كانيتي (الياس) Canetti (Elias-) - Canetti (Elias-)
كانيِتّي (إلياس -)
(1905-1994)
إلياس كانِيتي Elias Canetti كاتب مسرحي وروائي وباحث أنثروبولوجي وعالم اجتماع وناقد متعدد الهوايات والانتماءات؛ يتحدر من عائلة إسبانية ذات أصول يهودية، وكانت اللغة المتداولة في المنزل هي لادينو Ladino التي يستخدمها يهود إسبانيا، إلا أنه كتب مؤلفاته كافة باللغة الألمانية. ولد في مدينة روستشوك Rustchuk البلغارية، وأمضى طفولته فيها حتى عام 1911 حين هاجرت عائلته إلى مانشستر Manchester في إنكلترا، حيث توفي والده على نحو مفاجئ في العام نفسه. وبعد أن أتقن اللغة الإنكليزية انتقل عام 1916 مع أمه وإخوته إلى سويسرا لتعلم اللغة الألمانية تحضيراً للدراسة الجامعية في ڤيينا، فعاش في لوزان Lausanne ثم في زوريخ Zürich ثم في فرَنكفورت على نهر الماين Frankfort am Main، إلى أن انتقل عام 1924 إلى ڤيينا Wien حيث درس الكيمياء في جامعتها نزولاً عند رغبة والدته، وتخرج فيها بدرجة الدكتوراه عام 1929.
كان الرجال في أسرة كانيتي تجاراً على درجة من البحبوحة، وكانت والدته ذات ثقافة عالية تولي المسرح والأدب اهتماماً كبيراً، فزرعت في نفس ابنها هذه الميول وشجعته على أن يصبح أديباً، لما توسمته فيه من إمكانات ومواهب لغوية، لكنها غيرت رأيها ودفعته نحو العلوم أملاً بمهنة مستقبلية مضمونة، مما أدى إلى انكسار العلاقة بينهما عاطفياً. كانت ڤيينا وطناً أدبياً وفكرياً له، وكان الكاتب المسرحي كارل كراوس Karl Kraus مثَله الأعلى في نقده للظواهر السائدة وتمرده عليها، فهجر الكيمياء وتحول نحو الكتابة الأدبية. أمضى عامي 1928-1929 في برلين حيث تعرّف الكتّاب بريشت Brecht وغروتس Grosz وبروخ Broch وهِرتسْفِلدِه Herzfelde، وترجم في أثنائها، ليقوم بأوده، ثلاث روايات لأبتون سنكلير U.Sinclair لمصلحة دار نشر ماليك Malik التي صار صاحبها صديقه وناشره. كما توفيت والدته عام 1937 فانتهى بذلك جانب بالغ الحساسية من طفولته وشبابه. وبسبب صعود الحركة النازية هاجر كانيتي عام 1938 إلى لندن، حيث استقر وحصل على الجنسية البريطانية.
إن تفكير كانيتي المنطلق من فلسفة الثقافة والأنثروبولوجيا والمنفتح على العلم والأدب معاً يعالج قضايا الوجود الاجتماعي والإنساني الأساسية: الحرية والسلطة، الفرد والجماعة، الحياة والموت، باحثاً بإصرار عن طرق لمواجهة الكارثة التي تعرّض لها العالم بسبب حربين عالميتين وخطر السلاح النووي، وعن أجوبة تصلح له وللآخرين أيضاً؛ إذ على الكاتب أن يتحلى بالشجاعة لعرض العالم وهو يتداعى وينهار. وكان هدف كانيتي تسليح الإنسان في وجه تجاوزات السلطة وتخليص الفرد من حالة اغترابه وإنقاذه من الدمار الذي تسببه الجماهير المصابة بالغشاوة. وبغية فضح واقع الحال المقلوب رأساً على عقب يبتكر الكاتب أفراداً مغالين في تطرفهم ويتركهم ليواجهوا بعضهم بعضاً في حالات قصوى من أشكال الوجود بأسلوب غروتِسْكي (المبالغة التهكمية) Grotesque يعرّي لا معقولية ما يسمى بـ«حضارة الحداثة«. وفي أعماله المتأخرة ذات الطابع السِيَري غالباً يرسم كانيتي بناء على خبراته المتأصلة في الفن والعلم واللغة صوراً إنسانية مستقبلية كنقيض للحاضر المتداعي.
