مسرح ملحمي
Epic theatre - Théâtre épique
المسرح الملحمي
المسرح الملحمي epic theatre¨ episches Theater شكل مسرحي في الكتابة والعرض ظهر في نهايات القرن التاسع عشر، محاولةً من المسرحيين للخروج من أزمة الشكل الدرامي المهيمن، باللجوء إلى أدوات السرد الملحمي التي كانت حكراً على الملحمة وحسب. والهدف من ذلك هو الخروج من محدودية الشكل الدرامي التقليدي، الذي اقتصر على عرض قصص الأفراد، بغرض عرض العلاقات المجهولة التي تملي على الفرد سلوكاً معيناً، في حين يبدو سلوكه اختياراً حراً. وقد انحصرت هذه المحاولات بداية في ألمانيا، وكانت بوادرها في مسرحيات الألماني فرانك فدِكيندْ[ر] ذي الأسلوب ما قبل التعبيري Pre-expressionist الذي اعتمد على عرض أحداثٍ من الحياة اليومية تبدو ظاهرياً غير مترابطة حتى نهاية الحكاية، حين يربط المشاهد فيما بينها. ثم ظهرت سمات الشكل الملحمي في الأعمال الإخراجية للفنان إرڤين بيسكاتور Erwin Piscator منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى، والذي تعاون معه بريخت (بريشْت)[ر] عام 1927، وكذلك في الأعمال الإخراجية عند ليوبولد يسْنِر Leopold Jessner؛ فقد لجأ كلاهما إلى استخدام مؤثرات التقانات المسرحية لتأكيد الشكل الملحمي في النصوص المسرحية أو سيناريوهات العرض الجديدة. فقد كان بيسكاتور في عروضه يحوَّل المادة الدرامية النصيّة إلى تشخيص لسمات العصر، فلم ينصَب تركيزه على حكايات الأفراد ومصائرهم وإنما على الأسباب التاريخية للأحداث، مثل مقدمات الحرب العالمية الأولى وسياقها ونتائجها، أو أسباب إخفاق ثورة عام 1919 الألمانية، أو أسباب التضخم المالي والأزمة الاقتصادية، أو وضع القوانين الناظمة للعلاقات الجنسية وارتباط ذلك بمصالح الطبقات والشرائح الاجتماعية المختلفة، أو سياسة الأجور التي فرضتها الاحتكارات الصناعية العالمية وانعكاساتها على العمال في البلدان الصناعية والمتخلفة. إن الهدف من استخدام مؤثرات التقانات في الكتابة والإخراج على حد سواء هو إبراز الحدث الدرامي بصفته جزءاً وعنصراً من تلك العناصر المجهولة، بمعنى كونها محركاً وظيفياً لا أكثر.
استخدم بيسكاتور في أعماله الإخراجية المسرحية الأولى الاستعراض revue؛ لأن فقراته تخدمه في تحقيق القفزات الزمانية والمكانية للحدث بتغييرات بسيطة في المناظر (الديكور)، ثم تعقدت حلوله الإخراجية تقانياً في أعماله اللاحقة، ولكن من أجل تبسيط عملية توصيل المعنى المقصود إلى المشاهدين، أي الربط بين الخاص والعام، الفردي والمجتمعي، المحلي والعالمي. وقد أضاف إلى الحلول التقانية وسائل إيضاح مثل اللوحات المكتوبة وأشرطة التسجيل الناطقة والجداول لتفسير كون الحدث المعروض جزءاً من كلٍ، معتمداً في ذلك على الوثائق، ومنها الأفلام الوثائقية التي أدت وظائف سردية بالغة الأهمية في سياق العروض، كما في «هوبلا، نحن نحيا» لإرنست تولَّر[ر] وفي «مغامرات الجندي الشجاع شڤيك» لياروسلاڤ هاتشِك[ر]. وقد أوضح بيسكاتور أسلوبه في العمل الإخراجي وتطوراته في كتابه «المسرح السياسي» Das politische Theater ت(1929).
