السيرة والسيرة الذاتية
السيرة biography والسيرة الذاتيةautobiography من الأجناس الأدبية الموغلة في القدم يحاول الكاتب فيها إحياء سيرة شخص ما استقاء من المراجع والدلائل المتوافرة، مكتوبة كانت أم شفهية أم مصورة، أم اعتماداً على الذاكرة. وقد كتب العديد من كتاب السيرة في السيرة الذاتية أيضاً حين تناولوا حياتهم الخاصة ونشأتهم وما مروا به من تجارب.
يمكن عَدّ الكتابات الهيروغليفية في القصور والمدافن والمعابد المصرية القديمة أقدم أشكال السيرة، وعلى أساسها أمكن تحديد زمن حكم سلالات الفراعنة المتعاقبة. كذلك فإن النقوش والكتابات المنحوتة في الصخور المطلة على نهر الكلب شمال بيروت تعدّ سجلاً لسيرة بعض الغزاة، من رعمسيس الثاني ونصره المزعوم على الحثيين في معركة قادش نحو عام 1296ق.م إلى أسرحدون وكاركلاّ والجنرال غورو، بحيث صار هذا المعبر المدخل التاريخي إلى عمق سورية.
أدى الكتَّاب والفلاسفة الإغريق الدور الأساس في تطوير المفهوم المعروف للسيرة؛ من كتاب «البلاغة» لأرسطو و«الطبائع» لثيوفراستوس اللذين كان لهما أثر كبير على كتّاب السيرة اللاحقين، وكذلك «تاريخ» هيرودوتس و«حوارات» أفلاطون و«ما يستحق الذكر» Memorabilia لزينوفون التي تضمنت صوراً واضحة المعالم لشخصيات عدة، وقدمت وصفاً حياً لسيرة سقراط.
وكان للكتاب الصينيين أثر بارز في تطوير السيرة القصيرة، أو ما يمكن تسميته الصور القلمية للشخصيات character sketches. فقد كتب صومَه كيان Ssu-ma Ch’ien ت(145ـ 85ق.م) «سجلات تاريخية» Shih-chi، وأخذ عنه بان كون Pan Kun ت(32ـ92م) هذا الأسلوب في «تاريخ سلالة هان» Han shu. ومع صعود نجم روما انتقل مركز الثقل إليها، ومع ذلك أدى بلوتارخُس الإغريقي الدور الأهم في تطوير كتابة السيرة ويُعد الأب الروحي لها، إذ كتب «السير المتوازية»، واقتفى أثره اللاتينيان سويتونيوس Suetonius، في كتابه «سيَر القياصرة» Lives of the Caesars وتاكيتوس في «سيرة أغريكولا» Agricola.
أما في العصور الوسطى فقد أخذت حياة القديسيين حيزاً كبيراً في كتابات السيرة بدلاً من حياة الملوك والحكام والرجال العظام. ثم كتب بوكاتشو Boccaccioفي القرن الرابع عشر «سقوط المشاهير من الرجال» De casibus virorum illustriumو«سيرة دانتي»، وكتب جورجيو فاساريGiorgio Vasari «سيَر أبرز المصورين والنحاتين والمعماريين الإيطاليين» Lives of the Most Eminent Italian Painters, Sculptors, and Architects ت(1550).
وفي القرون التي تلت عصر النهضة تعددت أساليب كتابة السيرة، فكتب بيير بيل Pierre Bayle «المعجم التاريخي والنقدي» Dictionnaire historique et critiqueت(1695ـ 1697)، وصموئيل جونسون «سيَر الشعراء الإنكليز» Lives of the English Poetsت(1779ـ1781) بإلهام من أسلوب سويتونيوس. ثم كتب جيمس بوزويلJames Boswell «سيرة صموئيل جونسون»Life of Samuel Johnson LL.D. ت(1791) التي تُعد من أبلغ ما كتب في السيرة باللغة الإنكليزية. وكتب جيمس فرود James Froude سيرة توماس كارلايل Thomas Carlyleفي عام 1882 و1884، أما سـيغموند فـرويـد فقد كتب «ليوناردو دافنشـي»Leonardo da Vinci ت(1910) وقدم فيه صورة تحليلية نفسية للفنان الكبير، كما فعل إريك إريكسون Eric Erikson في تحليـله مـارتن لوثر في «لوثـر الشـاب»Young Man Luther ت(1958). وبأسلوب مغاير تماماً كتب لِتن ستراتشي Lytton Strachey «كبار الفكتوريين» Eminent Victorians ت(1918) مستخدماً القدح والذم والهجاء، وكتب إميل لودفيغ E.Ludwig «غوته» Goethe ت(1918) بأسلوب درامي، وأندريه موروا André Maurois «شِلي» Shelley و«بايرون» Byronبأسلوب مبدع ملهم.
