كرمل (مغاور) - -
الكرمل (مغاور ـ)
تمتد جبال الكرمل مسافة 20كم تقريباً إلى الجنوب من حيفا في فلسطين المحتلة، وتوجد في الجهة الغربية منها، بمواجهة الشريط الساحلي الضيق، مجموعة من المغاور التي سُكنت في عصور ما قبل التاريخ. بدأ التنقيب في المنطقة منذ الثلاثينات من القرن الماضي واستمر في مختلف المغاور وخاصة في الطابون والسخول والكباري Kebarian التي أعطت آثار استيطان غني ومتنوع استمر مئات الآلاف من السنين دلت عليه مكتشفات ذات قيمة علمية كبيرة بينها الهياكل العظمية لإنسان النياندرتال والإنسان العاقل التي ألقت الضوء على وصول الإنسان الأول وانتشاره في المشرق العربي القديم والعالم.
مغارة الطابون: بدأ التنقيب فيها في الثلاثينات من القرن الماضي من قبل الإنكليزية دوروثي غارّود D.Garrod، ثم تابع العمل في الستينيات الأمريكي آرثر جيلينك A. Jelinek، ولازال العمل مستمراً من قبل جامعة حيفا في فلسطين المحتلة. تتألف المغارة من ثلاثة أقسام متتالية: القسم الأول منها، المدخل، مخرَّب ومكشوف، القسم الأوسط: محفوظ على نحو جيد، وقسمها الأخير: ينتهي بفتحة على شكل تنور (طابون) أخذت منه المغارة اسمها. بلغت سماكة الطبقات الأثرية في المغارة 25 متراً مما جعلها أحد أندر مواقع هذا العصر في المنطقة والعالم. تنسب الطبقات الدنيا في المغارة (G-F) إلى ما يسمى بالحضارة التياسية Tayacian والأشولية Acheulean، تليها طبقات الحضارة اليبرودية (E) التي أُرخت من نحو 300 ألف سنة خلت، ثم الطبقات (D.C.B) العائدة إلى الحضارة اللڤلوازية - الموستيرية Levalloiso-Mousterian والمؤرخة بين 200-100 ألف سنة خلت. من أهم المكتشفات التي أتت من هذه المرحلة هو الهيكل العظمي لامرأة من نوع نياندرتال وفك لهيكل عظمي آخر وأجزاء من هياكل بشرية مختلفة .
مغارة السخول: تقع إلى الجنوب من الطابون، وقد نقِّبت فيها في الثلاثينات دوروثي غارّود. وُجدت فيها طبقات تعود إلى العصر اللڤلوازي - الموستيري، لكن الكشف الأهم هو المقبرة، الأولى من نوعها من هذا العصر، التي ضمت أربعة عشر شخصاً، يافعين وأطفال، دُفنوا بعناية في حفر منتظمة وبوضعية مثنية؛ أحد الموتى يحمل آثار قطع في الفخذ، كما دُفن فك خنـزير إلى جانب هيكل آخر. وقد دلت الدراسات على انتماء هذه الهياكل إلى نوع الإنسان العاقل الباكر early modern human المؤرخ من نحو 100ألف سنة خلت، وهذا أقدم ظهور لهذا الإنسان خارج القارة الإفريقية.
مغارة الكباري: أبعادها كبيرة (25×20م2)، عمل فيها منذ ثلاثينات القرن الماضي عدد من الباحثين الإنكليز والفرنسيين وغيرهم، الذين كشفوا عن استيطان بشري كثيف مستمر ومتنوع. السوية الأخيرة، الأحدث (A) تعود إلى عصر البرونز، تليها السوية (B) التي أتت منها أدوات حجرية وعظمية وخرز من العصر النطوفي المتأخر، في حين أعطت السوية (C) آثار العصر الكباري. أما السوية (D) فقد وُجدت فيها آثار الحضارة الأورينياسية Aurignacian وخاصة الأدوات العظمية المزخرفة المعروفة من هذا العصر. السويات الأدنى في المغارة (E.F) تعود إلى الحضارة الموستيرية التي دلت عليها المواقد الكثيفة (قطرها 20 ـ 80 سم)، والأنشطة المختلفة من الصيد وتقطيع الحيوانات، وخاصة الغزال، وأكل السلاحف والتقاط الثمار البرية. لكن الاكتشاف الأهم من هذه الطبقات كان الهياكل العظمية وهي: هيكل لطفل نياندرتالي عمره نحو تسعة أشهر، وهيكل لرجل يافع دُفن في حفرة منتظمة مستلقياً على ظهره وقد ضُمت يداه إلى صدره، والغريب هو غياب الرأس وغياب الرجل اليمنى، وهو أمر يمكن أن يعود إلى معتقدات وممارسات دينية سادت لدى هؤلاء النياندرتاليين وتعلقت بالدفن المنفرد للرأس معزولاً عن بقية الجسد، ومهما يكن فإن هذا الهيكل العظمي هو من أبكر دلائل الدفن الشعائري المنظم وأهمها.
