- يأسٌ مضيء .. حزنٌ مقيم
محمد السلمان
ذلك اليوم الذي ضاع في زحمة مواكب الأيام والسنين، حسب فحوى عبارة وردت في إحدى قصص (بورخيس) ذلك اليوم المضيء الذي ربما يشبه الجوهر أو الحلم، وله ملمس الغياب والذكرى، يشبه اليأس المضيء والعدَم المشعَّ بالحقيقة…
ذلك اليومُ الذي ضاع وسط تدافُع أمواج الشهور والعقود الصَّاعق. ربما لو التقينا به ذات صباح، ذات دهر، لأنقذنا من رتابة هذه الأزمنة والأيام.
لو وجدناه، لو صادفناه ولو كبرقٍ يخترقُ حُجُب الرّتابة بإيقاعها الجنائزي، لو نعثر عليه صدفةً وبدون مقدّمات ولا نتائج، ما خلف الواقع والجهل والمعرفة، لو راودنا ولو كحلمٍ نائمٍ على سفح جبل قاف، أو جبل من جبال عُمان في فصلها الشتويّ.
حركة طائرٍ خلف إفريز النافذة إيذانًا باقتراب طلوع الفجر وسط هجْعة الظلام المستبدّ بالفضاء والمكان، حيث لا نأمةَ ولا حركة، عدا مروحةِ السّقف تبدّد الهواءَ الرَّاكد في فضاء الغرفة الغاصّة بالكتب والأشباح.
السقفُ الذي يحدِّق فيه (المتوحِّد) عبر فجوات نومهِ المتقطع المُثخن بالأرق والهواجسِ وكأنّما في مرايا غابيّة، يرى ويتخيّل آفاقًا مأهولة بأشجارٍ باسقةٍ، وطيورٍ وأنهارٍ، ومدنٍ ومكتبات ومقاهٍ، ارتادها ذات زمن وما زال يراوده الحلم بالعودة إليها زيارةً أو عطلة إن لم تكن سُكنى وإقامة.
حركة الطائر اليومية في عراء النّافذة تؤذن بمقدم الفجر وارتفاع صوت المؤذن في المسجد المجاور، الذي يأتي سريعًا خاطفًا من غير ترجيعٍ لحنيٍّ أشبه بالتهدُّج الروحيّ المموسق مثلما في جوامع أخرى وبلدان أخرى. فسحة صلاة الفجر بدموع الخشية من غضب الله، حتى يتصاعد الضوء من جهة جبال (بوشر) الشرقيّة وتطل الشمس بهيئتها الأزليّة المهيبة تضيء كونًا يخرج من نومه إلى حركة العربات وصفير الجبال الممزوج بلمعان المعدن الذي يعشي العيون والأفئدة، ويربكها في الشوارع والأماكن والمؤسسات.
قرفُك واشمئزازك من تصاعد أحداث العالم الموغلة في الوحشيّة وانفجار الغرائز السوداء بأقصاها تعصبًا وتطرّفًا، على ساحات الدّماءِ المُراقةِ والعمران المدّمر، بما يتضمّنه من قيمٍ ومكاسبَ على جانبٍ من النُّبل الإنسانيّ والأخلاقي جهدت البشريّة عبر تاريخها في لملمة أشلائها من المذابح والمِحن والعِبر المريرة التي مرّت بها.
أو عبر السّجالات التي تتفجّر باستمرار وبوتائر متصاعدة، فيما أتاحه التطوّر التكنولوجي المُذهل الذي أنجزه (الآخر) كما درجت التّسمية في الثقافة العربية، سواء حول وقائع الراهن وصراعاته ومعطياته وعناصره الكثيرة، أو حين يتم استدعاء التاريخ بشخصيّاته الفاعلة، ورموزه ووقائعه على ضوء أحقاد الرّاهن وبموجبها تتمّ محاكمة ذلك الماضي الذي أضحى بعيدًا، يُسحب رغم أنفه إلى مستنقعات هذا الراهن ليُذكي ويغذِّي آلة التوحّش والانحطاط للمعارك العبثيّة التي لا تُبقي ولا تذر؛ إذ إنّ الجميع سيخرج منها – إن خرج – بخسائر وأحقاد جديدة تهيئ لقادمٍ ربما أكثر قتامة ووضاعة.
