غزل (فن)
Ghazal - Ghazal
الغزل (فن ـ)
الغزل فن أصيل في التراث العربي ضارب في القدم، مستمر في حياة العرب الثقافية والعاطفية. وكان لشعر الغزل عند العرب دواع إضافية لاضطرارهم في حياتهم القديمة إلى التنقل في أنحاء الجزيرة وعلى امتدادها؛ طلباً للماء والكلأ ومقومات الحياة. لقد أرهفت هذه الحياة نفوسهم، ورقَّقَتْ مشاعرهم وقلوبهم، ومن هنا صار الغزل أصيلاً في الشعر، طبيعة في وجدان الشعراء، وجزءاً أساسياً من حياتهم. وما تزال معاني الغُربة والفراق وبُعد المكان بين الحبيبين تتردّد في أشعارهم إلى اليوم، وإن انقضى زمان التنقّل العتيق من قرون بعيدة.
وفي «أدبيات الغزل» في التراث العربي ثلاث كلمات: الغزل، والنسب، والتشبيب. وقد اجتهد اللغويون والنقاد في بسط الفروق ووجوه الاتفاق في ما بينها.
فالغزل: حديث الفتيان والفتيات، واللهو مع النساء، وهو في الشعر: مدح ظاهر الأعضاء من المحبوب، أو ذكر أيام الوصل والهجر وما شابه ذلك.
والتشبيب في الشعر: ترقيق أوّله بذكر النساء، والشوق إليهن. (وهو من تشبيب النار وتأريثها). ثم سُمّي ابتداء القصائد مطلقاً بالتشبيب، وإن لم يكن فيه ذكر الشباب.
والنسيب: هو التشبيب بالنساء في الشعر والتغزّل بمحاسنهن. وفي تعريف قدامة أنه « ذِكْر الشاعر خَلْق النساء (بفتح الخاء) وأخلاقهن (ما تطبّعن به) وتصرّف أحوال الهوى معهنّ. والفرق بين الغزل والنسيب أن الغزل هو المعنى الذي اعتقده الإنسان في الصبوة إلى النساء نسب بهنّ من أجله، فكأن النسيب هو ذِكر الغزل، ويقال في الإنسان إنه غَزِل إذا كان متشكّلاً بالصورة التي تليق بالنساء…» إلخ. وقال ابن رشيق: «إن النسيب أكثر ما يستعمل في الشعر»، وقد يدخل في النسيب التشوّق والتذكّر لمعاهد (ديار) الأحبة.
والغزل أكثر أغراض الشعر العربي نتاجاً وقِدَماً، ويقدّر بنحو نصف النتاج الشعري، وهو غرض يفتح للشاعر باب الشعر إذا انقفلت دونه القريحة، وإضافة إلى تعبيره عن وجدان الشاعر، كان يورد في مقدمات القصائد لاستمالة الأسماع والقلوب (من كلمة ابن قتيبة).
والمرأة المخاطَبة في شعر الغزل هي المرأة العربية من الجاهلية القديمة إلى أوائل العصر العباسي حين دخلت نساء الدنيا اللواتي اختلطن بالعربيات (كالتركية والفارسية، والروميّة) إلى شعر الغزل، وتداخلت أوصافهن بأوصاف العربيات في القصائد والموشحات وغير ذلك. وفي شعر ابن حزم الكبير:
يعيبونها عندي بشقرة شعرها
فقلت لهم هذا الذي زانها عندي!
واستمر التيار القديم في استحباب المرأة وبيان مزيتها، كقول المتنبي:
من الجآذر في زي الأعاريب
حُمرُ الحُلى والمطايا والجلابيب
ولم يكن شعر الغزل واحداً، فقد ظهرت اتجاهات مختلفة منذ العصر الجاهلي، وكان العصر كفيلاً بتميّز خصائص كل اتجاه مع تفرّد تيار له أصول قديمة هو تيار الشعر العذري.
كثرت مصطلحات الغزل بحسب اتجاهاته، وإن تحدّدت معالم كل لون من ألوانه. فهناك الغزل الذي تصدّر به القصائد المطوّلة، ويقال فيه: الغزل التقليدي، وربما سمّي المصنوع. وصار لهذا اللون كاللازمة للمطولات المدحية وغيرها حتى قال المتنبي:
إذا قيل شعر فالنسيب المقدّم
أكلُّ لبيب قال شعراً متيّمُ؟!
ويدرجون تحته أشعار جرير والفرزدق والأخطل وأشباههم.
وهناك الشعر الذي يسترسل فيه الشاعر وراء رؤية عينه وهوى نفسه، ولا يقتصد في العبارات والمعاني، ويقال فيه: الغزل المادي أو المكشوف، كشعر امرئ القيس، وشعر العَرجيّ والأحوص ومن جرى على نهجهم، ويتميز عمر ابن أبي ربيعة عن هؤلاء بموقف مستقل (جاراه فيه حديثاً نزار قباني).