واقتداء بمثَلَه الأعلى في المسرح كارل كراوس عالج كانيتي في مسرحياته موضوعات مشابهة، بإتقان فني ولغة جزلة ناهلاً من خيال خصب في ابتكار الشخصيات والمواقف، وهو لايكشف عن مغزى الحدث المسرحي اعتماداً على حبكة متينة أو شخصيات متكاملة الملامح بقدر اعتماده على ما أسماه «القناع الصوتي» akustische Maske، أي المادة اللغوية والإيماءات الكلامية التي تصدر عن الشخوص في الفعل الدرامي. فمسرحيته الأولى «الزفاف» Die Hochzeit عام (1932) الاستعراضية تقدم رؤية عن انهيار المجتمع البرجوازي، ممثلاً بسكان عمارة آلت أخيراً إلى الانهيار بفعل زلزال، فظهر عبر ذلك تفكك الروابط الإنسانية والتكالب على الملكية والسلطة والأنانية والغرائز البهيمية. إنها استعارة فنية للتعبير عن نظام يدمر نفسه لافتقاد إمكانية تحقيق القيم الإنسانية فيه. وفي مسرحيته الثانية «ملهاة الغرور»Komödie der Eitelkeit عام (1934) تُصدر الحكومة مرسوماً ضد الغرور يحظر المرايا والصور والأفلام ولوحات البورتريه (الشخصية)، فتستقبل الجماهير المرسوم بادئ ذي بدء بالترحاب، إلا أن هذه الجماهير نفسها تصاب فيما بعد بهستيريا جماعية، إذ إن اختفاء الصور من الوجود يفقد الإنسان ما تبقى من جوهره الأخلاقي في تماهيه مع ذاته، فتتمرد الجماهير وتلجأ إلى الشغب والعنف الذي يؤدي إلى كارثة. أما في مسرحية «ذوو الآجال المعلومة» Die Befristeten عام (1952) فيفترض المؤلف حالة طريفة ومفزعة في آن معاً: كيف سيكون سلوك أفراد مجتمع ما، لو علم كل منهم بأجله المحتوم؟ ويأتي الجواب إن المساواة الظاهرية تجاه الموت لا تؤدي بالضرورة إلى تعامل البشر بحرية تجاه بعضهم بعضاً، بل إلى انعدام الحرية للجميع، لأن العلم بالأجل المحتوم يولِّد العجز عن الحب والإبداع والإنتاج، وتحل اللامبالاة على الأصعدة كافة. وقد وجد الجمهور والنقاد في المسرحية أصداء واضحة من كتاب كانيتي المعروف «الجماهير والسلطة»Masse und Macht عام (1960) الذي يعد أكثر مؤلفاته أهمية وانتشاراً، وهو ليس بحثاً اجتماعياً أنثروبولوجياً فحسب، بل يشتمل على عناصر كثيرة من مجالات علم النفس وطرائق الدراسات الإثنية (علم الأعراق) وشيء من علم الحيوان. وهو يقتفي أثر موضوع ظل يشغل الكاتب طوال ثلاثين عاماً، أي منذ أن تعاطف مع مظاهرات فرنكفورت عند اغتيال الأديب ڤالتر راتناو W.Rathenau وتمرد الجماهير أمام قصر العدل في ڤيينا. تقول نظرية كانيتي الأساسية، استناداً إلى فرويد، إن الناس يمتلكون علاوة على الحاجات الأساسية كالطعام والشراب والغريزة الجنسية، غريزة جماهيرية أيضاً. ويمكن للفرد المتطلع إلى إحراز موقع له في نطاق الجمهور أن يفي من موقعه هذا بالتزاماته ويسهم في إزالة الفروق الاجتماعية وفي استعادة الفرد حريته.
عندما نشر كانيتي روايته الأولى «غشاوة البصيرة»Die Blendung عام (1936) لم تحظ بأي اهتمام نقدي، فأعاد النظر فيها وأضاف إليها ونشرها عام 1963 فلفتت اهتمام النقاد والقراء، ولاسيما في ترجمتها الإنكليزية. والشخصية الرئيسية فيها مستشرق متخصص باللغة الصينية ومثقف كبير استبدل بأفراد المجتمع كتبه التي تملأ منزله، وعندما يتورط بالزواج من مدبرة منزله ويضطر عن طريقها للاحتكاك بالمجتمع ينهي حياته على محرقة وقودها كتبه. فهي إذاً لاتبتعد كثيراً من حيث الموضوع عن جوهر »الجماهير والسلطة«.
