مسلسل "الدم لا يصير ماء".. عندما تصبح الأسرة الدرع الأخير في المهجر
مسلسل "الدم لا يصير ماء" يعد صورة مفصلة بدقة لمجتمع المهجر بأجياله الثلاثة، وتحدياته الهائلة للتخلي عن الهوية مقابل النجاة.
ملصق مسلسل "الدم لا يصير ماء"
أسامة صفار
12/6/2023
لا تصدق المهاجر حين يخبرك بابتسامة عريضة وبشرة صافية أنه سعيد في حياته الجديدة، فثمة حالة "بتر نفسي وروحي" يصاب بها من يبتعد أو يتم إبعاده عن موطن ذكرياته، وهذه الحالة لا تسكن آلامها أبدا، وفي المجتمعات الغربية بشكل خاص، يشعر المهاجر أنه لا يشترك مع الآخرين في شيء سوى استنشاق الأكسجين نفسه، أما القيم والذائقة والأحلام واللون، فلا تشبه بعضها.
ويحاول كثير من المهاجرين الاندماج في مجتمعاتهم أملا في تسكين آلام الغربة بلا طائل، إذ كلما اقترب المهاجر من قلب المجتمع الغربي اصطدم بحائط زجاجي سميك وصلب.
وفي مسلسلها الجديد الذي شاركت في كتابته "الدم لا يصير ماء" (Thicker Than Water)، تؤكد الممثلة البلجيكية – الفرنسية ذات الأصل الجزائري نوال مدني هذا المعنى. فعلى هامش رصدها لقيمة التماسك الأسري وصلة الرحم التي تعكسها جذورها المجتمعية، تشير إلى ذلك التوحد المستحيل بين روح أصابها البتر الذاتي فأقعدها عن السعادة، وبين عالم غربي قد يقبل بوجودك المادي، لكنه من الصعب أن يقبل بوجودك المعنوي.
تدور أغلب أحداث المسلسل في ضواحي العاصمة الفرنسية باريس، حيث يسكن المهاجرون والفقراء، وتنتشر الجريمة وخاصة الاتجار في المخدرات، هناك تعيش الأسرة ذات الأصول الجزائرية التي تخلى عنها الأب وترك 3 بنات وولد هو أصغرهم، تعمل إحداهن مراسلة في إحدى القنوات، وتواجه تمييزا يمنعها من تقديم النشرة الرئيسية، لكنها لا تتوقف عن المواجهة، وتقوم بفضح هذا التمييز على الشاشة في أثناء بث أحد التقارير. ورغم أنه من الطبيعي أن تطرد، فإن رد فعل الجمهور الإيجابي يتيح لها الحصول على فرصتها.
اقتنصت فارا -التي لعبت دورها نوال مدني- فرصتها لتقديم النشرة الرئيسية رغم أنف الجميع، فوُضعت تحت الأنظار طمعا في التقاط أي خطأ أو هفوة.
تفرح أسرة فارا بعملها الجديد، لكن جملا حوارية تشير إلى أنه سيتم اتهامها بالخيانة من قبل مجتمعها، وهي إشارة أخرى إلى ذلك الضبط الذي يمارسه مجتمع المهاجرين أحيانا منعا لاندماج أبنائه في ثقافة الآخر، وحماية القيم الدينية والاجتماعية القادمة من الوطن.
يتورط سليم (شقيق فارا) -الذي يلعب دوره الممثل سليم لفلاحي- مع عصابة مخدرات ويصدم ضابط شرطة، فيلجأ إلى إخفاء سيارته لدى شقيقته، التي تحرقها بدورها دون أن تعلم أن بها مخدرات تقدر بحوالي 1.5 مليون يورو، ويهرب سليم إلى الجزائر خوفا من العصابة ومن الشرطة.
تجتمع الأخوات في محاولة لإنقاذ الشقيق، ويخفين عن الأم حقيقة ما يفعلن، بينما تكشف مراسلة بالقناة عن العلاقة بين فارا وسليم، وتواجه فارا مجددا احتمال الطرد من القناة كلها بجريرة أخيها، لكنها تسيطر على الموقف مرة أخرى، بينما يطاردها عمر زعيم العصابة -الذي يلعب دوره الممثل جبريل زونغا- للحصول على ثمن المخدرات.
ملامح مجتمع
لا يكتفي المسلسل بتأكيد قيمة التماسك الأسري وصلة الرحم الباقية والحامية لأعضاء الأسرة من توحش مجتمع الغربة، لكنه يقدم أيضا تلك الحيرة وذلك التمزق الذي ينتاب أبناء المهاجرين الذين لا يجدون في النهاية من ملجأ سوى الدعاء بحل إلهي.