ولأنّ العنفَ بكل تموضعاته وتمظهراته، ليس قابلة حتما، لميلاد تاريخ جديد مشرّف في مثل هذا السياق؛ بل مدعاةٌ لتناسُل دوائر العنف وتناسُل المجزرة على نحوٍ شاملٍ من التّصفية والاجتثاث.
وحدهم تجّار الحروب والمخدّرات والنظم المافياوية التي تؤسس وتنمو وتتعاظم في مناخات الخراب وانحطاط القيم الروحية والمادية والقانونية، هم الرابحون الوحيدون من الجعجعة وهذا الحطام.
في مثل هذه المناخات والأوضاع التي ينسدُّ أو يكاد، فيها الأفق والنور والأمل الذي طالما تغنى به أدباء وفلاسفة متشائمون أو متفائلون وفق هذه الثنائية التي لا يجافيها التبسيط؛ إما أن تدفع (الفرد) إلى شحذ الطاقة الإبداعية، طاقة العقل والخيال والسلوك المفارق الذي ينأى بنفسه عن سلوك القطعان البشرية الهائجة بأعلامها وإعلامها، وهو ما يمكن أن يُدعى (باليأس المضيء) أو الوقوع في السلبيّ المُظلم الذي تنشلّ في ضوء استبدادِه طاقة الإبداع والفعل خاصّة حين تكون في أوساطٍ قاتمة، تُعادي المعرفة والسؤال والبحث، مستكينة إلى المستتبّ البليد القاطع مما تقذفه حِمم وسائل التواصل والإعلام الجماهيري كل يوم، لحظة وثانية، طوفان زيف وأكاذيب وادعاءات، بحيث إن اختراق هذا الطوفان بقبس من معرفة وضوء، سيضيع لا بد في هيجانه الجارف…
وحيث تنأى أزمنة الطفولة وأماكنها وتغرق في الجفاف والنسيان، كما ينأى الأصدقاء الذين تغيّبهم الأوبئة والمسافات والكمد إلى براري الأبديّة.
في معرض الكتاب بمسقط
المعرض كان مناسبة معرفيّة بشمولها واتساعها بهكذا سياق أو تؤسس لهما.
ومناسبة للقاء بعض الأصدقاء الذين وفدوا من أكثر من بلد وقارة لم نرهم منذ زمن بعيد.
ولضيق المدّة بجانب انشغالات أخرى، فاتني لقاء الكثير منهم؛ لكن القليل الذي أُتيحت فرصة اللقاء به كان دالًا وعميقًا:
الهواري الغزالي الذي جاء إلينا من فرنسا مقرّ إقامته وعمله الجامعي، صَحِبته في جولة بمسقط أولًا، وفي اليوم الثاني اقترح أن نذهب إلى عُمان الداخل الذي قرأ عن فرادة طبيعتها بأبعادها الجيولوجيّة والروحيّة، وكانت المنطقة الأقرب هي ولاية (سمائل)، وذهبنا إلى بلدة (سرور)، نزلنا في منطقة (تبينيات) على حافة الوادي حيث يقع منزل الوالد والوالدة -رحمهما الله- والعائلة بأفرادها الكثر الذين تفرّق بهم الشمل في العاصمة وغيرها، وأصبحت الديارُ خاليةً إلا في مناسبات متفرّقة، وذكرى أثيرة على القلوب لأولئك الذين رحلوا، تاركين المعالم والآثار هِبةً للذاكرة والروح العطشى..
وجدت هناك ابن أخي الأصغر إبراهيم بن يعقوب الذي اصطحبنا في جولةٍ وسط أرخبيل النخيل المستطيل نحو (علوى) وفق الدارجة العُمانية الذي لم أذهب باتجاهه منذ زمن بعيد. حيث كانت جولاتي المتفرقة ناحية (حدرى) حتى أصل إلى أقصى القرية من هذه الجهة التي يحدّها الوادي بأشجار الحلفاء والبردي والجبال.
أسلمتنا النزهة العلوية هذه المرة إلى مدرسة المعلم سعود الرمضاني، معلمنا في الطفولات السحيقة الآفلة.
