترصد خساسة روح العبودية وابتذالها ودناءتها في جميع تجلياتها الممكنة وحطمت هذه القصص الأوهام الأدبية والاجتماعية المعتادة، وفضحت ضيق الأفق وضحالة التفكير والجوهر غير الإنساني في كثير من الظواهر الاجتماعية التي كانت تعد من ظواهر السلوك الراقي والحميد. وقد وسّع نثر تشيخوف حدوده ليشمل جميع شرائح البنية الاجتماعية وفئاتها من فلاحين وإقطاعيين، سكان مدن وبرجوازيين وبيروقراطية عليا وفئاتٍ مختلفة من المثقفين. ويدخل في اهتمام تشيخوف أيضاً جميع اتجاهات عصره ونزعاته وتياراته الفكرية، الشعبية والتولستوية وغيرها.
يتشكل على تخوم القرن العشرين وبداياته أدب روسي يصور الحقبة الثالثة في تطور حركة التحرر الوطني الروسية، الحقبة البروليتارية، التي تكونت على خلفية صراع جمالي حاد بين تيارات فكرية فنية عدة أبرزت تعدد القوى الاجتماعية التي تناضل ضد النظام القيصري. وتوزع الأدب الروسي في هذه الحقبة في تيارات قامت على خلفيات جمالية متباينة في علاقتها بضرورة «الثورة» وأهدافها والقوى المحركة لها. وقد حدث هذا كله في حقبة نهوض ثوري اكتسبت الواقعية النقدية فيها خصائص جديدة شكلت تقابلات بين «الشخصية الفردية والوسط المحيط» بين «الفن والحياة»، وقد تجلى هذا في إبداع كوبرين وبونين[ر] وكورولينكو[ر] وغوركي[ر]، وقد أدى هذا إلى ظهور تيار «الواقعية الطبيعية». وشكلت ثورة 1905ـ1907 روح الأدب الروسي ليكون محملاً بإحساس حادٍ بالتجدد والانبعاث. ويظهر هذا في إنتاج غوركي المبكر وما تلاه من إنتاج خلق النماذج الاتباعية الأولى لأدب الواقعية الاشتراكية. وتظهر في هذه الحقبة ملامح التعبيرية[ر] في إبداع كوبرين، والرمزية في أدب روسي جعل العمل الإبداعي لا يُفهم إلا على أنه حدس وجداني لشخصية الفنان. كما كانت الانطباعية[ر] واحدة من الأشكال الأسلوبية في الوعي الفني لدى أغلبية الرمزيين الروس.
تولد عن الرمزية الروسية تيار جديد اصطُلح على تسميته «بالرمزية الشابة» التي واجهت فنياً انغلاق الأدب الرمزي على الأنا الفردية أو على «الفن للفن» وركزت اهتمامها على التاريخ الوطني والثقافة والمسائل المعاصرة الملحة، وكان أسلوب أتباعها الفني يعكس ثنائية تباعدية بين مكونين اثنين عالم الواقع/ عالم الأفكار، النزعة العقلانية/ النزعة الفطرية. وقد تجلت هذه «الرمزية الشابة» في شعر بلوك[ر] و بيلي[ر]، ثم تطورت إلى المستقبلية[ر] التي أعلنت أن وظيفتها الفنية إصلاح الشعرية الرمزية، وقد تجلى هذا في شعر أخماتوفا[ر] التي أثْرت الشعر بغنائيات نفسية رائعة. وقد حلّت المستقبلية العلاقة بين الفن والواقع على أساس تحرر الفن تحرراً كاملاً من «المقدمات الأولى» للكلمة، وأعلن المستقبليون «ثورة» في الفن أخذت طابعاً عَدميّاً (نهلستياً) nihilism، وكانت هذه العدمية ثورة على الأنظمة الاجتماعية والرجعية. وتفرع عن المستقبلية مستقبلية تكعيبية كان من أتباعها شكلاً ماياكوفسكي[ر]، الذي كان يشغل مكانة شعرية خاصة ارتقت به إلى شعرية ديمقراطيةٍ حقيقية تشربت بإحساسٍ ثوري يكسر الواقع بإنسانيةٍ ومواطنية عاليتين.ونهضت في العقدين الأول والثاني من القرن العشرين مجموعة من الشعراء، من أصل ريفي كان من أهمهم يسينين[ر] الذي صوّر الجمال الأخاذ في روسيا الريفية. أما تسفيتايفا فقد أدهشت الشعر بما تميزت به من نزعة أخلاقية وإحساس تراجيدي متوتر في مجموعاتها «الفانوس السحري» و«قصائد إلى بلوك» وغيرها.
