سيجر البرابانتي
(1235 ـ 1282)
سيجر البرابانتي Siger of Brabantلاهوتي وفيلسوف بلجيكي، كتب باللاتينية، ولد في لييج وتوفي في بلدة أوفيتو في إيطاليا. وهو من أبرز ممثلي الحركة الفلسفية المعروفة باسم الرشدية اللاتينية التي ظهرت عام 1250، ونادت بالحقيقة المزدوجة أو نظرية الحقيقتين: الحقيقة الدينية القائمة على التنزيل والوحي، وأخرى فلسفية قائمة على العقل والبرهان.
درس البرابانتي في جامعة باريس، وعلّم بكلية الآداب بباريس، وكانت نظرياته تتمتع برواج عظيم في أوساط طلابه. وفي عام 1266، وصف المندوب البابوي سيجر البرابانتي بأنه واحد من المحرضين الرئيسيين على الشغب الفكري في الجامعة، وفي سنة 1270 أدان أسقف باريس الرشدية في 13 قضية. وفي عام 1277 صدرت ضده إدانة جديدة استهدفت 219 قضية مستخرجة من مؤلفاته، وبخاصة من كتابه في النفس العاقلة، فاستأنف اللاهوتي الحكم أمام محكمة روما الكنسية التي صادقت على الحكم، فوافق سيجر على التراجع عن آرائه، لكن على الرغم من خضوعه، حكم عليه بالسجن المؤبد، ثم خفف هذا الحكم بحيث أصبح نوعاً من الإقامة الجبرية في الإدارة البابوية.
إن ما يسمى بالرشدية اللاتينية، وكذلك الرشدية العبرية أي المذهب الرشدي اليهودي، ليس إلا قراءة خاصة لبعض جوانب فكر ابن رشد، وبما أن هذه القراءة قد تمت عبر الترجمة، وبما أن الترجمة قد تمت داخل ثقافة تختلف بمرجعيتها وإشكالياتها عن الثقافة التي عايشها وفكر فيها ابن رشد، انطلاقاً من قضاياه العربية ـ الإسلامية، فإن الذي حصل هو أن الرشدية اللاتينية قد طرحت قضايا لم تكن مطروحة في الساحة الثقافية العربية بالصورة ذاتها التي طرحت بها في الثقافة اللاتينية المسيحية، والنتيجة هي أن الرشدية اللاتينية هذه لا تعبر عن فكر ابن رشد، كما يمكن أن يفهم في الثقافة العربية الإسلامية، وكان القرن الثالث عشر قد أعطى لكلمة رشديين معنى ضيقاً، فهم الذين يعتنقون التأويل الرشدي ككتاب النفس ويأخذون بوحدة العقل والنفس، وكان كثيرون منهم يقرؤون النصوص العربية مباشرة دون وساطة الترجمة. فما أن انتشرت آثار ابن رشد بين الفلاسفة المدرسيين، منذ أن ترجم ميخائيل سكوت شروح ابن رشد على مؤلفات أرسطو 1228ـ1230، حتى انقسموا إلى فريقين يشهد كلاهما بعلو معارفه الفلسفية ومعرفته التامة بفلسفة أرسطو، فريقاً مؤيداً له وآخر مناهضاً ومعارضاً لأقواله، وقد تزعم الفريق الأول سيجر البرابانتي، وتزعم الفريق الثاني القديس توما الأكويني.
حمل سيجر البرابانتي لواء الرشدية اللاتينية في القرن الثالث عشر في جامعة باريس، واهتم بأرسطو وتعرّفه عن طريق ابن رشد، تبنى الرشدية، وإن كان قد أدخل في مذهبه عناصر من الأفلاطونية المحدثة عن طريق ابن سينا، حيث قال: بأن الواحد من كل وجه لا يصدر عنه إلا واحد، وذهب إلى أن عمليات الخلق تتسم كلها بالضرورة (لا بالإرادة والعناية الإلهية).