وكان الهواري يتطلع إلى صفوف النخيل والأفلاج والسهوب بحيواتها السّاطعةِ الصّادحةِ في ضوء ظهيرةٍ ما زالت أنسامُها لطيفة وحنونة، وتلك اللامرئية في الأفلاج وضواحي النخيل والأشجار الأخرى، وإلى المساجد الصغيرة الحجم، الكبيرة المعنى والدلالة بمعمارها المتوارث عبر السلف والخلف.
مساجد زاهية متقشّفة لكنها مفْعَمة بالنور والروح المشعّ لأولئك الراحلين الذين بنوها بسواعدهم الصلبة، ورووها بصدق إيمانٍ وإخلاص فضيلةٍ لحقيقة غيبيّة مُتعالية ومُطلقة.
المدرسة التي أتذكّرها وبجوارها المسجد، كانت من غير جدران إسمنتيّة ولا طينيّة بين النخيل محدّدة بمعالم سعف النخيل، وقد تحوّلت إلى بناء إسمنتي.
لا أعرف إن كانت هكذا بقيت كمعلم للذكرى في البلدة العتيدة أم أن التلاميذ مازالوا يرتادونها في أوقات معيّنة خارج المدارس الرسميّة الحديثة.
كان الهواري يحدّق ويسأل ابن أخي إبراهيم، عن تفاصيل وأشياء مبعثرة تُثير غرابته وفضوله المعرفيّ الجماليّ، ويصور مشاهد ولقطات؛ حتى إنه توقّف أمام الأفلاج الثلاثة بأسمائها: (بوجدي) و(الأوسط) و(الحيلي). والأخير أكبر الأفلاج غزارة وتدفّقًا خاصّة في أيام الخصب والمطر.
ثم توقّف أمام ساقيةٍ صغيرةٍ مُتفرّعة من الفلج الرئيسِ بمياهها الضحلة تقريبًا، ولاحظَ أسرابًا من سمكٍ صغير بالغ الصِّغر يسبح وكأنما في مملكةٍ مائيّةٍ فسيحة. حدّق فيه طويلًا وكأنّما يرى ما لا يراه الآخرون، يرى السرّ الخبيء وراء هذه الكائنات الميكروسكوبية السّارحة في برية الغموض والغيب.
حين استفاق من غيابه التأمّلي، قلت له إنّ بعض هذه الأسماك كنّا نسميه (الصد) و(العنكر)، وكان هناك صنفٌ آخر أتذكره عبر هذه الحشود من الأزمنة والنأي يُسمّى (الصالحو) و(الفختل) يبدو أنه انقرض، أو أنه ما زال يأتي بأزمنة النعمة والخصب.
ثمّ تصاعد تدريجيًّا صداحُ طيورٍ مختبئة بين الأكمات بألحانٍ سماويِّة عذبة، حين سألني ما اسم هذا الطائر، قلت له (الصّفرد) وهو نوعٌ من طيور الدرّاج يسرح من غير أن يُرى إلا نادرًا بين الجبال الدّكناء والسُّفوح ولونه يُشبه تلك الطّبيعة الصخريّة وكأنّما وُلد من رحمها وغموضها الشفيف.
أما الصديقان عبده وازن ولوركا سبيتي الآتيان من لبنان الجريح، فلم تُتح الفرصة إلا لجولة قصيرة في مسقط العاصمة، نستبقُ الغروب من فندق كراون بلازا باتجاه بحر (مطرح) القديمة بأسواقها التقليدية ونوارسها المحلّقةِ فوق البواخر والقوارب وما تبقّى من تلك السفن التي صنعها العمانيُّون في الماضي ، لتشقّ بهم مدلهمَّ البحار والمحيطات، باتجاه أفريقيا والهند وفارس.
لاحظ عبده وازن الذي يزور عُمان لأول مرّةٍ فرادة العمران وسط الجبال الممتدة حتى أعماق البحر، حين أشار إلى نتوء جبليٍّ، هذا يشبه (صخرة الروشة) في بيروت. وكنت في كتابة سابقة وأنا أتحدث عن لبنان أتيت على صخرة الروشة، وقد تخيّلتها آنذاك جزءًا من جبلٍ بجهة من الجهات البحريّة في عُمان، ترحّل من مكانهِ الراسخ في رحلة سندبادية بعرض البحار وطولها، حتى أسلمته المشيئة إلى البحر المتوسط ببيروت، واستقرّ هناك شاهدًا على أحوال المدينة المتحوّلة دومًا، المُحتشدة بالأحداث والخطوب، وشاهدًا على عشّاقٍ قضوا انتحارا من ذروة الصخرة إلى فسيح بحر الحضارات والإرادات المُتصارعة بجيوشها الذّاهبة والقادمة …
قضوا من فرط الهُيام والعشق أو يأسًا واحتجاجًا، وربّما شغفًا بحُريّة لن ينالوها إلا بمعانقة المجهول والموت..