وهنا يبدو التناقض واضحا بين سلوك شبه متحرر للبطلة التي تعمل مذيعة وتتبنى نمط حياة فرنسيا، والواقع نفسه الذي يحمل هذا التناقض، وقد نتج عن طعنة تلقتها الأسرة في البداية حين تخلى عنها عائلها عائدا وحده إلى الجزائر.
رغم الطرافة التي ميزت نسبة كبيرة من المواقف، ورغم الكوميديا التي استطاع العمل التخفيف بها عن المشاهد، فإن حسا مأساويا يلف "الدم لا يصير ماء" بكامله، بين رجال فقدوا القدرة على مواجهة الحياة وانكفؤوا قانعين بهزيمتهم، ونساء يتورطن في مواجهات لأنفسهن وللآخرين وبين أحلام ضائعة، وضحكات جاءت لتخفي مخاوف، لا لتعبر عن الفرح.
أمهات وجدات المجتمع المهاجر يظهرن في المسلسل وقد استنسخن الوطن، يتحدثن العربية، ويحاولن يائسات تعليم بناتهن وأحفادهن فنون الطبخ، لكن المسافة كبيرة بين الأجيال، إذ تثور الحفيدة على نمط حياة الأم، وتراها ضعيفة ومسكينة ووحيدة، وتقرر الانطلاق إلى تلك المساحة من الحرية والتحرر في المجتمع الفرنسي.
تتجلى مأساوية العمل في النهاية إذ تعود الجدة إلى الجزائر، بينما تقاد الأخوات الثلاث وبينهن فارا إلى السجن بعد أن دافعن عن شقيقهن بعنف أدى إلى حبسهن، ليستعد الشقيق للعودة إلى باريس بعد استقراره هاربا في الجزائر.
يحتوي العمل على كل أنواع الجرائم من المخدرات والقتل والابتزاز إلى التآمر والعنف، إلا أن ذلك السوار الذي يجمع الأسرة يبقى قويا في الحلقات الثماني وهو ما تشير إليه فارا في الحلقة الأولى "الأسرة تأتي قبل أي شيء".
أجيال وتحديات
تظهر الإضافة الحقيقية في "الدم لا يصير ماء" حين يكشف المسلسل عن مؤلف قام بفرز الأجيال الثلاثة، وحدد سمات مميزة، وخطايا لكل جيل، لدينا الأب الذي رحل وترك أما و4 أطفال، واضطرت للعمل في 3 وظائف حتى تتمكن من إطعامهم، ونشأت الفتيات الثلاث مختلفات تماما رغم العلاقة القوية بينهن، فإحداهن متدينة ومحجبة، تزوجت وأنجبت فتاتين، هما لينا المراهقة المتمردة، وإيمان المصابة بمتلازمة داون، أما الزوج فهو غير موجود.
الأخت الثانية تعمل موظفة متواضعة، تعاني من ضعف الزوج على كل المستويات، وعدم قدرته على حمايتها وسط الجالية.
أما الثالثة فهي فارا، التي تتحدى واقعها الاجتماعي والاقتصادي وتقرر أن تصبح صحفية، وتحارب على جبهات كثيرة في عملها وفي حياتها العائلية، لكن التماسك الأسري يظل هو القيمة الأهم في حياتها.
وأخيرا، الصغير "سليم" الذي عاش الحرمان من والدته بسبب عملها في الوظائف الثلاث لإطعامه وأخواته، فشعر بكراهية واحتقار شديدين تجاه والده، وقرر أن يوفر المال بأسرع طريقة ممكنة ليحمي أسرته من الحاجة، فاختار الاتجار في المخدرات، وفر من فرنسا كلها تاركا أسرته كما فعل والده من قبل.
ويشكل الإخوة الأربعة معا جيل التحدي الحقيقي في المهجر، ذلك أن الأب والأم قد تشكلا وأصبح مستقبلهما ماضيا بالفعل بعد أن وصلا إلى قرب النهاية التي اختارها كل منهما على طريقته، وبقي لجيل الأبناء أن يتحرروا من كوارث الطفولة والبيئة المحيطة، ويحاولوا صناعة مستقبل وسط اختيارات تبقى محدودة لأسباب تتعلق باللون والعرق والانتماء في مجتمع لا يخفي عنصريته إلا في التصريحات السياسية.
الجيل الثالث هو الأحفاد الذين برزت منهم لينا المتمردة، التي ترى في والدتها ضحية قراراتها وضعفها واختيارها العيش في دائرة ضيقة من أبناء الجالية، فتخرج من دون علمها وتتورط في علاقة عاطفية مع شاب شديد الثراء، وتقرر مواجهة مجتمعها دفاعا عن اختيارها، ولكن يتم اختطافها من قبل العصابة.
مسلسل "الدم لا يصير ماء" هو صورة مفصلة بدقة لمجتمع المهجر بأجياله الثلاثة، وتحدياته الهائلة للتخلي عن الهوية مقابل النجاة.