ثم بدأت الحقبة السوڤييتية في تطور الأدب الروسي [ر. الاتحاد السوڤييتي، الأدب].
رضوان القضماني
Russia - Russie
الأدب الروسي
يبدأ التأريخ للأدب الروسي من القرن العاشر الميلادي، أي مع نشأة الكتابة الروسية وظهور أول النصوص المكتوبة بالروسية القديمة. وكانت تلك النصوص تتسم بطبيعة عملية معرفية تعليمية مرتبطة بالخدمة الكنسية والنصوص القانونية والتاريخية، ويطغى عليها الأسلوب البلاغي. كما ارتبط ظهور الأدب الروسي أيضاً بنشوء الدولة الروسية الإقطاعية التي كان مركزها كييف، عاصمة روسيا الكبرى التي اعتنقت المسيحية عام 988 بقرار رسمي.
تشرَّب الأدب الروسي في القرن الثالث عشر ـ قرن تبعثر الدولة ـ بالتراث اليوناني والبيزنطي، ليرتقي في هذا الأدب فن الحكاية. وتُعدُّ «كلمة عن جيش إيغور» قمة نمو الأدب الروسي القديم إذ شكلت نصاً ملحمياً وغنائياً دينيّاً ودنيويّاً جمع تقاليد الكتابة الرفيعة والإبداع الشفهي. وظهرت في روسيا مع الاجتياح المنغولي - التتاري ملاحم عدة مثل «حكاية الكسندر نيفسكي» (1263ـ1280). وجاءت معركة كوليكوف عام 1380 لتفتح الطريق أمام تحرر روسيا من النير المنغولي ـ التتاري فظهرت قصص زودونكينا (1380) Zodonchina لتمتدح انتصار ديمتري دونسكوي في تلك المعركة.
ازدهر في القرن السادس عشر - قرن تكوّن الدولة الروسية المركزية - التدوين التاريخي الموسكوفي، وظهرت كتب الرحلات، وجرى تحوّل في الإبداع الروسي نحو النثر لتتكون معالمه عبر ترجمات من الأدب السلافي واليوناني والعربي (ترجمة كليلة ودمنة). ويعد القرن السابع عشر قرن الانتقال من نصوص القرون الوسطى إلى أدب العصر الحديث، ويمكن تحديد أهم سمات هذا الأدب على النحو الآتي:
1ـ الاهتمام بالحياة الخاصة للإنسان العادي وانتعاش الأدب النثري في مقابل الشعري.
2ـ دخول أدب الحب، ونشوء القصة الاجتماعية وأدب المرافعات والأدب الهزلي في مقابل الثقافة الرسمية.
3ـ الاهتمام بترجمة الآداب العالمية.
يكوّن القرن الثامن عشر مرحلة انتقالية في الأدب الروسي سبقت ظهور الأدب الحديث فيه، فقد بدأت الاتباعية[ر] (الكلاسيكية) الروسية بالتشكل، وتميزت من مثيلتها في أوربا الغربية بسمات فكرية وجمالية خاصة، وذلك في كتابات كانتيمير، وتريدياكوفسكي و لومونوسوف[ر] الذين كانوا عماد حركة أدبية إصلاحية هدفت إلى خلق أدب قومي وتوسيع حركة بطرس الأول الإصلاحية لتمتد إلى حقل الثقافة والأدب. وفي ثلاثينيات القرن الثامن عشر وأربعينياته أعدَّ كل من تريدياكوفسكي ولومونوسوف إيقاعاً شعرياً روسياً يقوم على النَّبْرِ المقطعي النغمي فكان أكثر توافقاً مع البنية الإيقاعية للغة الروسية، مما مهّد لازدهار الشعر في القرنين التاسع عشر والعشرين.
