في عالمنا الحالي يعد عدم الوثوق في العلم مشكلة كبيرة إذ تسبب وفاة كثير من الناس، فالكثير من المعلومات الزائفة والمضللة إما مفتعلة أو ممنهجة، بل الأسوأ هو قدرتها على الانتشار بسرعة على الإنترنت وبتأثير أكبر من الحقائق، وذلك وفقًا لأحد الأبحاث.
بحثت عالمة النفس أفيفا فيليب مولر بالتعاون مع زملائها في جامعة سايمون فريزر الكندية (SFU) في المواد العلمية المتعلقة بمهارات الإقناع والتواصل؛ وذلك لتقديم دراسة عامة ومتماسكة ومعاصرة من أجل القضاء على هذه المشكلة الخطيرة.
فإحدى الخرافات الكبرى حول إيصال رسالة العلم أن اطّلاع الأفراد على المعلومات سيقودهم إلى التصرف بعقلانية، لكن جائحة كورونا وأزمة المناخ قد أظهرا لنا أمثلة مغايرة، بل هي نموذج عما يعرف بنمط نقص المعلومات.
وأضاف ريتشارد بيتي المختص بعلم النفس: «كانت اللقاحات أمرًا طبيعيًا ومتعارفًا عليه، ولكن في السنوات الأخيرة حصلت بعض التغيرات التي سهّلت إقناع البشر بعدم تقبل الحقيقة العلمية للقاحات، وقد يكون من الصعب قول هذا، ولكن توجد الكثير من الأسباب المنطقية لديهم لعدم الوثوق بالعلم».
في البداية تقلل القطاعات الصناعية الثقة في العلم من خلال سرقة الوثائق العلمية ثم ادعائها العلم، وذلك لدعم نطاق نفوذها من أجل زيادة أرباحها، ومثال ذلك شركات الأدوية.
وقد يخفق العلم أحيانًا، وتُوقِد وسائل الإعلام الكبرى الآراء والعواطف المعادية ضد كبار الخبراء؛ وذلك لضخ آراء مناهضة للعلم، فيسلب الشك والصراع والمعلومات الهائلة ثقة الناس بالعلماء.
وفيما يلي سنتحدث عن أربعة عوامل تسبب رفض الكثير من الناس للعلم، والعامل المشترك في العوامل الأربعة هو التداخل الحاصل بين الحقائق العلمية وأفكار البشر وطريقة تفكيرهم.
1- عدم الوثوق في المصدر
يعد عدم الوثوق في مصدر المعلومة أحد أهم الأسباب في عدم تقبلنا الحقائق العلمية. وقد تسبب المناظرات العلمية الحيرة لمن ليسوا على دراية تامة بالمنهج العلمي، وأن تسبب ضررًا للوثوق بها إن أصبحت في متناول الجميع.
لمواجهة هذه المشكلة يقترح الباحثون التركيز على الطابع الاجتماعي للعلم، والتأكيد على أهداف البحث العامة والداعمة للمجتمع، وإدراك حالات الأفراد، والعقبات التي قد تواجهنا بدل تفاديها وذلك لتعزيز الثقة.
2- الولاء القَبَلي
معنى ذلك أن طريقة ارتباط تفكيرنا بنا بوصفنا كائنات اجتماعية بالفطرة -بغض النظر عن مقدار تحصيلنا العلمي- تجعل منا كائنات هشة تتبع بطريقة عمياء الأشخاص الذين نتعرف عليهم على أنهم من نفس مستوى وعينا الثقافي، ويطلق على هذه الظاهرة بالإدراك الثقاقي.
ويبيّن الإدراك الثقافي كيف أن الأفراد قد يحرفون الدلائل العلمية للتناسب مع مبادئهم التي تساهم في تشكيل هويتهم. ويعزز ذلك الاستقطاب السياسي ووسائل التواصل الاجتماعي، فمثلًا: يلجأ الجمهوريون لتصديق العلماء على قناة Fox News، بينما يتجه الليبراليون لقناة CNN، وتوفر منصات مثل Facebook خلاصات إخبارية تتوافق مع معايير الأفراد، ما يمّكن الجمهوريين والليبراليين من الحصول على معلومات متنوعة للغاية.
أما الحل، فهو إنشاء أرضية مشتركة بمعلومات مؤطرة لتستهدف جمهورًا محددّا، والتعاون مع مجتمعات تحمل آراءً مناهضة للعلم كان يهمشها العلم فيما سبق.
3- تصادم العلم مع معتقداتنا الشخصية
تقودنا المعلومات التي قد تُنشئ صراعات داخلية في أنفسنا (بتعارضها مع معتقداتنا الاجتماعية أو الشخصية كالأخلاق والدين) إلى مغالطات علمية وتحيزات معرفية، وهذا ما يعرف بالتنافر المعرفي.
من الصعب تقبل الأفراد للحقائق والدلائل العلمية إن شعروا أنهم كانوا مخطئين طوال هذا الوقت، ونستطيع تفهم هذه النزعة، لذلك يقتضي على العلماء تقبل ذلك. فأن البشر يشكلون آليات دفاعية إذا شعروا بأنهم مختلفون أو مهاجَمون.
وبعكس ما يمليه علينا الحدس، فإن رفع الوعي في العلم قد يعود علينا بنتائج عكسية؛ لأنه قد يساهم في تعزيز المعتقدات والأفكار السابقة. وعوضًا عن ذلك، يُنصح بتحصين الأفراد ضد المعلومات المغلوطة وكشف الزيف، وتعلم مهارات الثقافة الإعلامية والتحليل المنطقي، وقولبة المعلومات لتتناسب مع الجمهور وتجاربهم الشخصية.
4- تقديم المعلومات بنمط تعليمي غير مناسب
يعد هذا أكثر العوامل وضوحًا، وهو عدم توافق طريقة تقديم المعلومة مع أسلوب التعلم المناسب للمتلقي، كتفضيل البعض للمجرد على المعلومات الملموسة، أو التركيز على المنافع والأضرار.
هنا يقترح فيليب مولر وفريقه استخدام ذات التقنيات التي يستخدمها المناهضون للعلم، كاستخدام وسائل التكنولوجيا والإعلان. وعلى الباحثين استخدام البيانات الوصفية لإيصال رسائل العلم بناءً على عادات الأفراد على الإنترنت وملفاتهم الشخصية.
يعد المستوى الحالي في تقبل العامة للأبحاث مخيبا للآمال، ومع أن الوثوق في العلماء انخفض فإنه ما زال مرتفعًا نسبيًا بالمقارنة مع السلطات الإعلامية الأخرى.
في النهاية نفتخر بكوننا كائنات تتسم بالعقل والمنطق، لكننا نبقى كائنات فوضوية تحكمها غرائزها وعواطفها وتحالفاتها الاجتماعية. وإن كنت من داعمي العلم أو العاملين في مجاله، فيجب عليك أن تضع تلك العوامل الأربع في الحسبان.