وبرز شعر عنترة في الجاهلية مثالاً للعفة مع الرقة والصبوة، ثم ظهر التيار العذري في الإسلام فكان ظاهرة في الغزل العربي تأثر أصحابها برقة البادية وعفة الإسلام والولوع بواحدة من الناس حتى الموت، ومن الغريب حقاً هذا التقارب في ظروف حياتهم وفي خصائص أشعارهم وفي وقوفهم عند محبوبة لا يتجاوزونها، وفيهم جميل ابن مَعْمر وكُثَيّر بن عبد الرحمن وقيس ابن ذريح وعُبيد الله بن قيس الرُّقيات، وأشهرهم قيس بن الملوح الذي حظي من زمانه بلقب المجنون (جنون الوجد والحبّ). ولعل أبرز ما يتصف به شعر هذا التيار اللوعة، ووحدانية المحبوب، والقناعة، ووصف نحول الجسم، ومن ذلك قول جميل بثينة:
وإني لأرضى مـن بثينـة بالذي
لَوَ ابْصَرَهُ الواشي لقرّت بلابله
بلا، وبأن لا أستطيـع، وبالمنـى
وبالأمل المرجو قد خاب آملُـه
وبالنظرة العجلى وبالحَوْل ينقضي
أواخـره لا نلتقـي، وأوائلُـه
واستمرّ هذا التيار في العصر العباسي في المشرق والأندلس، فظهر العباس بن الأحنف، وابن الدُّمَينة، وكان في الأندلس ابن الحدّاد، وابن زيدون وولاَّدة، وألّف فيه محمد بن داوود الظاهري كتاب «الزهرة»، وألَّف فيه ابن فرج الجياني الأندلسي «الحدائق»، وكتب ابن حزم «طوق الحمامة».
وتشوّه فن الغزل بظهور الغزل المذكّر في العصر العباسي مجاراة لتقاليد فنية غير عربية، وأشهر من جرى في هذا الميدان أبو نواس.
وبعد إغفاءة الشعر الأصيل زماناً صحا في العصر الحديث من البارودي وخلفائه، وخصوصاً شوقي وجماعة أبولّو، واسترسل الرومانسيون في شعر رقيق معجِب. وأسس نزار قباني مدرسة شعرية (مذهباً فنيّاً) ستبقى علماً عليه، منسوبة إليه.
وأكثر شعر الغزل يُبنى على الأساليب السهلة، ويفعم بالعواطف الجيّاشة، ويُستخرج من الشعراء معانيهم من مسارب عواطفهم، ورؤاهم الجمالية.
محمد رضوان الداية
Ghazal - Ghazal
الغزل (فن ـ)
الغزل فن أصيل في التراث العربي ضارب في القدم، مستمر في حياة العرب الثقافية والعاطفية. وكان لشعر الغزل عند العرب دواع إضافية لاضطرارهم في حياتهم القديمة إلى التنقل في أنحاء الجزيرة وعلى امتدادها؛ طلباً للماء والكلأ ومقومات الحياة. لقد أرهفت هذه الحياة نفوسهم، ورقَّقَتْ مشاعرهم وقلوبهم، ومن هنا صار الغزل أصيلاً في الشعر، طبيعة في وجدان الشعراء، وجزءاً أساسياً من حياتهم. وما تزال معاني الغُربة والفراق وبُعد المكان بين الحبيبين تتردّد في أشعارهم إلى اليوم، وإن انقضى زمان التنقّل العتيق من قرون بعيدة.
وفي «أدبيات الغزل» في التراث العربي ثلاث كلمات: الغزل، والنسب، والتشبيب. وقد اجتهد اللغويون والنقاد في بسط الفروق ووجوه الاتفاق في ما بينها.
فالغزل: حديث الفتيان والفتيات، واللهو مع النساء، وهو في الشعر: مدح ظاهر الأعضاء من المحبوب، أو ذكر أيام الوصل والهجر وما شابه ذلك.
والتشبيب في الشعر: ترقيق أوّله بذكر النساء، والشوق إليهن. (وهو من تشبيب النار وتأريثها). ثم سُمّي ابتداء القصائد مطلقاً بالتشبيب، وإن لم يكن فيه ذكر الشباب.
والنسيب: هو التشبيب بالنساء في الشعر والتغزّل بمحاسنهن. وفي تعريف قدامة أنه « ذِكْر الشاعر خَلْق النساء (بفتح الخاء) وأخلاقهن (ما تطبّعن به) وتصرّف أحوال الهوى معهنّ. والفرق بين الغزل والنسيب أن الغزل هو المعنى الذي اعتقده الإنسان في الصبوة إلى النساء نسب بهنّ من أجله، فكأن النسيب هو ذِكر الغزل، ويقال في الإنسان إنه غَزِل إذا كان متشكّلاً بالصورة التي تليق بالنساء…» إلخ. وقال ابن رشيق: «إن النسيب أكثر ما يستعمل في الشعر»، وقد يدخل في النسيب التشوّق والتذكّر لمعاهد (ديار) الأحبة.