تطورت كتابة السيرة في النصف الثاني من القرن العشرين فأخذت بعداً أدبياً ونقدياً وسياسياً وأخلاقياً، فكتب رتشارد إلمانRichard Ellman «جيمس جويس» James Joyce ت(1959)، وجان بول سارتر Jean-Paul Sartre «بودلير» Beaudelaire و«مالارميه»Mallarmé، وعن فلوبير Flaubert في «معتوه العائلة» L’Idiot de la famille ت(1971)، وأيضاً عن جان جينيه Jean Genet. وكتب وليم مانشستر William Manchester «موت رئيس»Death of a President ت(1976) عن الرئيس كنيدي واغتياله، وديردرِه بير Deirdre Bair«صموئيل بكيت: سيرة حياة» Samuel Beckett: A Biography ت(1978)، وديفيد غاروDavid Garrow «حمْل الصليب» Bearing the Cross ت(1986) عن مارتن لوثر كنغ. وأعطيت السيرة الصفة المتخيلة أحياناً، كما فعل إرفنغ ستون Irving Stone الذي كتب في «الألم والنشوة» The Agony and the Ecstasyعن ميكلانجلو، وصفة الخيال الذي يأخذ شكل السيرة أحياناً أخرى، كما في كتب روبرت غريفز Robert Graves عن الامبراطور كلوديوس، وفي كتاب مرغريت يورسِنارMarguerite Yourcenar «مذكرات هادريان»Memoirs of Hadrian عن الامبراطور أدريانوس.
أما السيرة الذاتية، التي تشمل أيضاً الرسائل واليوميات والمذكرات، فالأمثلة عليها قليلة في التاريخ القديم، ويمكن عد «تأملات» Meditations الامبراطور والفيلسوف ماركوس أوريليوس Marcus Aurelius و«تعليقات» Commentaries يوليوس قيصر أقرب ما تكون إليها. كذلك نمّت «سجلات» الصيني كيان و«رسائل» شيشرون والقديس بولص الرسول و«اعترافات» القديس أوغسطين الكثير على شخصيات كتابها. إلا أن المثال الأوضح على السيرة الذاتية فهو مؤلف بيير أبيلار Pierre Abélard «قصة سوء طالعي» Historia calamitatum، من بداية القرن الثاني عشر، ويحكي فيه قصته المأساوية مع حبيبته إلويز Héloïse. وقد مثلت كتابات الفيزيائي والمنجم جيرونيمو كاردانو Geronimo Cardano والنحات بنفنوتو سلّيني Benvenuto Cellini، وفرانشيسكو بتراركا في «رسائل إلى الأجيال القادمة» Litera ad postero (نحو 1367) أفضل ما كتب في هذا الجنس في عصر النهضة. وفي عصر التنويـر وما تلاه تمثلت السـيرة الذاتية في «الاعترافات» Les Confessions ت(1781ـ1788) لجان جاك روسو، و«السيرة الذاتية» لكل من بنجامين فرانكلن (1766) وإدوارد غيبون (1796) وجون ستيوارت مِل (1873)، وفي رواية «بيت الموتى» لدستويفسكي، وفي «تربية هنري آدامز» و«يوميات» جيمس بوزويل التي لم تنشر إلا في القرن العشرين، وكذلك في «يوميات» أندريه جيد. كذلك ضمّت «رحلة حج هارولد الشاب» لبايرون و«أنا كلوديوس» لروبرت غريفز و«صورة الفنان في شبابه» لجويس، و«البيوريتاني الأخير» لسانتيانا و«خارج المكان» لإدوارد سعيد، وروايات فرجينيا وولف وتوماس وولف، على سبيل المثال لا الحصر، الكثير من ملامح مؤلفيها.