مغارة الواد: وهي أكبر مغاور جبل الكرمل، استمر التنقيب فيها عشرات السنين من القرن الماضي. كشف في طبقاتها الدنيا (F.G) عن آثار الحضارة الموستيرية، تلتها في الطبقات (E.C.D) الحضارة الأورينياسية بمراحلها الباكرة والوسطى والأخيرة. الاستيطان الأهم أتى من الطبقة (B) العائدة إلى العصر النطوفي الذي استُوطن فيه مدخل المغارة أيضاً، حيث كُشف عن مقبرة كبيرة ضمت قبوراً فردية وجماعية زُوّدِت بمختلف أنواع الحلي، كما كُشف عن تماثيل بشرية وحيوانية ومُغْرة حمراء (حجر أحمر يُستخدم في الطلاء) وبقايا مستحاثية وغير ذلك من الدلائل الفنية.
تعدّ الهياكل العظمية التي أتت من مغاور الكرمل ذات قيمة علمية عالمية كبرى، فقد أكدت وجود نوعين من البشر هما الإنسان النياندرتالي والإنسان العاقل اللذان تعايشا عشرات الآلاف من السنين في منطقة المشرق العربي القديم، ثم انقرض بعدها إنسان النياندرتال وتابع الإنسان العاقل تطوره على كل صعيد ليصبح الجد المباشر للإنسان الحالي.
سلطان محيسن
الكرمل (مغاور ـ)
تمتد جبال الكرمل مسافة 20كم تقريباً إلى الجنوب من حيفا في فلسطين المحتلة، وتوجد في الجهة الغربية منها، بمواجهة الشريط الساحلي الضيق، مجموعة من المغاور التي سُكنت في عصور ما قبل التاريخ. بدأ التنقيب في المنطقة منذ الثلاثينات من القرن الماضي واستمر في مختلف المغاور وخاصة في الطابون والسخول والكباري Kebarian التي أعطت آثار استيطان غني ومتنوع استمر مئات الآلاف من السنين دلت عليه مكتشفات ذات قيمة علمية كبيرة بينها الهياكل العظمية لإنسان النياندرتال والإنسان العاقل التي ألقت الضوء على وصول الإنسان الأول وانتشاره في المشرق العربي القديم والعالم.
مغارة الطابون: بدأ التنقيب فيها في الثلاثينات من القرن الماضي من قبل الإنكليزية دوروثي غارّود D.Garrod، ثم تابع العمل في الستينيات الأمريكي آرثر جيلينك A. Jelinek، ولازال العمل مستمراً من قبل جامعة حيفا في فلسطين المحتلة. تتألف المغارة من ثلاثة أقسام متتالية: القسم الأول منها، المدخل، مخرَّب ومكشوف، القسم الأوسط: محفوظ على نحو جيد، وقسمها الأخير: ينتهي بفتحة على شكل تنور (طابون) أخذت منه المغارة اسمها. بلغت سماكة الطبقات الأثرية في المغارة 25 متراً مما جعلها أحد أندر مواقع هذا العصر في المنطقة والعالم. تنسب الطبقات الدنيا في المغارة (G-F) إلى ما يسمى بالحضارة التياسية Tayacian والأشولية Acheulean، تليها طبقات الحضارة اليبرودية (E) التي أُرخت من نحو 300 ألف سنة خلت، ثم الطبقات (D.C.B) العائدة إلى الحضارة اللڤلوازية - الموستيرية Levalloiso-Mousterian والمؤرخة بين 200-100 ألف سنة خلت. من أهم المكتشفات التي أتت من هذه المرحلة هو الهيكل العظمي لامرأة من نوع نياندرتال وفك لهيكل عظمي آخر وأجزاء من هياكل بشرية مختلفة .