يتسم الأدب الروسي في القرن التاسع عشر بفضح النظام القيصري المطلق والنظام الإقطاعي، وبقيام الحرب الوطنية عام 1812 ونضج أفكار النبلاء الثوريين. وجرى في هذا القرن الانتقال التدريجي من الاتباعية إلى الإبداعية[ر] (الرومانسية) والواقعية[ر]، وقد بدأ هذا في النصف الأول من القرن في إبداع درجافين وباتوشكوف وباراتينسكي. وظهر في هذه الحقبة الشعر المدني وتبلور في شعر الديسمبريين (اتباع حركة ديسمبر) مثل: غلينكا، وراييفسكي، وريليف، وكوخلبيكر، وبستوجف[ر]، وقد رأى الديسمبريون في الأدب أهم أداة للنضال، وأثرت برامجهم في إضفاء طابع سياسي على الشعر يؤكد المعايير الفكرية لأخلاق الإنسان المدنية وسلوكه. وكان هذا سبب نزوعهم نحو «الكلاسيكية التنويرية». وظهرت في هذه المرحلة أيضاً قصص كريلوف[ر] وغريبويدوف. تشكلت حكايات كريلوف من لغة المشافهة الشعبية، أما كوميديا غريبويدوف فقد جمعت بين الاتباعية والواقعية. وتطورت الكتابة المسرحية أيضاً لتأخذ طبيعةُ هذا الجنس بالتعقيد بعد أن انصهرت فيها معالم الهجاء والسخرية والكوميديا والدراما الغنائية.
يقف شعر بوشكين[ر] في مركز الإبداع الأدبي الروسي، فقد تشرَّب شعره بحماسة شخصية اتحدت مع تمرد بايروني [ر. بايرون]، لكنه تجاوز المقولات الفلسفية الأخلاقية البايرونية لتظهر ملامح أسلوب واقعي. أما في مسرحيته الشعرية «بوريس غودونوف» فقد تبدَّت علاقة واضحة بين «مصير الإنسان الفرد» و «مصير الشعب». وفي روايته «يفغيني أونيغين» يصبح مصير الإنسان المعاصر معجوناً بغنى الحياة الروسية وتجربة الأمة الروحية. جدد بوشكين في قصائده اللغة الروسية وتجاوزت هذه القصائد التقاليد الأسلوبية الراسخة لتخلق غنائيتَها الخاصة بها. ويتمثل التطور الإبداعي الأهم في تاريخ الشعر الروسي في القرن التاسع عشر بشعر ليرمنتوف[ر] الذي كان تمجيداً للغنائية تشكل خارج جنس القصيدة الغنائية في وحدةٍ تعبيرية مع اللغة الشعرية.
يقف غوغول[ر] على طرف النقيض من بوشكين وليرمنتوف فقد توجه نحو تحقيق حلم رومنسي عن عدالة رائعة في العالم تقابل «حقارة» الواقع القائم و«أرضيته»، وكان حلم غوغول يصطدم في مسرحه وقصِّه بواقع الحياة الاجتماعية المعاصرة، ثم راح يقترب من واقعية هذه الحياة، محاولاً كشفها وتحليلها.
أثّرت أفكار الناقد الروسي بِلنسكي[ر] في تطور نزعتين في أدب القرن التاسع عشر الروسي: الديمقراطية الثورية والطبيعية. وقد جمعت هاتان النزعتان أدباء من مشارب واتجاهاتٍ مختلفة وحَّدت بينهم مناهضة نظام القنانة والدفاع عن حرية الإنسان وكرامته والانتباه إلى الوسط الاجتماعي المحيط بالفرد، وقد ظهر هذا واضحاً في مؤلفات دستويفسكي[ر] المبكرة وعند غيرتسين وغونتشاروف[ر]، و تورغينيف [ر]. أما الواقعية الروسية فقد راحت تتطور في هذه الحقبة في كوميديات أوستروفسكي[ر] وفي قصائد نيكراسوف[ر] وغيرهما.