عرف العرب السيرة والتراجم منذ القدم. ومع ظهور الإسلام أخذت سيرة الرسولr صبغة تثقيفية أخلاقية، إذ سجلت السيرة النبوية دقائق حياته وأفعاله وأقواله، فثبتت السنّة وهي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي. ومع أن المسلمين أخذوا النظرة الجاهلية إلى التاريخ، القائمة على «أيام» العرب في شؤون القتال والحرب، فقد طوروا هذه النظرة لتنسجم مع مبادئ الدين الحنيف في تنظيم المجتمع، الذي قام في بداياته على الفتح، ومع السيرة النبوية لإرساء القواعد اللازمة لذلك؛ من معاملة للأسرى والحصار والممنوع والمباح في الفتح، وأدى في النهاية إلى سيادة الإسلام. وتعد سيرة ابن إسحاق وكتاب «الطبقات» لابن سعد لوناً جديداً في الكتابة ومصدراً أساسياً لفهم حياة الرسولr. أخذت بعد ذلك الصفة التاريخية تتضاءل في وجه الهدف الوعظي والإرشادي في كتابة السيرة النبوية، وأيضاً في السير التي كتبت عن حياة عمر بن عبد العزيز وخاصة تلك التي كتبها بقيّ بن مخلد وابن الجوزي، إلا أن السيرة التاريخية ظلت أقوى أنواع السيرة عند المسلمين حتى العصر الحديث.
اتجهت السيرة عند العرب، أحياناً، إلى مدح بطل أسطوري، مثل عنترة والزير سالم وذات الهمة، أو إلى قدح للشخصية المتداولة، كما فعل أبو حيان التوحيدي في «مثالب الوزيرين»، إذ تخلى الكاتب عن الموضوعية المطلوبة في كتابة السيرة ليعبر عن حقده ونقمته على شخصياته. وتعد كتابة الطبقات والتراجم الأكثر شيوعاً؛ إذ إن هناك معاجم لكل علم من أدب وحديث وتصوف، ولكل مذهب من شافعي وحنفي ومالكي، ولكل بلد من بغداد للخطيب ودمشق لابن عساكر وأصفهان لابن نعيم. وهناك أيضاً الكتب المتسلسلة، التي يذيل بها التالي على عمل متقدمه، وسلسلة علماء الأندلس من مثل كتاب «المغرب»، الذي توارثت العمل عليه عائلة بني سعيد، وهو ترجمة لرجال الأندلس. أما في العصر الحديث فقد كتب ميخائيل نعيمة «جبران خليل جبران»، وطاهر محمد الطناجي «حياة مطران»، والعريان «حياة الرافعي» والعقاد «العبقريات»، وهي تفسير أكثر من كونها سيرة.
أما في السيرة الذاتية فقد كتب الغزالي «المنقذ من الضلال» عن الأزمة الروحية التي تعرض لها والشك الذي راوده، كما يحمل «طوق الحمامة» لابن حزم صفة الاعترافات. كذلك توجد بعض من صفات السيرة الذاتية في القليل من حكايات الجاحظ وفي بعض حكايات الرحّالة كابن جبير. ولسيرة ابن سينا صفة إخبارية، أما الهدف من تحدث ابن خلدون عن سيرته فهو التفسير والتبرير لبعض مواقفه. ويتضمن كتاب «الاعتبار» لأسامة بن منقذ دراسات لطبائع بعض المسلمين والصليبيين وتواصله معهم. وفي العصر الحديث كتب طه حسين «الأيام»، وإبراهيم عبد القادر المازني «إبراهيم الكاتب» وعباس محمود العقاد «أنا»، وأحمد أمين «حياتي»، وميخائيل نعيمة «سبعون».