تمسك البرابانتي بتفسير ابن رشد لنظرية أرسطو في النفس الإنسانية، وقال معه بأن النفس الفردية هي صورة الجسم وهي تفنى بفنائه، وهي نفس نامية حساسة متخيلة ولها استعداد متفاوت للتقبل، ويختلف من فرد إلى آخر، أي لتقبل العقل الفعال، الذي هو واحد بعينه للنوع الإنساني كله، وعنه تفيض الصور المعقولة فتتلقاها النفوس الفردية كل بحسب طاقتها، وليس الجزاء الأخلاقي مرهوناً بخلود الفرد وبعثه في الآخرة، فالإنسان ينال جزاء أفعاله في حياته الدنيوية.
قال سيجر البرابانتي بوجود عقل واحد مشترك في النوع البشري قاطبة، ومن شأن مثل هذا الطرح أن يفسد القول بالخلود الفردي، وقد عمل القديس توما الأكويني على دحض هذه النظرية في كتيب له بعنوان: « في وحدة العقل»، كان قد وجهه عمداً ومباشرة ضد الرشديين.
والمعروف أن أهم تأويلات سيجر البرابانتي في مذهب ابن رشد كانت القول بوجود حقيقتين، وأنه من الممكن أن يعتنق الإنسان في آن واحد، الحقيقة الدينية التي يتلقاها عن طريق الوحي، والإيمان، والحقيقة العقلية المتأتية من العقل والبرهان، وهي الحقيقة الفلسفية.
وقد ظهر الإقرار بازدواجية الحقيقة في الفلسفة الرشدية مع أولى الدراسات المهتمة بفلسفة ابن رشد، فكانت الصيغة النهائية التي وصل إليها المذهب الرشدي في العصور الوسطى هي الصيغة التي عرفت بمذهب ازدواج الحقيقة، أو الحقيقة ذات الوجهين، أي الإقرار بمعرفة نقلية وهي الشريعة، ومعرفة عقلية يقينية هي الفلسفة، وبأن هاتين الحقيقتين متناقضتان، أي أن ما هو صادق في المجال الديني قد يعد خاطئاً في المجال الفلسفي.
أما الاعتبارات التي يرتكز عليها القائلون بهذا، فتتمثل في مصدر المعرفة، فإذا كان الوحي يقدم مسلّمات إيمانية تتطلب التسليم بها وتصديقها تصديقاً مطلقاً... فإن العقل يبدأ من القواعد الأساسية للمنطق العقلي، ويعطي نظرات عقلية تؤيد بالاستدلال والحجج البرهانية، فتتوافر معطيات دينية نقلية تتضمنها النصوص المقدسة، وتتوافر من ناحية أخرى معطيات عقلية هي ثمرة تأمل وتفكير أصحاب النظر العقلي، أي: الفلاسفة.
وقد رأى البعض أن هذه النظرية فاسدة لأنها تميز بين العامة والخاصة، وتجعل الدين اثنين، ولما كان إيمان الخاصة (الفلاسفة) هو الحق كان إيمان العامة ضلالاً، وإنما تفرض على الفيلسوف مجاراة العامة ظاهراً، وكتمان ما يرى باطناً.
ولعل ما دفع بعض دارسي فلسفة ابن رشد إلى الرجوع إلى الإقرار بازدواجية الحقيقة، يتمثل في إبراز الأخطاء التي وقع فيها من أقروا بتوفيق ابن رشد بين الحكمة والشريعة مثل ليون جوتييه، وأول هذه الأخطاء هو الانتصار على بعض كتب ابن رشد مثل: فصل المقال، ومناهج الأدلة، وبعض نصوص تهافت التهافت، وعدم الرجوع إلى كتبه الأخرى وشروحاته وتفسيراته.