بدأت في ستينيات القرن التاسع عشر مرحلة جديدة من مراحل تجديد الأدب الروسي، فقد انكشفت أمام هذا الأدب مضامين تاريخية ـ اجتماعية جديدة خلقها انهيار نظام القنانة وما تلاه من سلسلة متلاحقة الحلقات من الإصلاحات التي تناولت الإدارة والقضاء والجيش والرقابة، وكذلك التطور المتنامي للرأسمالية وسيرورة تشكل مجتمع مدني في روسيا، وبدء طور جديد من أطوار حركة التحرر الوطني قام على أساس تفاوت القوى الاجتماعية وتفاضلها واستقطاباتها. وقد حمل هذا كلّه أفكاراً وموضوعات جديدة راح الأدب يرتاد من خلالها آفاقاً جديدة. وكان من أهم أعلام هذه المرحلة تشيرنيشفسْكي[ر] ودوبرولوبوف وسلطيكوف ـ شِدرين[ر] وغيرتسين وغونتشاروف ونيكراسوف وأوستروفسكي وفِيت، إضافةً إلى تورغينيف وليف تولستوي[ر].
كتب تشيرنيشفسكي روايته الشهيرة «ما العمل؟» لتكون التجربة الأولى في الأدب الروسي التي تجسِّد المثال الاشتراكي في نموذجٍ روائي خاص يُعرب عن أيديولوجيا، ويقوم على فلسفة اجتماعية تجمع في طياتها واقعية نثر الحياة المعيشة مع الطوباوية والهجاء الساخر. وكانت «ما العمل؟» الرواية الضدّ، المقابلة لمقولة «الفن الخالص» التي شاعت حينها و«الفن للفن». فقد نظر تشيرنيشفسكي إلى الأدب على أنه قوة إدراك وتقويم وخلق لواقعٍ جديد.
وتبرز النزعة الطبيعية في رواية غونتشاروف «أبلوموف» حيث نلمس تصويراً للشخصيات والأحداث يكاد يقترب من التحقيق الصحفي، فهو يصف الشخصية في الإطار المعيشي الطبيعي معيداً إنتاج جزيئات هذا الإطار وتفصيلاته، رابطاً العالم ونفسية الشخصية بتربيتها ضمن شروط الوسط المحيط في الحياة اليومية. أما «الماضي والخواطر» لغيرتسين فهو توليف فني وظّف البحث التاريخي والتحقيق الصحفي والتأملات والتحليل الفلسفي ليشكل عملاً فنياً متعدد المحاور، يشمل حركة الحياة ذاتها والعمل الدؤوب الطامح إلى خلق وعي ثوري يسمح بالربط بحرية بين ظواهر الحياة والعالم الداخلي للإنسان، بين الحياة الخاصة وقوانين الحياة، بين تجربة روسيا وتجربة الغرب، بين الماضي والحاضر، بين التطور الحاصل والمستقبل المستشرف.
تطورت في شعر النصف الثاني من القرن التاسع عشر نزعتان أيضاً، إذ تجلّت الحماسة للديمقراطية والمواطنية في شعر نيكراسوف، وظهرت النزعة إلى «الفن الخالص»، بهذا الحدّ أو ذاك، في شعر فِيت وبولونسكي وألكسندر تولستوي، ودخلت النزعتان في نزاعٍ حاد. وسّع نيكراسوف الأطر الأسلوبية والثيمية Theme للشعر الغنائي واستوعب شعره نثر حياة الإنسان العادية بما فيها من أعباء وهموم لتكتسب هذه المادة غير الشعرية توتراً غنائياً عالياً، وبهذا راحت الحدود تضيق في أدبه بين الخطاب الشعري والخطاب النثري، وراحت الموضوعات التقليدية والصور الرفيعة والأسلوب العالي تلتقي متصادمة ومتباينة مع الخطاب المعيش ليصبح هذا التصادم معياراً يحوِّل الحياة العادية إلى مادة شعرية تبرز جوانبها الروحية والجمالية وفعاليتها الاجتماعية.
اتسم شعر فيت بنظمٍ رفيع وغنائية وجدانية وقدرة فائقة على تجسيد المنطلقات العفوية في الحياة الروحية وإحساسٍ مرهف بالطبيعة والتناغم معها. تميز شعره بمجاز استعاري شفيف يخلق صوراً مشهدية تشبه اللوحات التشكيلية إلا أنها تتميز بموسيقاها التي تفتح آفاقاً واسعة للتعبير صوتياً عن عوالم روحية لا تُسلم قيادها للكلمة بسهولة.أما شعر تيوتشف[ر] فقد اكتسب المتأخر ملامح جديدة على الرغم من أنه حافظ على بنيته المجازية، إلا أن مضامينه راحت تقترب أكثر فأكثر من مصائر الناس كاشفة عن درامية العلاقات اليومية في الحياة المعيشية، وراح يغني الشعر بنزعة نفسية متعمقة.