خليل موسى، طارق علوش
السيرة biography والسيرة الذاتيةautobiography من الأجناس الأدبية الموغلة في القدم يحاول الكاتب فيها إحياء سيرة شخص ما استقاء من المراجع والدلائل المتوافرة، مكتوبة كانت أم شفهية أم مصورة، أم اعتماداً على الذاكرة. وقد كتب العديد من كتاب السيرة في السيرة الذاتية أيضاً حين تناولوا حياتهم الخاصة ونشأتهم وما مروا به من تجارب.
يمكن عَدّ الكتابات الهيروغليفية في القصور والمدافن والمعابد المصرية القديمة أقدم أشكال السيرة، وعلى أساسها أمكن تحديد زمن حكم سلالات الفراعنة المتعاقبة. كذلك فإن النقوش والكتابات المنحوتة في الصخور المطلة على نهر الكلب شمال بيروت تعدّ سجلاً لسيرة بعض الغزاة، من رعمسيس الثاني ونصره المزعوم على الحثيين في معركة قادش نحو عام 1296ق.م إلى أسرحدون وكاركلاّ والجنرال غورو، بحيث صار هذا المعبر المدخل التاريخي إلى عمق سورية.
أدى الكتَّاب والفلاسفة الإغريق الدور الأساس في تطوير المفهوم المعروف للسيرة؛ من كتاب «البلاغة» لأرسطو و«الطبائع» لثيوفراستوس اللذين كان لهما أثر كبير على كتّاب السيرة اللاحقين، وكذلك «تاريخ» هيرودوتس و«حوارات» أفلاطون و«ما يستحق الذكر» Memorabilia لزينوفون التي تضمنت صوراً واضحة المعالم لشخصيات عدة، وقدمت وصفاً حياً لسيرة سقراط.
وكان للكتاب الصينيين أثر بارز في تطوير السيرة القصيرة، أو ما يمكن تسميته الصور القلمية للشخصيات character sketches. فقد كتب صومَه كيان Ssu-ma Ch’ien ت(145ـ 85ق.م) «سجلات تاريخية» Shih-chi، وأخذ عنه بان كون Pan Kun ت(32ـ92م) هذا الأسلوب في «تاريخ سلالة هان» Han shu. ومع صعود نجم روما انتقل مركز الثقل إليها، ومع ذلك أدى بلوتارخُس الإغريقي الدور الأهم في تطوير كتابة السيرة ويُعد الأب الروحي لها، إذ كتب «السير المتوازية»، واقتفى أثره اللاتينيان سويتونيوس Suetonius، في كتابه «سيَر القياصرة» Lives of the Caesars وتاكيتوس في «سيرة أغريكولا» Agricola.
أما في العصور الوسطى فقد أخذت حياة القديسيين حيزاً كبيراً في كتابات السيرة بدلاً من حياة الملوك والحكام والرجال العظام. ثم كتب بوكاتشو Boccaccioفي القرن الرابع عشر «سقوط المشاهير من الرجال» De casibus virorum illustriumو«سيرة دانتي»، وكتب جورجيو فاساريGiorgio Vasari «سيَر أبرز المصورين والنحاتين والمعماريين الإيطاليين» Lives of the Most Eminent Italian Painters, Sculptors, and Architects ت(1550).
وفي القرون التي تلت عصر النهضة تعددت أساليب كتابة السيرة، فكتب بيير بيل Pierre Bayle «المعجم التاريخي والنقدي» Dictionnaire historique et critiqueت(1695ـ 1697)، وصموئيل جونسون «سيَر الشعراء الإنكليز» Lives of the English Poetsت(1779ـ1781) بإلهام من أسلوب سويتونيوس. ثم كتب جيمس بوزويلJames Boswell «سيرة صموئيل جونسون»Life of Samuel Johnson LL.D. ت(1791) التي تُعد من أبلغ ما كتب في السيرة باللغة الإنكليزية. وكتب جيمس فرود James Froude سيرة توماس كارلايل Thomas Carlyleفي عام 1882 و1884، أما سـيغموند فـرويـد فقد كتب «ليوناردو دافنشـي»Leonardo da Vinci ت(1910) وقدم فيه صورة تحليلية نفسية للفنان الكبير، كما فعل إريك إريكسون Eric Erikson في تحليـله مـارتن لوثر في «لوثـر الشـاب»Young Man Luther ت(1958). وبأسلوب مغاير تماماً كتب لِتن ستراتشي Lytton Strachey «كبار الفكتوريين» Eminent Victorians ت(1918) مستخدماً القدح والذم والهجاء، وكتب إميل لودفيغ E.Ludwig «غوته» Goethe ت(1918) بأسلوب درامي، وأندريه موروا André Maurois «شِلي» Shelley و«بايرون» Byronبأسلوب مبدع ملهم.