منذ أن نشر كانيتي «محاكمة كافكا الأخرى: رسائل كافكا إلى فِليس»Der andere Prozess: Kafkas Briefe. An Felice عام (1969) اشتهر بصفته كاتب مقالات متميزاً. فمن دراسته هذه الرسائل المهمة حلل كانيتي صراع كافكا بين وجوده المريح في أحضان الطبقة الوسطى وبين عزلته الفردية. وقد ترسخت هذه الشهرة عقب نشر «ضمير الكلمات»Das Gewissen der Worte عام (1975) و«أقنعة الكلمة»Wortmasken عام (1995)، ففي هاتين الدراستين تناول الباحث موضوعات أدبية، ولكن من جانبها اللغوي؛ فهو يرى أن الأديب يحمل مسؤولية أساسية في عملية إحياء اللغة وتنضيرها أو انحرافها نحو التفاهة والبذاءة بخلق أساطير مضللة، فرفض أعمال ليڤ تولستوي الأخيرة التي توحي بالرضوخ للعزاء الديني تعويضاً عن قسوة الواقع وظلمه، ووجد في كافكا معلماً حاذقاً تناول لغة السلطة أياً كانت مرجعيتها.
كتب كانيتي مؤلفات كبيرة أخرى مثل «أصوات مراكش»Die Stimmen von Marrakesch عام (1968) وهو من أدب الرحلات، و«يوميات» Aufzeichnungen التي صدرت في ثلاثة مجلدات غطت المرحلة الممتدة بين الأعوام 1942-1993. وهناك أيضاً سيرة حياته الغنية بالأحداث والشخصيات والتحليلات، وقد نشرها كانيتي تحت ثلاثة عنوانات لافتة: «اللسـان النـاجي» Die geretette Zunge عـام (1977) و«المشْعَل في الأذن» Die Fackel im Ohr عام (1980) و«لُعبة العيون» Das Augenspiel عام (1985).
حاز كانيتي منذ عام 1949 كثيراً من الجوائز الأدبية والأكاديمية الألمانية والأوربية والعالمية، منها جائزة نوبل لعام 1981. توفي في مدينة زوريخ وهو في التسعين من عمره.
أحمد حيدر، نبيل الحفار
كانيِتّي (إلياس -)
(1905-1994)
إلياس كانِيتي Elias Canetti كاتب مسرحي وروائي وباحث أنثروبولوجي وعالم اجتماع وناقد متعدد الهوايات والانتماءات؛ يتحدر من عائلة إسبانية ذات أصول يهودية، وكانت اللغة المتداولة في المنزل هي لادينو Ladino التي يستخدمها يهود إسبانيا، إلا أنه كتب مؤلفاته كافة باللغة الألمانية. ولد في مدينة روستشوك Rustchuk البلغارية، وأمضى طفولته فيها حتى عام 1911 حين هاجرت عائلته إلى مانشستر Manchester في إنكلترا، حيث توفي والده على نحو مفاجئ في العام نفسه. وبعد أن أتقن اللغة الإنكليزية انتقل عام 1916 مع أمه وإخوته إلى سويسرا لتعلم اللغة الألمانية تحضيراً للدراسة الجامعية في ڤيينا، فعاش في لوزان Lausanne ثم في زوريخ Zürich ثم في فرَنكفورت على نهر الماين Frankfort am Main، إلى أن انتقل عام 1924 إلى ڤيينا Wien حيث درس الكيمياء في جامعتها نزولاً عند رغبة والدته، وتخرج فيها بدرجة الدكتوراه عام 1929.
كان الرجال في أسرة كانيتي تجاراً على درجة من البحبوحة، وكانت والدته ذات ثقافة عالية تولي المسرح والأدب اهتماماً كبيراً، فزرعت في نفس ابنها هذه الميول وشجعته على أن يصبح أديباً، لما توسمته فيه من إمكانات ومواهب لغوية، لكنها غيرت رأيها ودفعته نحو العلوم أملاً بمهنة مستقبلية مضمونة، مما أدى إلى انكسار العلاقة بينهما عاطفياً. كانت ڤيينا وطناً أدبياً وفكرياً له، وكان الكاتب المسرحي كارل كراوس Karl Kraus مثَله الأعلى في نقده للظواهر السائدة وتمرده عليها، فهجر الكيمياء وتحول نحو الكتابة الأدبية. أمضى عامي 1928-1929 في برلين حيث تعرّف الكتّاب بريشت Brecht وغروتس Grosz وبروخ Broch وهِرتسْفِلدِه Herzfelde، وترجم في أثنائها، ليقوم بأوده، ثلاث روايات لأبتون سنكلير U.Sinclair لمصلحة دار نشر ماليك Malik التي صار صاحبها صديقه وناشره. كما توفيت والدته عام 1937 فانتهى بذلك جانب بالغ الحساسية من طفولته وشبابه. وبسبب صعود الحركة النازية هاجر كانيتي عام 1938 إلى لندن، حيث استقر وحصل على الجنسية البريطانية.