والجدير بالذكر أن التمييز بين المعرفة البرهانية والمعرفة الخطابية الجدلية، إضافة إلى احترام ذلك التمايز وعدم اختراقه أيضاً، يبرز حقيقتين:
ـ إن ابن رشد لا يجعل الاختلاف بين البشر في طريقة المعرفة نتيجة لانقسام النص إلى ظاهر وباطن، بل هو على العكس، يجعل هذا الانقسام نتيجة ذلك الاختلاف الطبيعي، يقول: «والسبب في ورود الشرع فيه الظاهر والباطن، هو اختلاف فطر الناس وتباين قرائحهم في التصديق». فالضرورة الطبيعية إذن تؤسس لوجود حقيقتين: حقيقة العامة وحقيقة الخاصة، أي حقيقة دينية، وحقيقة فلسفية، وإن ابن رشد لا يجذِّر ازدواج الحقيقة في الطبيعة على نحو ميتافيزيقي، بل يفسرها على نحو عملي، فالقول الديني خطاب موجه إلى الناس كافة، لأن هدفه الأساسي هو تقويم السلوك البشري، ولما كان من المتعذر تأجيل هذه الغاية حتى تتعلم العامة البرهان، كان لزاماً أن يوجد ضربان من تمثل الحقيقة: تمثل بالعقل، وتمثل بالحس والخيال.
هناك إذن حقيقة واحدة يبلغها البرهانيون، كما هي أهل الخطابة في حاجة تمثيلها الحسي الخيالي حتى يدركوها، وليس اختلافها بين هؤلاء وأولئك من طبيعة أنطولوجية حتى نتحدث عن حقيقتين عند ابن رشد، بل هو يعود إلى عدم توافر عنصر الزمن اللازم لتعليم العامة الطرق البرهانية. إن إمكانية تعليم العامة كيفية البرهنة هي في حد ذاتها دليل على وحدة الحقيقة عند ابن رشد، وأن كان إدراك العلماء لهذه الحقيقة الواحدة يختلف عن إدراك العامة لها، وأن هذا الاختلاف في إدراك الحقيقة يعود إلى المستوى المعرفي للفرد فقط، لا إلى شيء آخر.
وقال البرابانتي أيضاً، كما قال ابن رشد، بقدم العالم، وأنه ليس مخلوقاً في الزمان، بل هو قديم قدم الباري نفسه، حيث كان للرشديين اللاتين في جامعة باريس طريقتهم في فهم نظرية قدم العالم، إذ يقولون بأن العقل يرى وجوب قدم العالم، والعلم يؤكد ذلك، في حين أن الشرع يرى خلاف ذلك، لذا وضعوا الحقيقتين أمام الجمهور دون البت في الموضوع...
وقد زعم البرابانتي: أن الله يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات لأن العلم بالجزئيات والتفاصيل يقتضي تغيير العلم الإلهي تبعاً لوقوع الأحداث، ومع ذلك ظلت مشكلة خلود العالم ووحدة العقل الفعال أكثر المواقف الفلسفية التي صدمت اللاهوتيين في ذلك الزمان، فضلاً عن القول بهيولى أزلية غير معلولة، واستحالة البعث، وما إلى ذلك، لذلك كانت الرشدية من أهم العوامل التي أسهمت في تقويض الإيمان لصالح العقل في تلك الحقبة.
إن أبرز ما يمكن ملاحظته في الرشدية اللاتينية، هو سوء الفهم وسوء التفسير لفلسفة ابن رشد العقلية المتسقة أتم اتساق، وسبب ذلك عدم التمييز بين آراء الفيلسوف ابن رشد وما جاء به شراح فلسفته، ويقول المستشرق الإسباني آسين بالاثيوس Asin Palacios بحق: من الواجب أن نشير إلى تلك الفكرة الوهمية التي كان جميع المؤرخين ضحية لها، وهي أنهم متى وجدوا جماعة من المدرسيين الذين نطلق عليهم اسم الرشديين فإنهم لا يترددون في أن يلقوا على رأس ابن رشد كل النظريات التي تتميز بها هذه الجماعة.