حدّق عبده وازن، وهو المتأمل العميق، صاحب الإنجاز الأدبيّ الشّاسع في الصخور والجبال المحيطة وتمتم بأسى جارح:
(ما أطيب العيش لو أن الفتى حجرٌ، تنبو الحوادث عنه وهو ملموم).
أما لوركا سبيتي الشاعرة والإعلامية فسألتني ونحن نقف على كورنيش مطرح وسط صفير السفن وأسراب النوارس، أنّها قرأت أنّ في سلطنة عُمان مدينة تُدعى (صور)، وهل تشبه صور اللبنانية؟
أجبتها، بِما أننا في عجالة حيث الليل المسقطي بدأ بزحفه على الجبال والكائنات:
المُشترك الأعمق بين المدينتين هو البحر، المتوسّط في صور اللبنانية الذي انطلق منه الفينيقيّون باتجاه قرطاجنة وروما والعالم،
وبحر العرب المتاخم للمحيط الهندي الذي انطلق في بهيمِ ليله المليء بالهوام والقراصنة. الأسلاف العمانيّون باتجاه الهند وأفريقيا على الأخص. وكانت المدينة العمانيّة أكبر مركزٍ في الجزيرة العربية لبناء السفن، ورشة صناعة وابتكار متقدّمة بمعايير زمنها.
(دائمًا ما تتراءى لي مدينة
صور العُمانيّة، تركض مع صور اللبنانيّة
في غموض المحيطات
والمطلق:
امرأتان وُلدتا من مخيّلة
بحارة وإعصار.
كبرنا وشاخت المُدُن
وما زالت الطفولة تتسلّق
الأسوارَ والظلال).
وسيكمل الليلُ الزاحفُ قصرَ هذه النّزهة مع عبده ولوركا لاحقًا، بالهذياناتِ والكلام والذكرياتِ حول الأماكن والوجوه الغائبةِ، وهذا الرّاهن العربيّ الذي يُفلت من بين الأصابع والأحلام موغلًا في النأي والخراب.
تحدث عيسى مخلوف بمداخلتهِ في المعرض إيّاه، عن المثلّث الأخطبوطيّ عبر مساره التّدميري، الذي يفترسُ الرّوح والعالم (المال، العولمة، التكنولوجيا) وتحوّلات الثقافة في الزّمن الرّاهن ضاربًا أمثلةً من مدينة الأنوار الثقافية والفكريّة كما درجت التّسمية في الثقافة العالمية، (باريس) التي يقيم فيها منذ نصف قرن شاعرًا وباحثًا يتنقّل بين الحواضرِ خاصة أوروبا والأمريكتين، وكيف أن كبار المليارديرية استولوا بالمال على أعرق المكتبات مثل (هاشيت) وأعرق المؤسسات الثقافية في فرنسا، وهو ما ينسحب على مراكز الحضارة والإنتاج الثقافي الرئيسة في العالم التي سبق لمفكّرين وفلاسفة منذ مطلع القرن العشرين وما قبله وصولًا إلى البرهة الرّاهنة التي اشتدّ فيها سُعار السوق في تبضيعِ وتشييء كلّ أوجه الإنتاج والصنائع التي أبدعها العقل الأوروبي والبشرية جمعاء، في أبعادها المادية والروحيّة، الفكريّة والأدبيّة والسلوكية، مرحلة (النيوليبرالية) الأكثر ضراوة وعنفًا كمحاولة مباشرة أو ضمنيّة لسحق إنسانيّة الإنسان، مشاعرِه وحقيقتِه الجوانيّة، لتحويلِهِ إلى سلعةٍ ضمن قطار (العولمة) المندفع إلى فضاء الهيمنة المُطلقة على كل مفاصل وتفاصيل الحياة والصيرورة والتاريخ.