ارتبط مصطلح المسرح الملحمي عالمياً، على صعيد الكتابة المسرحية والإخراج والتنظير، باسم برتولت بريشت الذي حدد في ملحق مسرحيته «مهاغوني» ولأول مرة الفوارق الرئيسية بين المسرح الدرامي والمسرح الملحمي، ثم طور نظريته في كتاب «شراء النحاس» Messingkauf ووصل بها إلى مرحلة النضج المتكامل في «الأورغانون الصغير للمسرح» Das kleine Organon für das Theater، وفي الصياغة الثالثة لمسرحيته «غاليليو غاليليه» التي وسمها بمصطلح «المسرح الجدلي» dialektisches Theater متجاوزاً به حدود المسرح الملحمي. وقد كان هدف بريشت توعية المشاهد بحقيقة العلاقات التي تحكم العالم والفرد سياسياً واقتصادياً ومن ثم اجتماعياً وثقافياً، لكي يتمكن عن طريق المعرفة من تغييرها بالعمل الجماعي المنظم لمصلحة المضطهَدين والمستغَلين، أي المنتجين الحقيقيين للثروات المادية. ولم يتمكن بريشت من بلورة منهجه المسرحي إلا بعد سنوات طويلة من الاطّلاع على منجزات المسرح العالمي على صعيد فن العرض واستيعابها إبداعياً، ولاسيما المسرح السنسكريتي والصيني والياباني والإندونيسي، وإعادة النظر في المسرح الكوميدي الإغريقي وفي مسرح شكسبير[ر] الإليزابيثي. وكان المرتكز الرئيسي في نظريته وتطبيقاته العملية هو ما أسماه «مؤثر التغريب» (V E) Verfremdungseffekt أو alienation effect بالإنكليزية، أو distanciation بالفرنسية، والمقصود في كل الحالات هو جعل ما هو مألوف يبدو غريباً، بغرض الانتباه إليه وتحليله عقلانياً لفهم موقعه في السياق العام للعلاقة التي تحكم الأحداث المعروضة في العمل المسرحي. ولتحقيق مؤثر التغريب هناك وسائل عديدة، بدءاً من أسلوب الكتابة النصية، كاستخدام تعبير من علم الاقتصاد المعاصر في أثناء الحديث عن صفقات يوليوس قيصر[ر] في حروبه من أجل تعزيز هيمنة روما. كما يمكن تحقيق مؤثر التغريب موسيقياً بتوظيف لحن يتعارض مع الحالة الدرامية في المشهد، أو باستخدام الأقنعة النصفية المرسومة على الوجه بألوان تناقض التأويلات المألوفة، أو بإلباس الشخصية زياً يتناقض مع عصره، كلبس هملت بذلة سهرة سوداء من القرن العشرين في أثناء عرض الفرقة الجوالة مشهد القتل أمام مغتصب العرش كلاوديوس. كما يمكن للإضاءة ومفردات «الديكور» أن تؤدي وظائف تغريبية بالغة الأهمية في العرض. والنقطة الأهم في الموضوع تتركز في فن التمثيل، فبريشت يطالب ممثله المحترف والمثقف بأن يتخذ موقفاً من الدور الذي يؤديه وأن يجعل ذلك مرئياً في أدائه بالكسور Brüche ـ أي بالتوقف المفاجئ في سياق الأداء والعودة إلى طبيعته مثلاً ثم الاستمرار في أداء الدور ـ التي يدخلها في سياق اللعب، كيلا يحدث أي تقمص للدور من قبل الممثل، وكيلا يتماهى المشاهد في الدور، وفي هذا إلغاء لفاعلية العقل.
وقد فهم بعض العاملين في الحقل المسرحي منهج بريشت على أنه يتناقض مع منهج ستانسلافسكي[ر]. لكن المؤتمر المسرحي الدولي الذي عقد في برلين عام 1953 بيَّن خلاف ذلك، سوى ما يتعلق بطبيعية/واقعية الديكور في عروض ستانسلافسكي، التي قد تساعد على تحقيق التماهي.
تقوم النصوص الدرامية عادة على بنية مغلقة متواشجة في عناصرها، بحيث تؤدي أحداث سياقها المتتالية توليدياً إلى إبراز مقولة الكاتب في الموضوع المعالج. أما بنية النص الملحمي فهي تعتمد بنية متغايرة العناصر، مع الحفاظ على قوام الحكاية، بحيث تبرز التناقضات للعيان، أو لعقل المشاهد المحلِل، الذي لابد له من التدخل في سياق العملية التاريخية إيجابياً، كيلا يبقى موضوعاً سلبياً. ولكن بدلاً من أن يخضع قوام الحكاية لتسلسل البنية الدرامية فإنه يتعرض في البنية الملحمية لتقطيع يتخلله الراوي أو الجوقة أو القصائد والأغاني أو وسائل الإيضاح والتعليقات الشارحة، بحيث تتغير وظيفة عنصر التشويق من انتظار النهاية إلى متابعة تفصيلات السياق.