تنوعت ثيمات الكتابة المسرحية الروسية وأشكالها في هذه الحقبة واغتنت شعرية الدراما بتمثلها تقاليد المسرح الشعبي الروسي وتقاليد المسرح الأوربي، وتشكلت برامج عروض وطنية واسعة مؤهلة للنهوض بثقافة مسرحية وطنية. وقد بدا هذا واضحاً في مسرحيات سوخوفا - كابيلين. وقدم أوستروفسكي نموذجاً جديداً للمسرح في أعماله أراد لها أن تكون مسرحيات للحياة، فقد سعى إلى أن يوحد بين الصراع المسرحي الحاد والإدراك العميق لسيرورة الحياة ومشكلاتها. وظهر هذا في تركيب درامي غير معتاد يسمح بظهور مشاهد غير مترابطة لكنها تفسح المجال لتلاقي مستويات لغوية مختلفة تحتضن عناصر من الغنائية الشعبية والحكاية الملحمية.
بدأ إبداع ليف تولستوي بالظهور في خمسينيات القرن التاسع عشر ليشكل قمة الأدب الروائي والقصصي في هذه الحقبة، وقد توّج رواياته بملحمة «الحرب والسلام» وهي بانوراما واسعة للواقع الروسي المواكب للأحداث، و«آنا كارنينا» التي صورت روح العصر الذي كانت تهب عليه رياح التغيير، وأرست مسرحيته «سلطة الظلام» بداية المسرح القائم على موضوعات الحياة الريفية. ويعد دستويفسكي أحد أعلام الرواية الروسية والعالمية، بدأ أدبه في الظهور في أربعينيات القرن التاسع عشر واعتمد إنتاجه المنهج الفني الجديد الذي يبتعد عن الخط الهجائي المميز لمعلمه غوغول، فقد اتجه إلى البحث العميق في نفوس أبطاله وقدّم من خلاله صورة الواقع والحياة القائمة. وانعكست أزمات العصر في روايات إيفان تورغينيف أيضاً، فابتعدت الرواية عن البنية الروائية المعتادة التي تتمحور حول بطل رئيس ليخلق تورغينيف حالة اجتماعية متكاملة يقوم عليها محور الرواية.
بدأ تشكل الرمزية[ر] في الشعر الروسي من ثمانينيات القرن التاسع عشر متواكبة مع تطور الواقعية، في حقبة تشكل الرجعية بوجوهها المتعددة وانتهازيتها وقابليتها للتكيف مع المستجدات ونفسية الخنوع العبودي لدى غالبية الشعب ومأساة (تراجيدية) الحياة العادية. وقد شكلت هذه الحالة الموضوعات الرئيسة في الأدب الساخر لدى سلطيكوف ـ شِدرين[ر] الذي استطاع أن يبدع حكايات فولكلور سياسي للواقع القائم، لتكون هذه الحكايات مثقلة بثيمات فكرية وسياسية حادة، وقامت مسرحياته الملهاة على مبالغات خيالية ساخرة. وقد حاول غونتشاروف في روايته «الهاوية» أن يقدم برنامجه الطوباوي المحافظ. أما رواية تشيرنيشفسكي «الفاتحة» فقد اعتمدت بنية جدلية معقدة تقوم على فهم عميق للحركة الثورية في روسيا.
يشكل تشيخوف[ر] المرحلة الأهم في تطور الواقعية الروسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فقد بدأت قصصه الساخرة بالظهور في منتصف ثمانينيات القرن التاسع عشر لترصد خساسة روح العبودية وابتذالها ودناءتها في جميع تجلياتها الممكنة وحطمت هذه القصص الأوهام الأدبية والاجتماعية المعتادة، وفضحت ضيق الأفق وضحالة التفكير والجوهر غير الإنساني في كثير من الظواهر الاجتماعية التي كانت تعد من ظواهر السلوك الراقي والحميد. وقد وسّع نثر تشيخوف حدوده ليشمل جميع شرائح البنية الاجتماعية وفئاتها من فلاحين وإقطاعيين، سكان مدن وبرجوازيين وبيروقراطية عليا وفئاتٍ مختلفة من المثقفين. ويدخل في اهتمام تشيخوف أيضاً جميع اتجاهات عصره ونزعاته وتياراته الفكرية، الشعبية والتولستوية وغيرها.