والغزل أكثر أغراض الشعر العربي نتاجاً وقِدَماً، ويقدّر بنحو نصف النتاج الشعري، وهو غرض يفتح للشاعر باب الشعر إذا انقفلت دونه القريحة، وإضافة إلى تعبيره عن وجدان الشاعر، كان يورد في مقدمات القصائد لاستمالة الأسماع والقلوب (من كلمة ابن قتيبة).
والمرأة المخاطَبة في شعر الغزل هي المرأة العربية من الجاهلية القديمة إلى أوائل العصر العباسي حين دخلت نساء الدنيا اللواتي اختلطن بالعربيات (كالتركية والفارسية، والروميّة) إلى شعر الغزل، وتداخلت أوصافهن بأوصاف العربيات في القصائد والموشحات وغير ذلك. وفي شعر ابن حزم الكبير:
يعيبونها عندي بشقرة شعرها
فقلت لهم هذا الذي زانها عندي!
واستمر التيار القديم في استحباب المرأة وبيان مزيتها، كقول المتنبي:
من الجآذر في زي الأعاريب
حُمرُ الحُلى والمطايا والجلابيب
ولم يكن شعر الغزل واحداً، فقد ظهرت اتجاهات مختلفة منذ العصر الجاهلي، وكان العصر كفيلاً بتميّز خصائص كل اتجاه مع تفرّد تيار له أصول قديمة هو تيار الشعر العذري.
كثرت مصطلحات الغزل بحسب اتجاهاته، وإن تحدّدت معالم كل لون من ألوانه. فهناك الغزل الذي تصدّر به القصائد المطوّلة، ويقال فيه: الغزل التقليدي، وربما سمّي المصنوع. وصار لهذا اللون كاللازمة للمطولات المدحية وغيرها حتى قال المتنبي:
إذا قيل شعر فالنسيب المقدّم
أكلُّ لبيب قال شعراً متيّمُ؟!
ويدرجون تحته أشعار جرير والفرزدق والأخطل وأشباههم.
وهناك الشعر الذي يسترسل فيه الشاعر وراء رؤية عينه وهوى نفسه، ولا يقتصد في العبارات والمعاني، ويقال فيه: الغزل المادي أو المكشوف، كشعر امرئ القيس، وشعر العَرجيّ والأحوص ومن جرى على نهجهم، ويتميز عمر ابن أبي ربيعة عن هؤلاء بموقف مستقل (جاراه فيه حديثاً نزار قباني).
وبرز شعر عنترة في الجاهلية مثالاً للعفة مع الرقة والصبوة، ثم ظهر التيار العذري في الإسلام فكان ظاهرة في الغزل العربي تأثر أصحابها برقة البادية وعفة الإسلام والولوع بواحدة من الناس حتى الموت، ومن الغريب حقاً هذا التقارب في ظروف حياتهم وفي خصائص أشعارهم وفي وقوفهم عند محبوبة لا يتجاوزونها، وفيهم جميل ابن مَعْمر وكُثَيّر بن عبد الرحمن وقيس ابن ذريح وعُبيد الله بن قيس الرُّقيات، وأشهرهم قيس بن الملوح الذي حظي من زمانه بلقب المجنون (جنون الوجد والحبّ). ولعل أبرز ما يتصف به شعر هذا التيار اللوعة، ووحدانية المحبوب، والقناعة، ووصف نحول الجسم، ومن ذلك قول جميل بثينة:
وإني لأرضى مـن بثينـة بالذي
لَوَ ابْصَرَهُ الواشي لقرّت بلابله
بلا، وبأن لا أستطيـع، وبالمنـى
وبالأمل المرجو قد خاب آملُـه
وبالنظرة العجلى وبالحَوْل ينقضي
أواخـره لا نلتقـي، وأوائلُـه
واستمرّ هذا التيار في العصر العباسي في المشرق والأندلس، فظهر العباس بن الأحنف، وابن الدُّمَينة، وكان في الأندلس ابن الحدّاد، وابن زيدون وولاَّدة، وألّف فيه محمد بن داوود الظاهري كتاب «الزهرة»، وألَّف فيه ابن فرج الجياني الأندلسي «الحدائق»، وكتب ابن حزم «طوق الحمامة».
وتشوّه فن الغزل بظهور الغزل المذكّر في العصر العباسي مجاراة لتقاليد فنية غير عربية، وأشهر من جرى في هذا الميدان أبو نواس.
وبعد إغفاءة الشعر الأصيل زماناً صحا في العصر الحديث من البارودي وخلفائه، وخصوصاً شوقي وجماعة أبولّو، واسترسل الرومانسيون في شعر رقيق معجِب. وأسس نزار قباني مدرسة شعرية (مذهباً فنيّاً) ستبقى علماً عليه، منسوبة إليه.
وأكثر شعر الغزل يُبنى على الأساليب السهلة، ويفعم بالعواطف الجيّاشة، ويُستخرج من الشعراء معانيهم من مسارب عواطفهم، ورؤاهم الجمالية.
محمد رضوان الداية