تطورت كتابة السيرة في النصف الثاني من القرن العشرين فأخذت بعداً أدبياً ونقدياً وسياسياً وأخلاقياً، فكتب رتشارد إلمانRichard Ellman «جيمس جويس» James Joyce ت(1959)، وجان بول سارتر Jean-Paul Sartre «بودلير» Beaudelaire و«مالارميه»Mallarmé، وعن فلوبير Flaubert في «معتوه العائلة» L’Idiot de la famille ت(1971)، وأيضاً عن جان جينيه Jean Genet. وكتب وليم مانشستر William Manchester «موت رئيس»Death of a President ت(1976) عن الرئيس كنيدي واغتياله، وديردرِه بير Deirdre Bair«صموئيل بكيت: سيرة حياة» Samuel Beckett: A Biography ت(1978)، وديفيد غاروDavid Garrow «حمْل الصليب» Bearing the Cross ت(1986) عن مارتن لوثر كنغ. وأعطيت السيرة الصفة المتخيلة أحياناً، كما فعل إرفنغ ستون Irving Stone الذي كتب في «الألم والنشوة» The Agony and the Ecstasyعن ميكلانجلو، وصفة الخيال الذي يأخذ شكل السيرة أحياناً أخرى، كما في كتب روبرت غريفز Robert Graves عن الامبراطور كلوديوس، وفي كتاب مرغريت يورسِنارMarguerite Yourcenar «مذكرات هادريان»Memoirs of Hadrian عن الامبراطور أدريانوس.
أما السيرة الذاتية، التي تشمل أيضاً الرسائل واليوميات والمذكرات، فالأمثلة عليها قليلة في التاريخ القديم، ويمكن عد «تأملات» Meditations الامبراطور والفيلسوف ماركوس أوريليوس Marcus Aurelius و«تعليقات» Commentaries يوليوس قيصر أقرب ما تكون إليها. كذلك نمّت «سجلات» الصيني كيان و«رسائل» شيشرون والقديس بولص الرسول و«اعترافات» القديس أوغسطين الكثير على شخصيات كتابها. إلا أن المثال الأوضح على السيرة الذاتية فهو مؤلف بيير أبيلار Pierre Abélard «قصة سوء طالعي» Historia calamitatum، من بداية القرن الثاني عشر، ويحكي فيه قصته المأساوية مع حبيبته إلويز Héloïse. وقد مثلت كتابات الفيزيائي والمنجم جيرونيمو كاردانو Geronimo Cardano والنحات بنفنوتو سلّيني Benvenuto Cellini، وفرانشيسكو بتراركا في «رسائل إلى الأجيال القادمة» Litera ad postero (نحو 1367) أفضل ما كتب في هذا الجنس في عصر النهضة. وفي عصر التنويـر وما تلاه تمثلت السـيرة الذاتية في «الاعترافات» Les Confessions ت(1781ـ1788) لجان جاك روسو، و«السيرة الذاتية» لكل من بنجامين فرانكلن (1766) وإدوارد غيبون (1796) وجون ستيوارت مِل (1873)، وفي رواية «بيت الموتى» لدستويفسكي، وفي «تربية هنري آدامز» و«يوميات» جيمس بوزويل التي لم تنشر إلا في القرن العشرين، وكذلك في «يوميات» أندريه جيد. كذلك ضمّت «رحلة حج هارولد الشاب» لبايرون و«أنا كلوديوس» لروبرت غريفز و«صورة الفنان في شبابه» لجويس، و«البيوريتاني الأخير» لسانتيانا و«خارج المكان» لإدوارد سعيد، وروايات فرجينيا وولف وتوماس وولف، على سبيل المثال لا الحصر، الكثير من ملامح مؤلفيها.