عبد الحميد الصالح
(1235 ـ 1282)
سيجر البرابانتي Siger of Brabantلاهوتي وفيلسوف بلجيكي، كتب باللاتينية، ولد في لييج وتوفي في بلدة أوفيتو في إيطاليا. وهو من أبرز ممثلي الحركة الفلسفية المعروفة باسم الرشدية اللاتينية التي ظهرت عام 1250، ونادت بالحقيقة المزدوجة أو نظرية الحقيقتين: الحقيقة الدينية القائمة على التنزيل والوحي، وأخرى فلسفية قائمة على العقل والبرهان.
درس البرابانتي في جامعة باريس، وعلّم بكلية الآداب بباريس، وكانت نظرياته تتمتع برواج عظيم في أوساط طلابه. وفي عام 1266، وصف المندوب البابوي سيجر البرابانتي بأنه واحد من المحرضين الرئيسيين على الشغب الفكري في الجامعة، وفي سنة 1270 أدان أسقف باريس الرشدية في 13 قضية. وفي عام 1277 صدرت ضده إدانة جديدة استهدفت 219 قضية مستخرجة من مؤلفاته، وبخاصة من كتابه في النفس العاقلة، فاستأنف اللاهوتي الحكم أمام محكمة روما الكنسية التي صادقت على الحكم، فوافق سيجر على التراجع عن آرائه، لكن على الرغم من خضوعه، حكم عليه بالسجن المؤبد، ثم خفف هذا الحكم بحيث أصبح نوعاً من الإقامة الجبرية في الإدارة البابوية.
إن ما يسمى بالرشدية اللاتينية، وكذلك الرشدية العبرية أي المذهب الرشدي اليهودي، ليس إلا قراءة خاصة لبعض جوانب فكر ابن رشد، وبما أن هذه القراءة قد تمت عبر الترجمة، وبما أن الترجمة قد تمت داخل ثقافة تختلف بمرجعيتها وإشكالياتها عن الثقافة التي عايشها وفكر فيها ابن رشد، انطلاقاً من قضاياه العربية ـ الإسلامية، فإن الذي حصل هو أن الرشدية اللاتينية قد طرحت قضايا لم تكن مطروحة في الساحة الثقافية العربية بالصورة ذاتها التي طرحت بها في الثقافة اللاتينية المسيحية، والنتيجة هي أن الرشدية اللاتينية هذه لا تعبر عن فكر ابن رشد، كما يمكن أن يفهم في الثقافة العربية الإسلامية، وكان القرن الثالث عشر قد أعطى لكلمة رشديين معنى ضيقاً، فهم الذين يعتنقون التأويل الرشدي ككتاب النفس ويأخذون بوحدة العقل والنفس، وكان كثيرون منهم يقرؤون النصوص العربية مباشرة دون وساطة الترجمة. فما أن انتشرت آثار ابن رشد بين الفلاسفة المدرسيين، منذ أن ترجم ميخائيل سكوت شروح ابن رشد على مؤلفات أرسطو 1228ـ1230، حتى انقسموا إلى فريقين يشهد كلاهما بعلو معارفه الفلسفية ومعرفته التامة بفلسفة أرسطو، فريقاً مؤيداً له وآخر مناهضاً ومعارضاً لأقواله، وقد تزعم الفريق الأول سيجر البرابانتي، وتزعم الفريق الثاني القديس توما الأكويني.
حمل سيجر البرابانتي لواء الرشدية اللاتينية في القرن الثالث عشر في جامعة باريس، واهتم بأرسطو وتعرّفه عن طريق ابن رشد، تبنى الرشدية، وإن كان قد أدخل في مذهبه عناصر من الأفلاطونية المحدثة عن طريق ابن سينا، حيث قال: بأن الواحد من كل وجه لا يصدر عنه إلا واحد، وذهب إلى أن عمليات الخلق تتسم كلها بالضرورة (لا بالإرادة والعناية الإلهية).
