سيروف (فالنتين ـ)
(1865 ـ 1911)
فالنتين سيروف Valentin Serov مصور روسي تبوأ مكانة مرموقة في تاريخ الفن الروسي، ويعد بجدارة أحد ألمع ممثلي المدرسة الواقعية الديمقراطية الروسية في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، كما ينظر إليه متابعاً جريئاً ومجدداً لمنهج الفن الواقعي، ولتلك التقاليد الغنية التي أتى بها التجمع الفني الشهير (الجوالون).
ترعرع فالنتين سيروف في كنف عائلة كريمة، فوالده ألكسندر كان موسيقياً معروفاً لـه العديد من المؤلفات الموسيقية، أما والدته فكانت عازفة بيانو معروفة أيضاً، عملت في مجال ترويج الثقافة الموسيقية، فنشأ الفنان في وسط ثقافي حيث كان منزلهم محطاً لزيارة كبار الأدباء والفنانين، كما عرف عن عائلته انتماؤها إلى ذلك الرعيل من المثقفين الروس الذين حملوا لواء التنوير ودافعوا عن الحرية ومثلها العليا، الأمر الذي أسهم، إلى حد كبير، في بلورة وعيه وتكونه الفكري و الفني.
لاحظ الفنان الشهير، إيليا ريبين Ilia Répine، أيام تردده إلى دار العائلة في بطرسبورغ، موهبة الطفل ونبوغه، فشمله برعايته، وضمه حين بلغ التاسعة إلى مرسمه، فحظي فالنتين منذ نعومة أظفاره بتأهيل مهني راقٍ، وأخذ عن معلمه أصول الفن الواقعي وشهد ولادة العديد من أعمال أستاذه، فانكب على الدراسة بدأب وشغف كبيرين مما سمح له وهو فتى بتنفيذ دراسة لشخصية الأحدب الذي يتصدر لوحة ريبين الشهيرة «مسيرة الصليب».
انتسب سيروف عام 1880 إلى أكاديمية الفنون ببطرسبورغ، ودرس مدة خمس سنوات في مرسم تجيستيكوفTchistikov المعروف بتمسكه بقواعد الواقعية على نحو صارم، فاكتسب الفنان المهارة في الرسم الأكاديمي، مما أغنى وسائله التعبيرية، فتضافر بذلك الرسم المتين مع الحس اللوني المرهف لتكتمل لغته ومفرداته الفنية وتصبح لاحقاً طيّعة وسلسة.
وتجدر الإشارة إلى أهمية الفائدة التي حصل عليها، نتيجة تردده المستمر إلى منتجع أبرامتسفو Abramtsvo الواقع في ضواحي موسكو والذي كان ملتقى لكبار الفنانين، ففي هذا المكان تحديداً نفذ وهو في ريعان الشباب عملين متميزين جلبا لـه الشهرة الواسعة وهما «فتاة مع ثمار الدراق» 1877 (متحف تريتياكوف The Tretyakov Gallery بموسكو)، و«فتاة تحت ضوء الشمس» 1888 (متحف تريتياكوف بموسكو). ويبدو للوهلة الأولى أن هذين العملين بسيطان، حيث جلست الفتاة الأولى خلف طاولة تغطيها ملاءة بيضاء انتثرت عليها دراقات عدة، و يغمر المكان أنوار يوم صيفي حار ينساب من نافذة خلفية، في حين أسندت الأخرى ظهرها إلى جذع شجرة زيزفون، وراحت تستمتع بضياء الشمس يتسلل عبر أوراق الشجر، وقد انعكست على صدرها الأبيض مجموعة وافرة من الألوان، استبعدت منها الألوان البنية الثقيلة واعتمدت على درجات لونية شفافة في تجسيم الشكل.
يتضح في هاتين اللوحتين أسلوب سيروف جلياً في ألوانه النقية النضرة المشرقة ورسمه المتقن، فهو يجمع بين المحافظة على نضارة الإحساس المباشر ودفئه من جانب، وتمثل الأشكال دونما تكلف من جانب آخر، كما يبدو جلياَ سعي الفنان إلى تلمس الخيوط العديدة التي تخلق وشائج حميمة بين الإنسان والجوار وذلك بفضل الضوء والهواء اللذين يلفان الحيز الفراغي.