إن تفكير كانيتي المنطلق من فلسفة الثقافة والأنثروبولوجيا والمنفتح على العلم والأدب معاً يعالج قضايا الوجود الاجتماعي والإنساني الأساسية: الحرية والسلطة، الفرد والجماعة، الحياة والموت، باحثاً بإصرار عن طرق لمواجهة الكارثة التي تعرّض لها العالم بسبب حربين عالميتين وخطر السلاح النووي، وعن أجوبة تصلح له وللآخرين أيضاً؛ إذ على الكاتب أن يتحلى بالشجاعة لعرض العالم وهو يتداعى وينهار. وكان هدف كانيتي تسليح الإنسان في وجه تجاوزات السلطة وتخليص الفرد من حالة اغترابه وإنقاذه من الدمار الذي تسببه الجماهير المصابة بالغشاوة. وبغية فضح واقع الحال المقلوب رأساً على عقب يبتكر الكاتب أفراداً مغالين في تطرفهم ويتركهم ليواجهوا بعضهم بعضاً في حالات قصوى من أشكال الوجود بأسلوب غروتِسْكي (المبالغة التهكمية) Grotesque يعرّي لا معقولية ما يسمى بـ«حضارة الحداثة«. وفي أعماله المتأخرة ذات الطابع السِيَري غالباً يرسم كانيتي بناء على خبراته المتأصلة في الفن والعلم واللغة صوراً إنسانية مستقبلية كنقيض للحاضر المتداعي.
واقتداء بمثَلَه الأعلى في المسرح كارل كراوس عالج كانيتي في مسرحياته موضوعات مشابهة، بإتقان فني ولغة جزلة ناهلاً من خيال خصب في ابتكار الشخصيات والمواقف، وهو لايكشف عن مغزى الحدث المسرحي اعتماداً على حبكة متينة أو شخصيات متكاملة الملامح بقدر اعتماده على ما أسماه «القناع الصوتي» akustische Maske، أي المادة اللغوية والإيماءات الكلامية التي تصدر عن الشخوص في الفعل الدرامي. فمسرحيته الأولى «الزفاف» Die Hochzeit عام (1932) الاستعراضية تقدم رؤية عن انهيار المجتمع البرجوازي، ممثلاً بسكان عمارة آلت أخيراً إلى الانهيار بفعل زلزال، فظهر عبر ذلك تفكك الروابط الإنسانية والتكالب على الملكية والسلطة والأنانية والغرائز البهيمية. إنها استعارة فنية للتعبير عن نظام يدمر نفسه لافتقاد إمكانية تحقيق القيم الإنسانية فيه. وفي مسرحيته الثانية «ملهاة الغرور»Komödie der Eitelkeit عام (1934) تُصدر الحكومة مرسوماً ضد الغرور يحظر المرايا والصور والأفلام ولوحات البورتريه (الشخصية)، فتستقبل الجماهير المرسوم بادئ ذي بدء بالترحاب، إلا أن هذه الجماهير نفسها تصاب فيما بعد بهستيريا جماعية، إذ إن اختفاء الصور من الوجود يفقد الإنسان ما تبقى من جوهره الأخلاقي في تماهيه مع ذاته، فتتمرد الجماهير وتلجأ إلى الشغب والعنف الذي يؤدي إلى كارثة. أما في مسرحية «ذوو الآجال المعلومة» Die Befristeten عام (1952) فيفترض المؤلف حالة طريفة ومفزعة في آن معاً: كيف سيكون سلوك أفراد مجتمع ما، لو علم كل منهم بأجله المحتوم؟ ويأتي الجواب إن المساواة الظاهرية تجاه الموت لا تؤدي بالضرورة إلى تعامل البشر بحرية تجاه بعضهم بعضاً، بل إلى انعدام الحرية للجميع، لأن العلم بالأجل المحتوم يولِّد العجز عن الحب والإبداع والإنتاج، وتحل اللامبالاة على الأصعدة كافة. وقد وجد الجمهور والنقاد في المسرحية أصداء واضحة من كتاب كانيتي المعروف «الجماهير والسلطة»Masse und Macht عام (1960) الذي يعد أكثر مؤلفاته أهمية وانتشاراً، وهو ليس بحثاً اجتماعياً أنثروبولوجياً فحسب، بل يشتمل على عناصر كثيرة من مجالات علم النفس وطرائق الدراسات الإثنية (علم الأعراق) وشيء من علم الحيوان. وهو يقتفي أثر موضوع ظل يشغل الكاتب طوال ثلاثين عاماً، أي منذ أن تعاطف مع مظاهرات فرنكفورت عند اغتيال الأديب ڤالتر راتناو W.Rathenau وتمرد الجماهير أمام قصر العدل في ڤيينا. تقول نظرية كانيتي الأساسية، استناداً إلى فرويد، إن الناس يمتلكون علاوة على الحاجات الأساسية كالطعام والشراب والغريزة الجنسية، غريزة جماهيرية أيضاً. ويمكن للفرد المتطلع إلى إحراز موقع له في نطاق الجمهور أن يفي من موقعه هذا بالتزاماته ويسهم في إزالة الفروق الاجتماعية وفي استعادة الفرد حريته.
عندما نشر كانيتي روايته الأولى «غشاوة البصيرة»Die Blendung عام (1936) لم تحظ بأي اهتمام نقدي، فأعاد النظر فيها وأضاف إليها ونشرها عام 1963 فلفتت اهتمام النقاد والقراء، ولاسيما في ترجمتها الإنكليزية. والشخصية الرئيسية فيها مستشرق متخصص باللغة الصينية ومثقف كبير استبدل بأفراد المجتمع كتبه التي تملأ منزله، وعندما يتورط بالزواج من مدبرة منزله ويضطر عن طريقها للاحتكاك بالمجتمع ينهي حياته على محرقة وقودها كتبه. فهي إذاً لاتبتعد كثيراً من حيث الموضوع عن جوهر »الجماهير والسلطة«.
منذ أن نشر كانيتي «محاكمة كافكا الأخرى: رسائل كافكا إلى فِليس»Der andere Prozess: Kafkas Briefe. An Felice عام (1969) اشتهر بصفته كاتب مقالات متميزاً. فمن دراسته هذه الرسائل المهمة حلل كانيتي صراع كافكا بين وجوده المريح في أحضان الطبقة الوسطى وبين عزلته الفردية. وقد ترسخت هذه الشهرة عقب نشر «ضمير الكلمات»Das Gewissen der Worte عام (1975) و«أقنعة الكلمة»Wortmasken عام (1995)، ففي هاتين الدراستين تناول الباحث موضوعات أدبية، ولكن من جانبها اللغوي؛ فهو يرى أن الأديب يحمل مسؤولية أساسية في عملية إحياء اللغة وتنضيرها أو انحرافها نحو التفاهة والبذاءة بخلق أساطير مضللة، فرفض أعمال ليڤ تولستوي الأخيرة التي توحي بالرضوخ للعزاء الديني تعويضاً عن قسوة الواقع وظلمه، ووجد في كافكا معلماً حاذقاً تناول لغة السلطة أياً كانت مرجعيتها.
كتب كانيتي مؤلفات كبيرة أخرى مثل «أصوات مراكش»Die Stimmen von Marrakesch عام (1968) وهو من أدب الرحلات، و«يوميات» Aufzeichnungen التي صدرت في ثلاثة مجلدات غطت المرحلة الممتدة بين الأعوام 1942-1993. وهناك أيضاً سيرة حياته الغنية بالأحداث والشخصيات والتحليلات، وقد نشرها كانيتي تحت ثلاثة عنوانات لافتة: «اللسـان النـاجي» Die geretette Zunge عـام (1977) و«المشْعَل في الأذن» Die Fackel im Ohr عام (1980) و«لُعبة العيون» Das Augenspiel عام (1985).
حاز كانيتي منذ عام 1949 كثيراً من الجوائز الأدبية والأكاديمية الألمانية والأوربية والعالمية، منها جائزة نوبل لعام 1981. توفي في مدينة زوريخ وهو في التسعين من عمره.
أحمد حيدر، نبيل الحفار