إذا كان هذا الخطر يحيط بتلك (المراكز)، وكل ثقافة مهما كان مصدرها الحضاري لها نواتها المركزية وتاريخيّتها مهما شطّت نزعة التمركز الأوروبي، فكيف ستكون مقاربة هذا الوضع لبلدان الأغلبيّة الواقعة تحت هيمنة مراكز الحضارة والإنتاج الصناعي والثقافي، حيث إن معظمها تسيطر عليه أنظمةٌ ترتاب وتمنع التعدديّة والرأي الآخر الذي يحاول قول الإصلاح والوعي المختلف لمقاومة تلك الأوبئة وإفرازاتها التي تقصفُ عُمر الكائن وروحَه منذ الطفولةِ وحتى استوائه كائنًا مشوهًا مُعاق الوعي والتفكير والسلوك، إلا القليل النّاجي من هذه المذبحة الجماعية النّاعمة.
فهذه المجتمعات تستقبل وتستهلكُ ما ينتجه (الآخر) المهيمن الذي مهما كانت أعطاب تقدّمه وتسليعه غائرة عميقة حسب مفكريه، يظل محميًّا إلى حدٍّ كبير بالديموقراطية والمؤسسات المدنيّة والتعددية.
وهذه ليست كلمات أو مصطلحات شكليّة هناك أو ترفًا مجتمعيًا ونخبويًا ثرثارًا كما يذهب البعض؛ بل هي في صميم المسار الحضاري ودورته الدمويّة التي تتجدد كلما بدت عليها علامات الوهن والتّداعي والاختناق، وهي كثيرة، حيث إنها محميةٌ (تلك الدعائم والتحصينات) عبر العقد الاجتماعي والدستوري والقانون، وحين يجري اعتداء على أركانها سيبدأ الانهيار الحتميّ.
يكفي أن نلقي نظرة سريعة في الشاشة أمامنا الآن على فرنسا وإنجلترا مثالًا لا حصرًا ، والحراك الاجتماعي والجماهيري العارم الذي يشل مجمل الحياة تقريبًا ويعطّل آلة الإنتاج والصناعة من أجل عدم المساس من قبل رأسمالي (نيوليبرالية) للحقوق الاجتماعية والاقتصادية المكتسبة عبر تاريخ طويل، ومن أجل تحسين شروط الحياة ومستقبل الأجيال.
وكونُ ذلك الإنتاج التكنولوجي يأتي في سياقِ مجتمعيٍّ فيه شيءٌ من السويّة والانضباط الذي تمليه التنشئةُ والمدرسةُ والجامعة وسائر أركان الاجتماع أفرادًا فاعلين ومؤسسات تحاول تصحيح خلل التطوّر المسعور والتقدم على حساب الإنسان وجوهر وجودهِ وحياتهِ.
كلُّ شروط هذا المناخ الاجتماعي، تنعدم بشكل شبه كلي ما عدا الشّكليات والشعارات الخطابيّة الزاعقة، في مجتمعات الاستهلاك والاستقبال بمعناه السلبيّ الناسخ والمقلد بشكل قرديٍّ أو ببغاويٍّ في ألطف أحواله. على هذا النحو المظلم كما يرى الراؤون (المتشائمون) لن يكون في تلك (الأرض اليباب) التي دمّرت بعضها الحروب الأهلية وغير الأهلية ودمرها الاستعباد سلفًا، لن يكون إلا كائنات منفيّة أو مشوّهة تمضي في مركبٍ واحدٍ من الشّعارات البرّاقة والدعاوى التبشيريّة لفردوس المستقبل الدنيوي والأخروي المشرق أيَّما إشراقٍ ورفاه.
في سردٍ لتجربةِ سنان أنطون عبر حوارٍ مع الروائية هدى حمد، ما يثير الانتباه والذهول، كأستاذ في إحدى الجامعات الأمريكية ومترجم وروائي، حيث إنه أثار نقاطًا كنا نظنّ عكسها أو على الأقل ليست بهذه الحِدّة.
سنان الذي التقيته منذ أكثر من عقدين من الزمن ربما أول مرة، وكان ذلك بمطعم في منطقة (جاردن سيتي) في القاهرة، بمعيّة شعراء أبرزهم محمود درويش الذي مرّ على اسمه في مداخلته الماثلة.