مغارة السخول: تقع إلى الجنوب من الطابون، وقد نقِّبت فيها في الثلاثينات دوروثي غارّود. وُجدت فيها طبقات تعود إلى العصر اللڤلوازي - الموستيري، لكن الكشف الأهم هو المقبرة، الأولى من نوعها من هذا العصر، التي ضمت أربعة عشر شخصاً، يافعين وأطفال، دُفنوا بعناية في حفر منتظمة وبوضعية مثنية؛ أحد الموتى يحمل آثار قطع في الفخذ، كما دُفن فك خنـزير إلى جانب هيكل آخر. وقد دلت الدراسات على انتماء هذه الهياكل إلى نوع الإنسان العاقل الباكر early modern human المؤرخ من نحو 100ألف سنة خلت، وهذا أقدم ظهور لهذا الإنسان خارج القارة الإفريقية.
مغارة الكباري: أبعادها كبيرة (25×20م2)، عمل فيها منذ ثلاثينات القرن الماضي عدد من الباحثين الإنكليز والفرنسيين وغيرهم، الذين كشفوا عن استيطان بشري كثيف مستمر ومتنوع. السوية الأخيرة، الأحدث (A) تعود إلى عصر البرونز، تليها السوية (B) التي أتت منها أدوات حجرية وعظمية وخرز من العصر النطوفي المتأخر، في حين أعطت السوية (C) آثار العصر الكباري. أما السوية (D) فقد وُجدت فيها آثار الحضارة الأورينياسية Aurignacian وخاصة الأدوات العظمية المزخرفة المعروفة من هذا العصر. السويات الأدنى في المغارة (E.F) تعود إلى الحضارة الموستيرية التي دلت عليها المواقد الكثيفة (قطرها 20 ـ 80 سم)، والأنشطة المختلفة من الصيد وتقطيع الحيوانات، وخاصة الغزال، وأكل السلاحف والتقاط الثمار البرية. لكن الاكتشاف الأهم من هذه الطبقات كان الهياكل العظمية وهي: هيكل لطفل نياندرتالي عمره نحو تسعة أشهر، وهيكل لرجل يافع دُفن في حفرة منتظمة مستلقياً على ظهره وقد ضُمت يداه إلى صدره، والغريب هو غياب الرأس وغياب الرجل اليمنى، وهو أمر يمكن أن يعود إلى معتقدات وممارسات دينية سادت لدى هؤلاء النياندرتاليين وتعلقت بالدفن المنفرد للرأس معزولاً عن بقية الجسد، ومهما يكن فإن هذا الهيكل العظمي هو من أبكر دلائل الدفن الشعائري المنظم وأهمها.
مغارة الواد: وهي أكبر مغاور جبل الكرمل، استمر التنقيب فيها عشرات السنين من القرن الماضي. كشف في طبقاتها الدنيا (F.G) عن آثار الحضارة الموستيرية، تلتها في الطبقات (E.C.D) الحضارة الأورينياسية بمراحلها الباكرة والوسطى والأخيرة. الاستيطان الأهم أتى من الطبقة (B) العائدة إلى العصر النطوفي الذي استُوطن فيه مدخل المغارة أيضاً، حيث كُشف عن مقبرة كبيرة ضمت قبوراً فردية وجماعية زُوّدِت بمختلف أنواع الحلي، كما كُشف عن تماثيل بشرية وحيوانية ومُغْرة حمراء (حجر أحمر يُستخدم في الطلاء) وبقايا مستحاثية وغير ذلك من الدلائل الفنية.
تعدّ الهياكل العظمية التي أتت من مغاور الكرمل ذات قيمة علمية عالمية كبرى، فقد أكدت وجود نوعين من البشر هما الإنسان النياندرتالي والإنسان العاقل اللذان تعايشا عشرات الآلاف من السنين في منطقة المشرق العربي القديم، ثم انقرض بعدها إنسان النياندرتال وتابع الإنسان العاقل تطوره على كل صعيد ليصبح الجد المباشر للإنسان الحالي.
سلطان محيسن