يتشكل على تخوم القرن العشرين وبداياته أدب روسي يصور الحقبة الثالثة في تطور حركة التحرر الوطني الروسية، الحقبة البروليتارية، التي تكونت على خلفية صراع جمالي حاد بين تيارات فكرية فنية عدة أبرزت تعدد القوى الاجتماعية التي تناضل ضد النظام القيصري. وتوزع الأدب الروسي في هذه الحقبة في تيارات قامت على خلفيات جمالية متباينة في علاقتها بضرورة «الثورة» وأهدافها والقوى المحركة لها. وقد حدث هذا كله في حقبة نهوض ثوري اكتسبت الواقعية النقدية فيها خصائص جديدة شكلت تقابلات بين «الشخصية الفردية والوسط المحيط» بين «الفن والحياة»، وقد تجلى هذا في إبداع كوبرين وبونين[ر] وكورولينكو[ر] وغوركي[ر]، وقد أدى هذا إلى ظهور تيار «الواقعية الطبيعية». وشكلت ثورة 1905ـ1907 روح الأدب الروسي ليكون محملاً بإحساس حادٍ بالتجدد والانبعاث. ويظهر هذا في إنتاج غوركي المبكر وما تلاه من إنتاج خلق النماذج الاتباعية الأولى لأدب الواقعية الاشتراكية. وتظهر في هذه الحقبة ملامح التعبيرية[ر] في إبداع كوبرين، والرمزية في أدب روسي جعل العمل الإبداعي لا يُفهم إلا على أنه حدس وجداني لشخصية الفنان. كما كانت الانطباعية[ر] واحدة من الأشكال الأسلوبية في الوعي الفني لدى أغلبية الرمزيين الروس.
تولد عن الرمزية الروسية تيار جديد اصطُلح على تسميته «بالرمزية الشابة» التي واجهت فنياً انغلاق الأدب الرمزي على الأنا الفردية أو على «الفن للفن» وركزت اهتمامها على التاريخ الوطني والثقافة والمسائل المعاصرة الملحة، وكان أسلوب أتباعها الفني يعكس ثنائية تباعدية بين مكونين اثنين عالم الواقع/ عالم الأفكار، النزعة العقلانية/ النزعة الفطرية. وقد تجلت هذه «الرمزية الشابة» في شعر بلوك[ر] و بيلي[ر]، ثم تطورت إلى المستقبلية[ر] التي أعلنت أن وظيفتها الفنية إصلاح الشعرية الرمزية، وقد تجلى هذا في شعر أخماتوفا[ر] التي أثْرت الشعر بغنائيات نفسية رائعة. وقد حلّت المستقبلية العلاقة بين الفن والواقع على أساس تحرر الفن تحرراً كاملاً من «المقدمات الأولى» للكلمة، وأعلن المستقبليون «ثورة» في الفن أخذت طابعاً عَدميّاً (نهلستياً) nihilism، وكانت هذه العدمية ثورة على الأنظمة الاجتماعية والرجعية. وتفرع عن المستقبلية مستقبلية تكعيبية كان من أتباعها شكلاً ماياكوفسكي[ر]، الذي كان يشغل مكانة شعرية خاصة ارتقت به إلى شعرية ديمقراطيةٍ حقيقية تشربت بإحساسٍ ثوري يكسر الواقع بإنسانيةٍ ومواطنية عاليتين.ونهضت في العقدين الأول والثاني من القرن العشرين مجموعة من الشعراء، من أصل ريفي كان من أهمهم يسينين[ر] الذي صوّر الجمال الأخاذ في روسيا الريفية. أما تسفيتايفا فقد أدهشت الشعر بما تميزت به من نزعة أخلاقية وإحساس تراجيدي متوتر في مجموعاتها «الفانوس السحري» و«قصائد إلى بلوك» وغيرها.
ثم بدأت الحقبة السوڤييتية في تطور الأدب الروسي [ر. الاتحاد السوڤييتي، الأدب].
رضوان القضماني