مسلسل "الدم لا يصير ماء" يعد صورة مفصلة بدقة لمجتمع المهجر بأجياله الثلاثة، وتحدياته الهائلة للتخلي عن الهوية مقابل النجاة.
ملصق مسلسل "الدم لا يصير ماء"
أسامة صفار
12/6/2023
لا تصدق المهاجر حين يخبرك بابتسامة عريضة وبشرة صافية أنه سعيد في حياته الجديدة، فثمة حالة "بتر نفسي وروحي" يصاب بها من يبتعد أو يتم إبعاده عن موطن ذكرياته، وهذه الحالة لا تسكن آلامها أبدا، وفي المجتمعات الغربية بشكل خاص، يشعر المهاجر أنه لا يشترك مع الآخرين في شيء سوى استنشاق الأكسجين نفسه، أما القيم والذائقة والأحلام واللون، فلا تشبه بعضها.
ويحاول كثير من المهاجرين الاندماج في مجتمعاتهم أملا في تسكين آلام الغربة بلا طائل، إذ كلما اقترب المهاجر من قلب المجتمع الغربي اصطدم بحائط زجاجي سميك وصلب.
وفي مسلسلها الجديد الذي شاركت في كتابته "الدم لا يصير ماء" (Thicker Than Water)، تؤكد الممثلة البلجيكية – الفرنسية ذات الأصل الجزائري نوال مدني هذا المعنى. فعلى هامش رصدها لقيمة التماسك الأسري وصلة الرحم التي تعكسها جذورها المجتمعية، تشير إلى ذلك التوحد المستحيل بين روح أصابها البتر الذاتي فأقعدها عن السعادة، وبين عالم غربي قد يقبل بوجودك المادي، لكنه من الصعب أن يقبل بوجودك المعنوي.
تدور أغلب أحداث المسلسل في ضواحي العاصمة الفرنسية باريس، حيث يسكن المهاجرون والفقراء، وتنتشر الجريمة وخاصة الاتجار في المخدرات، هناك تعيش الأسرة ذات الأصول الجزائرية التي تخلى عنها الأب وترك 3 بنات وولد هو أصغرهم، تعمل إحداهن مراسلة في إحدى القنوات، وتواجه تمييزا يمنعها من تقديم النشرة الرئيسية، لكنها لا تتوقف عن المواجهة، وتقوم بفضح هذا التمييز على الشاشة في أثناء بث أحد التقارير. ورغم أنه من الطبيعي أن تطرد، فإن رد فعل الجمهور الإيجابي يتيح لها الحصول على فرصتها.
اقتنصت فارا -التي لعبت دورها نوال مدني- فرصتها لتقديم النشرة الرئيسية رغم أنف الجميع، فوُضعت تحت الأنظار طمعا في التقاط أي خطأ أو هفوة.
تفرح أسرة فارا بعملها الجديد، لكن جملا حوارية تشير إلى أنه سيتم اتهامها بالخيانة من قبل مجتمعها، وهي إشارة أخرى إلى ذلك الضبط الذي يمارسه مجتمع المهاجرين أحيانا منعا لاندماج أبنائه في ثقافة الآخر، وحماية القيم الدينية والاجتماعية القادمة من الوطن.
يتورط سليم (شقيق فارا) -الذي يلعب دوره الممثل سليم لفلاحي- مع عصابة مخدرات ويصدم ضابط شرطة، فيلجأ إلى إخفاء سيارته لدى شقيقته، التي تحرقها بدورها دون أن تعلم أن بها مخدرات تقدر بحوالي 1.5 مليون يورو، ويهرب سليم إلى الجزائر خوفا من العصابة ومن الشرطة.
تجتمع الأخوات في محاولة لإنقاذ الشقيق، ويخفين عن الأم حقيقة ما يفعلن، بينما تكشف مراسلة بالقناة عن العلاقة بين فارا وسليم، وتواجه فارا مجددا احتمال الطرد من القناة كلها بجريرة أخيها، لكنها تسيطر على الموقف مرة أخرى، بينما يطاردها عمر زعيم العصابة -الذي يلعب دوره الممثل جبريل زونغا- للحصول على ثمن المخدرات.
ملامح مجتمع
لا يكتفي المسلسل بتأكيد قيمة التماسك الأسري وصلة الرحم الباقية والحامية لأعضاء الأسرة من توحش مجتمع الغربة، لكنه يقدم أيضا تلك الحيرة وذلك التمزق الذي ينتاب أبناء المهاجرين الذين لا يجدون في النهاية من ملجأ سوى الدعاء بحل إلهي.