عرف العرب السيرة والتراجم منذ القدم. ومع ظهور الإسلام أخذت سيرة الرسولr صبغة تثقيفية أخلاقية، إذ سجلت السيرة النبوية دقائق حياته وأفعاله وأقواله، فثبتت السنّة وهي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي. ومع أن المسلمين أخذوا النظرة الجاهلية إلى التاريخ، القائمة على «أيام» العرب في شؤون القتال والحرب، فقد طوروا هذه النظرة لتنسجم مع مبادئ الدين الحنيف في تنظيم المجتمع، الذي قام في بداياته على الفتح، ومع السيرة النبوية لإرساء القواعد اللازمة لذلك؛ من معاملة للأسرى والحصار والممنوع والمباح في الفتح، وأدى في النهاية إلى سيادة الإسلام. وتعد سيرة ابن إسحاق وكتاب «الطبقات» لابن سعد لوناً جديداً في الكتابة ومصدراً أساسياً لفهم حياة الرسولr. أخذت بعد ذلك الصفة التاريخية تتضاءل في وجه الهدف الوعظي والإرشادي في كتابة السيرة النبوية، وأيضاً في السير التي كتبت عن حياة عمر بن عبد العزيز وخاصة تلك التي كتبها بقيّ بن مخلد وابن الجوزي، إلا أن السيرة التاريخية ظلت أقوى أنواع السيرة عند المسلمين حتى العصر الحديث.
اتجهت السيرة عند العرب، أحياناً، إلى مدح بطل أسطوري، مثل عنترة والزير سالم وذات الهمة، أو إلى قدح للشخصية المتداولة، كما فعل أبو حيان التوحيدي في «مثالب الوزيرين»، إذ تخلى الكاتب عن الموضوعية المطلوبة في كتابة السيرة ليعبر عن حقده ونقمته على شخصياته. وتعد كتابة الطبقات والتراجم الأكثر شيوعاً؛ إذ إن هناك معاجم لكل علم من أدب وحديث وتصوف، ولكل مذهب من شافعي وحنفي ومالكي، ولكل بلد من بغداد للخطيب ودمشق لابن عساكر وأصفهان لابن نعيم. وهناك أيضاً الكتب المتسلسلة، التي يذيل بها التالي على عمل متقدمه، وسلسلة علماء الأندلس من مثل كتاب «المغرب»، الذي توارثت العمل عليه عائلة بني سعيد، وهو ترجمة لرجال الأندلس. أما في العصر الحديث فقد كتب ميخائيل نعيمة «جبران خليل جبران»، وطاهر محمد الطناجي «حياة مطران»، والعريان «حياة الرافعي» والعقاد «العبقريات»، وهي تفسير أكثر من كونها سيرة.
أما في السيرة الذاتية فقد كتب الغزالي «المنقذ من الضلال» عن الأزمة الروحية التي تعرض لها والشك الذي راوده، كما يحمل «طوق الحمامة» لابن حزم صفة الاعترافات. كذلك توجد بعض من صفات السيرة الذاتية في القليل من حكايات الجاحظ وفي بعض حكايات الرحّالة كابن جبير. ولسيرة ابن سينا صفة إخبارية، أما الهدف من تحدث ابن خلدون عن سيرته فهو التفسير والتبرير لبعض مواقفه. ويتضمن كتاب «الاعتبار» لأسامة بن منقذ دراسات لطبائع بعض المسلمين والصليبيين وتواصله معهم. وفي العصر الحديث كتب طه حسين «الأيام»، وإبراهيم عبد القادر المازني «إبراهيم الكاتب» وعباس محمود العقاد «أنا»، وأحمد أمين «حياتي»، وميخائيل نعيمة «سبعون».
خليل موسى، طارق علوش