وكان اللقاء بدعوة عشاء من الأكاديمية العراقية في الجامعة الأمريكية (فريال غزول) ببهائها المُشعّ، وكانت أيضا تُشرف على مجلة (ألف) العميقة دراسة وبحثًا. منذ ذلك العام كم حلّت بالعراق من النوازل الكارثية (لم يمضِ عام والعراق ليس فيه جوع) كما عبّر السياب، الجوع والغزو والإبادة. في جانب تجربة ترجمته للشعر العربي بأمريكا، العراقي خاصةً، ما أذهلني أنه لم يجد كتابًا واحدًا مترجمًا إلى اللغة الإنجليزية في أمريكا كلها من بدر شاكر السياب وحتى سركون بولص، العراقي العربي الأمريكي عبر معيشه الطويل واحتكاكه مع الثقافة الأمريكية بكل أطيافها وتجلّياتها الفنية خاصةً جيل (البيت) وموجة الشعر الأمريكي الجديد، الذي تعتبر تجربته (سركون) جزءا أقرب إلى هذا الجيل واستلهامه في عالم اللغة الإنجليزية منه إلى المعروفين والمؤثرّين أكثر على الصعيد العربي مثل (عزرا باوند) و(إليوت) ، حتى فاضل العزاوي والقائمة تطول.
كنت وآخرون نعتقد أن هناك وفرة ترجماتٍ ودراساتٍ حول أولئك الرواد بأجيالهم وأنماطهم التعبيرية المختلفة.
لكن ذلك الشعر كما بقية إنجازات الثقافة العربيّة في عصورها وأسمائها ورموزها تعاني هذا الإقصاء وهذا التهميش ولا تقع اللائمة على (الآخر) الذي يتعمّد الإقصاء والحذف حتى التآمر وفق نبرة الخطاب الجاهز. وكانت هذه مسألة مطروحة للسِجال والنقاش بداهةً، ليست بعيدة تمامًا عن الصحّة لكن تقع المسؤولية الأساس على النخب العربيةِ دولًا ومؤسسات بالدرجة الأولى، ومثقفين باحثين ومترجمين.
يتبدّى منذ زمن أن ليس هناك من تخطيط منهجيٍّ مدروس ومُشتَغل عليه من قبل أي نظام عربيّ في هذا الاتجاه البالغ الحيوية والحساسية والخطورة، أي مخطط عربي قومي شاملٍ من الخليج إلى المحيط أو حتى قُطري على نحو من جديةٍ واستيعاب. ومثل هذا المنحى الوحدوي موجودٌ في مناحٍ أخرى، ليس الثقافة والمعرفة التي هي الهمّ الأخير في هذا الفضاء العربي الموّار بالعنف واللَغو وبإهدار المال العام في غير مكانه وزمانهِ الفاعلين حضاريًا، علميًّا وثقافيًّا، مثل ما عملت وتعمل دولٌ ونخبٌ في أمم أخرى والأمثلة باديةٌ للذاكرة والعيان.
تبقى المحاولات الفردية المبدعة مثل مشروع (بروتا) الذي كانت تشرف عليه سلمى الخضراء الجيوسي، ومجلات وأفراد ودور نشرٍ هنا وهناك في مساعيهم النبيلة الطموحة في تلك القارة وبلدان وحواضر أخرى على مسافةِ العالم.
محمود عبدالغني القادم من المغرب (شاعرًا وأكاديميًّا) فتح في ورقته أفقًا معرفيًّا، أسئلةً وإشكالياتٍ تراكمتْ عبر القرونِ على تناقضِ الرؤى والسجالات بدوافع المعرفة ونقيضها.
ونقيض المعرفة هنا هو التنميطُ المسبَق والرؤية التي تُعلّب الآخر وتقصيهِ إلى زوايا ضيّقة ومعزولة خارج الأفقِ الإنسانيّ الشامل للمعرفةِ وتاريخها وسياقها المعقّد.
من تلك التنميطات اللامعرفيّة إقصاءُ العربيّ خارج (الأنا) الإبداعيّ، خارج الفردية والإحساس بالذات، كونه ليس إلا صدى باهتًا لصوت الجماعة والقبيلة.
يذهب على سبيل المثال عبدالرحمن بدوي، مع آخرين عرب وغير عرب إلى هذا المنحى كون الجنس السّامي أو العربيّ خاصة إحساسه بذاته إحساس ضعيف!!!
كلُّ شواهد التاريخ وبراهينه، بأسمائهِ ونصوصه وإنجازاته تقول عكس ذلك.