وهنا يبدو التناقض واضحا بين سلوك شبه متحرر للبطلة التي تعمل مذيعة وتتبنى نمط حياة فرنسيا، والواقع نفسه الذي يحمل هذا التناقض، وقد نتج عن طعنة تلقتها الأسرة في البداية حين تخلى عنها عائلها عائدا وحده إلى الجزائر.
رغم الطرافة التي ميزت نسبة كبيرة من المواقف، ورغم الكوميديا التي استطاع العمل التخفيف بها عن المشاهد، فإن حسا مأساويا يلف "الدم لا يصير ماء" بكامله، بين رجال فقدوا القدرة على مواجهة الحياة وانكفؤوا قانعين بهزيمتهم، ونساء يتورطن في مواجهات لأنفسهن وللآخرين وبين أحلام ضائعة، وضحكات جاءت لتخفي مخاوف، لا لتعبر عن الفرح.
أمهات وجدات المجتمع المهاجر يظهرن في المسلسل وقد استنسخن الوطن، يتحدثن العربية، ويحاولن يائسات تعليم بناتهن وأحفادهن فنون الطبخ، لكن المسافة كبيرة بين الأجيال، إذ تثور الحفيدة على نمط حياة الأم، وتراها ضعيفة ومسكينة ووحيدة، وتقرر الانطلاق إلى تلك المساحة من الحرية والتحرر في المجتمع الفرنسي.
تتجلى مأساوية العمل في النهاية إذ تعود الجدة إلى الجزائر، بينما تقاد الأخوات الثلاث وبينهن فارا إلى السجن بعد أن دافعن عن شقيقهن بعنف أدى إلى حبسهن، ليستعد الشقيق للعودة إلى باريس بعد استقراره هاربا في الجزائر.
يحتوي العمل على كل أنواع الجرائم من المخدرات والقتل والابتزاز إلى التآمر والعنف، إلا أن ذلك السوار الذي يجمع الأسرة يبقى قويا في الحلقات الثماني وهو ما تشير إليه فارا في الحلقة الأولى "الأسرة تأتي قبل أي شيء".
أجيال وتحديات
تظهر الإضافة الحقيقية في "الدم لا يصير ماء" حين يكشف المسلسل عن مؤلف قام بفرز الأجيال الثلاثة، وحدد سمات مميزة، وخطايا لكل جيل، لدينا الأب الذي رحل وترك أما و4 أطفال، واضطرت للعمل في 3 وظائف حتى تتمكن من إطعامهم، ونشأت الفتيات الثلاث مختلفات تماما رغم العلاقة القوية بينهن، فإحداهن متدينة ومحجبة، تزوجت وأنجبت فتاتين، هما لينا المراهقة المتمردة، وإيمان المصابة بمتلازمة داون، أما الزوج فهو غير موجود.
الأخت الثانية تعمل موظفة متواضعة، تعاني من ضعف الزوج على كل المستويات، وعدم قدرته على حمايتها وسط الجالية.
أما الثالثة فهي فارا، التي تتحدى واقعها الاجتماعي والاقتصادي وتقرر أن تصبح صحفية، وتحارب على جبهات كثيرة في عملها وفي حياتها العائلية، لكن التماسك الأسري يظل هو القيمة الأهم في حياتها.
وأخيرا، الصغير "سليم" الذي عاش الحرمان من والدته بسبب عملها في الوظائف الثلاث لإطعامه وأخواته، فشعر بكراهية واحتقار شديدين تجاه والده، وقرر أن يوفر المال بأسرع طريقة ممكنة ليحمي أسرته من الحاجة، فاختار الاتجار في المخدرات، وفر من فرنسا كلها تاركا أسرته كما فعل والده من قبل.
ويشكل الإخوة الأربعة معا جيل التحدي الحقيقي في المهجر، ذلك أن الأب والأم قد تشكلا وأصبح مستقبلهما ماضيا بالفعل بعد أن وصلا إلى قرب النهاية التي اختارها كل منهما على طريقته، وبقي لجيل الأبناء أن يتحرروا من كوارث الطفولة والبيئة المحيطة، ويحاولوا صناعة مستقبل وسط اختيارات تبقى محدودة لأسباب تتعلق باللون والعرق والانتماء في مجتمع لا يخفي عنصريته إلا في التصريحات السياسية.
الجيل الثالث هو الأحفاد الذين برزت منهم لينا المتمردة، التي ترى في والدتها ضحية قراراتها وضعفها واختيارها العيش في دائرة ضيقة من أبناء الجالية، فتخرج من دون علمها وتتورط في علاقة عاطفية مع شاب شديد الثراء، وتقرر مواجهة مجتمعها دفاعا عن اختيارها، ولكن يتم اختطافها من قبل العصابة.
مسلسل "الدم لا يصير ماء" هو صورة مفصلة بدقة لمجتمع المهجر بأجياله الثلاثة، وتحدياته الهائلة للتخلي عن الهوية مقابل النجاة.