ينبض هذان العملان بترنيمة عذبة من ألق الصبا، ويتسمان بلفحة شاعرية غنائيةlyrical، فسوية الأداء إضافة إلى الإنجاز والتعميم الفنيين، دفعت الباتوف M.Albatovإلى القول: إن المعايير الكامنة في هذين العملين ترتقي بالصورة الشخصية portraitإلى مرتبة اللوحة كجنس فني «genre».
تتسم تجربة سيروف الإبداعية بالغنى والتعدد الكبيرين، فقد شملت الموضوعات التاريخية، مثل «بطرس الأول» 1907 (متحف تريتياكوف بموسكو) تميزت بنزعتها النصبية، والموضوعات البيئية المعيشة، والمناظر الطبيعية، والرسومات الإيضاحية لمؤلفات أدبية وشعرية مثل (ديوان ليرمونتوف Lermontov) وتكوينات نصبية تزينية. كما عمل في مجال المسرح فصمم ديكورات لعروض أوبرالية من تأليف والده، إضافة إلى عمله في مجال الحفر وتقاناته المختلفة.
إلا أن الصور الشخصية تبقى الجانب الأبرز، فقد نفذ سلسلة كثيرة العدد تصور معاصريه من مختلف الشرائح الاجتماعية، ولاسيما رجالات الثقافة والفنون، فشكل له هذا هاجساً فنياً، ولعل السبب يعود إلى نشأته، فحاول في أعمال مثل «مكسيم غوركي» Gorky 1904 (متحف غوركي)، والمغني «شاليابين» Chaliapin ت(1905)(متحف تريتياكوف بموسكو)، والممثلة «ماريا يرمولوفا» M.Yermolova ت(1905)(متحف تريتياكوف بموسكو) رصد الطاقة الروحية الخلاقة.
ينتمي الفنان إلى مصوري الصور الشخصية ذات الأبعاد النفسية، إذ عمل على الغور إلى أعماق شخصياته محاولاً الكشف عن عوالمها الداخلية، فتبدت عموماً في إهاب إنساني تغمرها مشاعر العزة والكرامة، لما تحمله من مثل نبيلة، فكانت أعماله بحق أناشيد رقيقة تتغنى بكل ما هو بهي ومشرق تمجيداً للحياة وانحيازاً إلى الإنسان ونبله.
انضم سيروف إلى التجمعات الفنية (الجوّالين)، ثم إلى (عالم الفن). ونتيجة للتطورات السياسية في مطلع القرن العشرين أضحت أعماله أكثر تعقيداً، فتنوعت أساليبه، إلا أنه ظل مخلصاً لقوله: «ما يعوز زماننا هو الفرح الغامر».
فيروز هزي
(1865 ـ 1911)
فالنتين سيروف Valentin Serov مصور روسي تبوأ مكانة مرموقة في تاريخ الفن الروسي، ويعد بجدارة أحد ألمع ممثلي المدرسة الواقعية الديمقراطية الروسية في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، كما ينظر إليه متابعاً جريئاً ومجدداً لمنهج الفن الواقعي، ولتلك التقاليد الغنية التي أتى بها التجمع الفني الشهير (الجوالون).
ترعرع فالنتين سيروف في كنف عائلة كريمة، فوالده ألكسندر كان موسيقياً معروفاً لـه العديد من المؤلفات الموسيقية، أما والدته فكانت عازفة بيانو معروفة أيضاً، عملت في مجال ترويج الثقافة الموسيقية، فنشأ الفنان في وسط ثقافي حيث كان منزلهم محطاً لزيارة كبار الأدباء والفنانين، كما عرف عن عائلته انتماؤها إلى ذلك الرعيل من المثقفين الروس الذين حملوا لواء التنوير ودافعوا عن الحرية ومثلها العليا، الأمر الذي أسهم، إلى حد كبير، في بلورة وعيه وتكونه الفكري و الفني.
فالنتين سيروف "امرأة على عربة" (1896) |
انتسب سيروف عام 1880 إلى أكاديمية الفنون ببطرسبورغ، ودرس مدة خمس سنوات في مرسم تجيستيكوفTchistikov المعروف بتمسكه بقواعد الواقعية على نحو صارم، فاكتسب الفنان المهارة في الرسم الأكاديمي، مما أغنى وسائله التعبيرية، فتضافر بذلك الرسم المتين مع الحس اللوني المرهف لتكتمل لغته ومفرداته الفنية وتصبح لاحقاً طيّعة وسلسة.