مع تجاوزنا مؤقتًا للدخولِ في فضاء علم النفس خاصة لدى (يونج) وتحليله العميق للاشعور الجماعي والفردي.
منذ بدايات كتابة (السيرة والتراجم) التي توسّعت وتعمّقتْ جيلًا بعد آخر، وحتّى الشعر؛ الذي هو المؤشر الأكبر على وعي الجماعات العربيّة وسياقات ثقافتها. هذا الشعر منذ ما سُمّي بالعصر (الجاهلي) كان إحساس الشاعر الفرد بذاتهِ تمايزًا وتجاربَ مريرةً أو سعيدةً وهي تغامرُ في ليل الوجودِ والصحراء والحروب، مما لا يتناقض على الأغلبِ مع الانتماء إلى الجماعة أو القبيلة وإنما ينسجم ويتناغم مع ذلك الانتماء.
وهناك طائفة من الشعراء (الصعاليك مثلا) قطعت مع الجماعة وكانت لها سِمات فرادة جمالية وحياتية.
هذه المسألة المتشعّبة التي لا بد أن تتوسّل استقصاءً واسعًا وعميقًا عبر عصور مختلفة لا تسعها عُجالاتٌ، لكن حسبها أن تفتح قوس الأسئلة المأزقيّة على الرؤية الجاهزة والتعليب السّهل الذي ما زال يمارس راهنًا تحت أقنعة حداثات زائفة.
ويشير عبدالغني في سياق بحثه إلى مُنصفين من المستشرقين مثل (كارل بروكلمان) الذي يقول في هذا الصدد (كان العرب في الجاهلية يفخرون بذكر مآثر أسلافهم وأيامهم وأنسابهم وكان سمرهم يجري على رواية أيامهم. ولو كانت الكتابة منتشرة كأداة في ذلك العصر الجاهلي لوصلتنا سرود ذلك الإنسان عن ذاتهِ، والدليل على ذلك أن الشاعر الجاهلي يكثر الحديث عن نفسهِ حدّ الإطنابِ، وقد وصلنا الشعر دون النثر لأنّه أسهل للحفظ والتداول من النثر).
هذه الانتباهة العميقة من قبل (بروكلمان) إلى ما كان عليه النثر من أهمية وازدهار متقاطع مع الشعرِ ولو ضعف تداوله بين الجماعات عبر الزمان لتلك الأسباب، وقد يفوق ذلك النثر الشعرَ إبداعًا وتوهّجًا في بعض الفترات.
ما طرحه وأشار إليه الصديق محمود عبدالغني، الذي كنّا مطلع الأيام الخوالي أو مطلع الشباب نتسامر مع ثُلة من الأصدقاء الفريدين في ليل الرباط وأماكنه الحميمة، ما طرحهُ بحاجة إلى بحث ونقاشٍ تتوسّع رقعته ومداه إلى الكثير من تلك الأطروحات والمفاهيم إن صحّت العبارة، التي حُشر فيها التراث العربي والهوية العربيّة المستَهدفة راهنًا في صميم ذاكرتها ووجودها على جارِي عبارة لميلان كونديرا في إحدى رواياته.. إذا أردت أن تحطم شعبًا أو أُمّةً فلتبدأ بتدمير الذاكرة.
وهذا ما هو قائمٌ على قدمٍ وساقٍ وعدّةٍ مدجّجة باللغة البرّاقة والرؤى المبطّنة بالكراهية والضغينة تحت ثوبٍ قشيبٍ ودعاوى تُغري بنقيضها. الأمثلة كثيرة لمن يُمعن النظر قليلًا في المشهد العربيّ الرّاهن في أبعاده وصُعُدِهِ كافة.
في ضوء هذا لم يكن عبدالرحمن بدوي إلا مفكّرًا باحثًا يخطئ ويصيب كأي باحث كبير، أما من أشرتُ إليهم، وعن تصميم قصد وبنية من ميراث متراكم للكراهية واجتهادات التّدمير تحت أقنعة المعرفة والتاريخ والثقافة.