قال المخرج العالمي بيتر بروك P.Brooke: إنه «لا يمكن فهم المسرح المعاصر وصنعه من دون استيعاب منهج بريشت»، معبراً بذلك عن انتشار هذا المنهج عالمياً، لا بسبب جدة شكله، بل نتيجة محموله الفكري الإنساني المطالِب بالتغيير. وقد وصلت موجة المسرح الملحمي إلى البلدان العربية منذ أواخر الخمسينيات وانتشرت على نحو مؤثر على صعيد التأليف والإخراج والتمثيل منذ حرب حزيران/يونيو 1967، مروراً بالسبعينيات حتى منتصف الثمانينيات. ولاسيما أن المنطقة العربية آنئذ كانت تخوض تجربة حركة التحرر الوطني، وبحاجة إلى التعبير الفني الملائم الذي وجدته في المسرح الملحمي ثم في المسرح الوثائقي.
نبيل الحفار
Epic theatre - Théâtre épique
المسرح الملحمي
برتولد بريشت (بريخت) صاحب نظرية المسرح الملحمي |
استخدم بيسكاتور في أعماله الإخراجية المسرحية الأولى الاستعراض revue؛ لأن فقراته تخدمه في تحقيق القفزات الزمانية والمكانية للحدث بتغييرات بسيطة في المناظر (الديكور)، ثم تعقدت حلوله الإخراجية تقانياً في أعماله اللاحقة، ولكن من أجل تبسيط عملية توصيل المعنى المقصود إلى المشاهدين، أي الربط بين الخاص والعام، الفردي والمجتمعي، المحلي والعالمي. وقد أضاف إلى الحلول التقانية وسائل إيضاح مثل اللوحات المكتوبة وأشرطة التسجيل الناطقة والجداول لتفسير كون الحدث المعروض جزءاً من كلٍ، معتمداً في ذلك على الوثائق، ومنها الأفلام الوثائقية التي أدت وظائف سردية بالغة الأهمية في سياق العروض، كما في «هوبلا، نحن نحيا» لإرنست تولَّر[ر] وفي «مغامرات الجندي الشجاع شڤيك» لياروسلاڤ هاتشِك[ر]. وقد أوضح بيسكاتور أسلوبه في العمل الإخراجي وتطوراته في كتابه «المسرح السياسي» Das politische Theater ت(1929).
نموذج من المسرح الملحمي "إنسان ستشوان الطيب" لبريشت |
وقد فهم بعض العاملين في الحقل المسرحي منهج بريشت على أنه يتناقض مع منهج ستانسلافسكي[ر]. لكن المؤتمر المسرحي الدولي الذي عقد في برلين عام 1953 بيَّن خلاف ذلك، سوى ما يتعلق بطبيعية/واقعية الديكور في عروض ستانسلافسكي، التي قد تساعد على تحقيق التماهي.
تقوم النصوص الدرامية عادة على بنية مغلقة متواشجة في عناصرها، بحيث تؤدي أحداث سياقها المتتالية توليدياً إلى إبراز مقولة الكاتب في الموضوع المعالج. أما بنية النص الملحمي فهي تعتمد بنية متغايرة العناصر، مع الحفاظ على قوام الحكاية، بحيث تبرز التناقضات للعيان، أو لعقل المشاهد المحلِل، الذي لابد له من التدخل في سياق العملية التاريخية إيجابياً، كيلا يبقى موضوعاً سلبياً. ولكن بدلاً من أن يخضع قوام الحكاية لتسلسل البنية الدرامية فإنه يتعرض في البنية الملحمية لتقطيع يتخلله الراوي أو الجوقة أو القصائد والأغاني أو وسائل الإيضاح والتعليقات الشارحة، بحيث تتغير وظيفة عنصر التشويق من انتظار النهاية إلى متابعة تفصيلات السياق.
قال المخرج العالمي بيتر بروك P.Brooke: إنه «لا يمكن فهم المسرح المعاصر وصنعه من دون استيعاب منهج بريشت»، معبراً بذلك عن انتشار هذا المنهج عالمياً، لا بسبب جدة شكله، بل نتيجة محموله الفكري الإنساني المطالِب بالتغيير. وقد وصلت موجة المسرح الملحمي إلى البلدان العربية منذ أواخر الخمسينيات وانتشرت على نحو مؤثر على صعيد التأليف والإخراج والتمثيل منذ حرب حزيران/يونيو 1967، مروراً بالسبعينيات حتى منتصف الثمانينيات. ولاسيما أن المنطقة العربية آنئذ كانت تخوض تجربة حركة التحرر الوطني، وبحاجة إلى التعبير الفني الملائم الذي وجدته في المسرح الملحمي ثم في المسرح الوثائقي.
نبيل الحفار