تمسك البرابانتي بتفسير ابن رشد لنظرية أرسطو في النفس الإنسانية، وقال معه بأن النفس الفردية هي صورة الجسم وهي تفنى بفنائه، وهي نفس نامية حساسة متخيلة ولها استعداد متفاوت للتقبل، ويختلف من فرد إلى آخر، أي لتقبل العقل الفعال، الذي هو واحد بعينه للنوع الإنساني كله، وعنه تفيض الصور المعقولة فتتلقاها النفوس الفردية كل بحسب طاقتها، وليس الجزاء الأخلاقي مرهوناً بخلود الفرد وبعثه في الآخرة، فالإنسان ينال جزاء أفعاله في حياته الدنيوية.
قال سيجر البرابانتي بوجود عقل واحد مشترك في النوع البشري قاطبة، ومن شأن مثل هذا الطرح أن يفسد القول بالخلود الفردي، وقد عمل القديس توما الأكويني على دحض هذه النظرية في كتيب له بعنوان: « في وحدة العقل»، كان قد وجهه عمداً ومباشرة ضد الرشديين.
والمعروف أن أهم تأويلات سيجر البرابانتي في مذهب ابن رشد كانت القول بوجود حقيقتين، وأنه من الممكن أن يعتنق الإنسان في آن واحد، الحقيقة الدينية التي يتلقاها عن طريق الوحي، والإيمان، والحقيقة العقلية المتأتية من العقل والبرهان، وهي الحقيقة الفلسفية.
وقد ظهر الإقرار بازدواجية الحقيقة في الفلسفة الرشدية مع أولى الدراسات المهتمة بفلسفة ابن رشد، فكانت الصيغة النهائية التي وصل إليها المذهب الرشدي في العصور الوسطى هي الصيغة التي عرفت بمذهب ازدواج الحقيقة، أو الحقيقة ذات الوجهين، أي الإقرار بمعرفة نقلية وهي الشريعة، ومعرفة عقلية يقينية هي الفلسفة، وبأن هاتين الحقيقتين متناقضتان، أي أن ما هو صادق في المجال الديني قد يعد خاطئاً في المجال الفلسفي.
أما الاعتبارات التي يرتكز عليها القائلون بهذا، فتتمثل في مصدر المعرفة، فإذا كان الوحي يقدم مسلّمات إيمانية تتطلب التسليم بها وتصديقها تصديقاً مطلقاً... فإن العقل يبدأ من القواعد الأساسية للمنطق العقلي، ويعطي نظرات عقلية تؤيد بالاستدلال والحجج البرهانية، فتتوافر معطيات دينية نقلية تتضمنها النصوص المقدسة، وتتوافر من ناحية أخرى معطيات عقلية هي ثمرة تأمل وتفكير أصحاب النظر العقلي، أي: الفلاسفة.
وقد رأى البعض أن هذه النظرية فاسدة لأنها تميز بين العامة والخاصة، وتجعل الدين اثنين، ولما كان إيمان الخاصة (الفلاسفة) هو الحق كان إيمان العامة ضلالاً، وإنما تفرض على الفيلسوف مجاراة العامة ظاهراً، وكتمان ما يرى باطناً.
ولعل ما دفع بعض دارسي فلسفة ابن رشد إلى الرجوع إلى الإقرار بازدواجية الحقيقة، يتمثل في إبراز الأخطاء التي وقع فيها من أقروا بتوفيق ابن رشد بين الحكمة والشريعة مثل ليون جوتييه، وأول هذه الأخطاء هو الانتصار على بعض كتب ابن رشد مثل: فصل المقال، ومناهج الأدلة، وبعض نصوص تهافت التهافت، وعدم الرجوع إلى كتبه الأخرى وشروحاته وتفسيراته.