في ذكرى د.المقالح
في هذه الفترة البالغة الحِلكة والفداحة من تاريخ اليمن والبالغة الانحدار بمعناه الحضاري الشامل على الصعيد العربي، يرحل الأستاذ الكبير عبدالعزيز المقالح المناضل الذي لا تلينُ عريكتُه ولا يتراجع حلمُه مهما شطت المسافة والصحراء، منذ مرحلة التحرّر الوطني وحتى التأسيس المعرفي والثقافي بكل تجلياته ومناحيه وعناصره اللازمة لأي نهضةٍ محلومٍ بها في دروبِ التّاريخ الوعرة والمتقلّبة. النهضة التي كانت حلم الدكتور وحلم النّخب والشعب اليمنيّ الذي بذل تضحياتٍ جسامٍ في سبيل الكرامة والحرية، في بناء الدولة الوطنيّة المستقلة الجامعة. سجون واعتقالات، اغتيالات وتصفيات، لكن اليمنيين ظلوا حاملين شعلة الحلم والحرية لأجيال متعاقبة.
يرحل عنّا الضوء الكاشف والأب الشّاعر الأكاديميّ بمعرفته الشمولية التي سخرها جسدا وروحًا في سبيل اليمن ومحيطه العربي المنكوب.
لا أستطيع أن أنسى تلك الجلسات التي جمعتنا في صنعاء بالأصدقاء من كل مكان في ضيافة الدكتور، وذلك الحضور الأبويّ المتواضع والمُتماهي مع الحضور الموجود، حتى الطلبة والتلاميذ، وليس ذلك الأبوي المُتعالي بحكم الموقع والمكانة التي يتبوؤها في كل الأصعدة. وإذا كنّا مع عائلته الكريمة والأصدقاء والشعب اليمني نتشارك هذا الأسى وهذا الانكسار الذي أصابنا برحيل الدكتور عبدالعزيز المقالح، وهو لم يرحل في واقع حال الثقافة والقيم النبيلة والحلم بتجاوز هذه المرحلة الوحشية المظلمة. إن إرثه وسلوكه المضيئين وما تركه من إنجازات تسترشد بها الأجيال الراهنة والقادمة، لهي عزاؤنا جميعا إزاء هذا الرحيل الفاجع.
ناسكُ اليمن استقطب الثقافة العربية برموزها وأكاديمييها وثقافات العالم إلى اليمن، وأحال اليمنَ إلى مركز يفيضُ بالتفاعل الإبداعيّ والحيّوية والنشاط.
واءم بين المحليّة والعربية والعالمية على نحوٍ من الانسجام الذي تُمليه رؤية فاحصةٌ متفانيةٌ عاشقة. أتذكّر في مركز الأبحاث اليمني حين نكون في زيارته بمقر المركز المطرّز بحدائق وأشجار باسقة، يتوافد إليه اليمنيّون من كل الفئات والمناطق والأرجاء، طلبًا للدعم والمساعدة حتى في الأمور التي لا تدخُل في مجال عمله واختصاصِه.
يصحبنا معه جيئة وذهابًا في الحديقة يستمعُ ويسجّل مطالبهم وشكاواهم ولا يركن إلى طاولة مكتب وبيروقراطية عتيدة.
فكان المثقف العضوي المشّاء حيث تنبثقُ الأفكار والرؤى وإمكانيات الحلول. رحم الله الراحل الكبير الذي سيظل حضوره معينَ حلمٍ وأملٍ لا ينضب مع تواتر الأيام والزمان.
شلة مجرمين
شلّة من أعتى المجرمين، أنهكتهم التجارب المريرة والتقدّم في العمر، بداية انهيار الجسد، لجأوا إلى جزيرة نائية على ضفاف بحرٍ من بحار الشّرق الأقصى، يستمتعون بما تبقّى من زمنٍ ينفد بسرعة البرق، مُعاقرين أفخر الأنبذة ومصاحبين صبايا ذلك البلد الفقير.
لكن أحيانًا في انخطاف النّشوة على إيقاع الموج والفراغ يبدأون بشنِّ غاراتٍ على أعشاش الطيور في جذوعِ وغدران الأشجار، ومطاردات وهميّة مع أسماك القرش الصاخبة في عرينها البحري.
وعلى الشاطئ يشتبكون مع مجرمين يستحضرهم الخيال الجامحُ فيما يُشبه تحضير الأرواح في حفلاتِ الزار، ثم يجلسون متعَبين على الضفافِ، محدّقين في الأضواء الخلابة للمدينة القريبة.
سيف الرحبي