وتجدر الإشارة إلى أهمية الفائدة التي حصل عليها، نتيجة تردده المستمر إلى منتجع أبرامتسفو Abramtsvo الواقع في ضواحي موسكو والذي كان ملتقى لكبار الفنانين، ففي هذا المكان تحديداً نفذ وهو في ريعان الشباب عملين متميزين جلبا لـه الشهرة الواسعة وهما «فتاة مع ثمار الدراق» 1877 (متحف تريتياكوف The Tretyakov Gallery بموسكو)، و«فتاة تحت ضوء الشمس» 1888 (متحف تريتياكوف بموسكو). ويبدو للوهلة الأولى أن هذين العملين بسيطان، حيث جلست الفتاة الأولى خلف طاولة تغطيها ملاءة بيضاء انتثرت عليها دراقات عدة، و يغمر المكان أنوار يوم صيفي حار ينساب من نافذة خلفية، في حين أسندت الأخرى ظهرها إلى جذع شجرة زيزفون، وراحت تستمتع بضياء الشمس يتسلل عبر أوراق الشجر، وقد انعكست على صدرها الأبيض مجموعة وافرة من الألوان، استبعدت منها الألوان البنية الثقيلة واعتمدت على درجات لونية شفافة في تجسيم الشكل.
يتضح في هاتين اللوحتين أسلوب سيروف جلياً في ألوانه النقية النضرة المشرقة ورسمه المتقن، فهو يجمع بين المحافظة على نضارة الإحساس المباشر ودفئه من جانب، وتمثل الأشكال دونما تكلف من جانب آخر، كما يبدو جلياَ سعي الفنان إلى تلمس الخيوط العديدة التي تخلق وشائج حميمة بين الإنسان والجوار وذلك بفضل الضوء والهواء اللذين يلفان الحيز الفراغي.
ينبض هذان العملان بترنيمة عذبة من ألق الصبا، ويتسمان بلفحة شاعرية غنائيةlyrical، فسوية الأداء إضافة إلى الإنجاز والتعميم الفنيين، دفعت الباتوف M.Albatovإلى القول: إن المعايير الكامنة في هذين العملين ترتقي بالصورة الشخصية portraitإلى مرتبة اللوحة كجنس فني «genre».
فالنتين سيروف "بطـرس الثانـي والقيصرة إليزابيث فـي رحلة صيد" (1900) |
إلا أن الصور الشخصية تبقى الجانب الأبرز، فقد نفذ سلسلة كثيرة العدد تصور معاصريه من مختلف الشرائح الاجتماعية، ولاسيما رجالات الثقافة والفنون، فشكل له هذا هاجساً فنياً، ولعل السبب يعود إلى نشأته، فحاول في أعمال مثل «مكسيم غوركي» Gorky 1904 (متحف غوركي)، والمغني «شاليابين» Chaliapin ت(1905)(متحف تريتياكوف بموسكو)، والممثلة «ماريا يرمولوفا» M.Yermolova ت(1905)(متحف تريتياكوف بموسكو) رصد الطاقة الروحية الخلاقة.
ينتمي الفنان إلى مصوري الصور الشخصية ذات الأبعاد النفسية، إذ عمل على الغور إلى أعماق شخصياته محاولاً الكشف عن عوالمها الداخلية، فتبدت عموماً في إهاب إنساني تغمرها مشاعر العزة والكرامة، لما تحمله من مثل نبيلة، فكانت أعماله بحق أناشيد رقيقة تتغنى بكل ما هو بهي ومشرق تمجيداً للحياة وانحيازاً إلى الإنسان ونبله.
انضم سيروف إلى التجمعات الفنية (الجوّالين)، ثم إلى (عالم الفن). ونتيجة للتطورات السياسية في مطلع القرن العشرين أضحت أعماله أكثر تعقيداً، فتنوعت أساليبه، إلا أنه ظل مخلصاً لقوله: «ما يعوز زماننا هو الفرح الغامر».
فيروز هزي