والجدير بالذكر أن التمييز بين المعرفة البرهانية والمعرفة الخطابية الجدلية، إضافة إلى احترام ذلك التمايز وعدم اختراقه أيضاً، يبرز حقيقتين:
ـ إن ابن رشد لا يجعل الاختلاف بين البشر في طريقة المعرفة نتيجة لانقسام النص إلى ظاهر وباطن، بل هو على العكس، يجعل هذا الانقسام نتيجة ذلك الاختلاف الطبيعي، يقول: «والسبب في ورود الشرع فيه الظاهر والباطن، هو اختلاف فطر الناس وتباين قرائحهم في التصديق». فالضرورة الطبيعية إذن تؤسس لوجود حقيقتين: حقيقة العامة وحقيقة الخاصة، أي حقيقة دينية، وحقيقة فلسفية، وإن ابن رشد لا يجذِّر ازدواج الحقيقة في الطبيعة على نحو ميتافيزيقي، بل يفسرها على نحو عملي، فالقول الديني خطاب موجه إلى الناس كافة، لأن هدفه الأساسي هو تقويم السلوك البشري، ولما كان من المتعذر تأجيل هذه الغاية حتى تتعلم العامة البرهان، كان لزاماً أن يوجد ضربان من تمثل الحقيقة: تمثل بالعقل، وتمثل بالحس والخيال.
هناك إذن حقيقة واحدة يبلغها البرهانيون، كما هي أهل الخطابة في حاجة تمثيلها الحسي الخيالي حتى يدركوها، وليس اختلافها بين هؤلاء وأولئك من طبيعة أنطولوجية حتى نتحدث عن حقيقتين عند ابن رشد، بل هو يعود إلى عدم توافر عنصر الزمن اللازم لتعليم العامة الطرق البرهانية. إن إمكانية تعليم العامة كيفية البرهنة هي في حد ذاتها دليل على وحدة الحقيقة عند ابن رشد، وأن كان إدراك العلماء لهذه الحقيقة الواحدة يختلف عن إدراك العامة لها، وأن هذا الاختلاف في إدراك الحقيقة يعود إلى المستوى المعرفي للفرد فقط، لا إلى شيء آخر.
وقال البرابانتي أيضاً، كما قال ابن رشد، بقدم العالم، وأنه ليس مخلوقاً في الزمان، بل هو قديم قدم الباري نفسه، حيث كان للرشديين اللاتين في جامعة باريس طريقتهم في فهم نظرية قدم العالم، إذ يقولون بأن العقل يرى وجوب قدم العالم، والعلم يؤكد ذلك، في حين أن الشرع يرى خلاف ذلك، لذا وضعوا الحقيقتين أمام الجمهور دون البت في الموضوع...
وقد زعم البرابانتي: أن الله يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات لأن العلم بالجزئيات والتفاصيل يقتضي تغيير العلم الإلهي تبعاً لوقوع الأحداث، ومع ذلك ظلت مشكلة خلود العالم ووحدة العقل الفعال أكثر المواقف الفلسفية التي صدمت اللاهوتيين في ذلك الزمان، فضلاً عن القول بهيولى أزلية غير معلولة، واستحالة البعث، وما إلى ذلك، لذلك كانت الرشدية من أهم العوامل التي أسهمت في تقويض الإيمان لصالح العقل في تلك الحقبة.
إن أبرز ما يمكن ملاحظته في الرشدية اللاتينية، هو سوء الفهم وسوء التفسير لفلسفة ابن رشد العقلية المتسقة أتم اتساق، وسبب ذلك عدم التمييز بين آراء الفيلسوف ابن رشد وما جاء به شراح فلسفته، ويقول المستشرق الإسباني آسين بالاثيوس Asin Palacios بحق: من الواجب أن نشير إلى تلك الفكرة الوهمية التي كان جميع المؤرخين ضحية لها، وهي أنهم متى وجدوا جماعة من المدرسيين الذين نطلق عليهم اسم الرشديين فإنهم لا يترددون في أن يلقوا على رأس ابن رشد كل النظريات التي تتميز بها هذه الجماعة.
عبد الحميد الصالح