عبد الواحد لؤلؤة
«وإذا المَنيّةُ أنشَبَت أظفارَها / ألفيتَ كلَّ تَميمةٍ لا تَنفعُ»: الشعراء والموت
12 - مارس - 2022
حضور الموت في الحياة لا يكاد يفارق ذاكرة الإنسان سَويّ التفكير. وقد يكون الشعراء أكثر من يعبّر عن حضور الموت الذي قد يفاجئ الإنسان في غير المتوقع من الظروف. لذا يكون التعبير في إطار من الخوف، أو في عبارات من الحكمة والنصيحة، والتذكير بأن الموت أقوى من كلّ الأقوياء من البشر. فهذا هوميروس أكبر شعراء الإغريق يختتم الكتاب 23 من الإلياذة بمرثاة هيلين الطروادية وهي تستقبل جثمان البطل هيكتور: «كانت هذه طقوس دفن هيكتور مروِّض الخيول». فقد كان هيكتور بطلا في معارك الإلياذة ولكن الموت غَلبَه في النهاية، وكان الرثاء الحزين كل ما بقى من ذكراه.
وفي تراث الشعر العربي نجد طرفة بن العَبد يتكلم بحكمة فِطرية دونها فلسفة اللاحقين:
أرى الموتَ يَعتامُ الكرامَ ويَصطفي/عقيلةَ مالِ الفاحِشِ المُتشدِّدِ
أرى الدهر كنزاً ناقصا كلّ ليلة / وما تُنقِصُ الأيام والدهرُ ينفَدِ
وقد امتدّت الحكمة الجاهلية إلى أبي ذؤيب الهذلي الذي عاش في الجاهلية والإسلام وفي العهد الأموي. ففي رثاء أولاده الخمسة، الذين أصابهم الطاعون في مصر، يقول أبو ذؤيب:
وإذا المَنيّةُ أنشَبَت أظفارَها / ألفيتَ كلَّ تَميمةٍ لا تَنفعُ
وأبوالعلاء المعرّي عجيبٌ في كل ما يقول، ومن ذلك رأيه في الموت الذي يُشبه الولادة. لذلك طلب أن يُكتب على قبره: «هذا جَناه أبي عليّ/ وما جنيتُ على أحد». وما لا يقلّ شُهرةً عن ذلك قوله:
غيرُ مُجدٍ في مِلّتي واعتقادي / نوحُ باكٍ ولا ترنُّم شادي
وشبيهٌ صوتُ النَعيّ إذا قيس / بصوت البشير في كل نادي
تعبٌ كلّها الحياةُ فما أعجبُ / إلا لراغبٍ في ازديادِ
وأحسب أن كلمة «ازدياد» هنا تعني «الولادة» وقد بقيت الكلمة تعني ذلك في بعض بلاد المغرب العربي. ففي تونس يسألونك عن «تاريخ الإزدياد» أي تاريخ الولادة. فعند المعرّي يكون النعي بموت أحد مثل البشير بولادة أحد. وإن كنت لا ترى ذلك «يا صاحبي» قال لك:
صاحِ هذي قبورُنا تملأ الرُّحبَ / فاين القبور من عهد عادِ؟ّ!
وبقيت صورة الموت في ذهن الشعراء صورة وَحشٍ كاسِر له أنيابٌ وأظفار ومخالب، حتى في العصر الحديث. فهذا الجواهري (ت. 1997) يصِف الموت هكذا:
ذِئبٌ تَرصّدني وفوقَ نيوبِه / دمُ إخوتي وأقاربي وصِحابي.
والموت، الوحش، الذئب، الذي يترصّد من وراء الباب يستهوي الأطفال لكي يروا ما وراء ذلك الباب. يقول السيّاب
( 1926- 1964):
فالموتُ عالَمٌ غريبٌ يفتن الصغار،
وبابُه الخفيّ كان فيك يا بُوَيب.
ومن الشعراء الذين لا يغيب عن بالهم الموت محمود درويش، الذي يخاطب الموت كأنه بشرٌ ماثلٌ أمامه، بلغةٍ تكاد تكون ودّية، على ما فيها من عتاب صديق لصديق. وهذا ما قد يثير القشعريرة عند بعض القرّاء لأنها لغةٌ تُشَخصِن الموت، ذلك اللامرئي:
ويا مَوتُ انتظِر يا مَوتُ
حتى أستعيدَ صفاءَ ذهني في الربيع وصِحّتي
لتكون صيّاداً شريفاً
لا يصيد الظبيَ قربَ النَبع
ولتكُنِ العلاقة بيننا ودّيةً وصريحة.
ومن الشعراء الذين لا يغيبُ الموتُ عن أذهانهم شاعر الهند الأكبر طاغور الذي توفي عام 1941. وعندما كلّفني المُجَمّع الثقافي في أبو ظبي عام 1994 بترجمة مجموعة كبيرة من أشعار طاغور هالني ما وجدتُ من احتفائه بجمال الطبيعة والفصول والأشجار والأزهار، من كل نوع وصنف، لم أجد مقابلاً لها في العربية، وكان في ذلك كلِّه مُشرقَ المزاج خفيفَ الروح، ولم أجِد لدَيه ما يمكن أن يوصف بالتشاؤم أو الخوف من الموت. ولكن الموت لم يغِب عن باله. ولو أنه كان يذكره بالالتفاف حول الكلمة التي تشير إلى الموت. فقد كان يقول:
«ذات يوم ستتوقف كلماتي عن الازدهار في المدى/ ولا مفر لي من الانتهاء بنظرةٍ أخيرة/ وكلمةٍ أخيرة/ وإن كانت الرغبةُ في الحياة حقيقةً كُبرى/ فالوداع النهائي هو حقيقةٌ كُبرى أخرى».
ومن شعراء الحداثة المعاصرين في العراق، بُلَند الحيدري، الذي عرفتُه عن قريب لسنوات طويلة في بغداد الخمسينات، ولم أجد منه سوى المراح وإطلاق الأوصاف الساخرة على كل حدثٍ أو شخصٍ تقريباً، بما في ذلك السخرية من تصرفاته الشخصية نفسها. ولم يخطر ببالي يوماً أنه سيكتب قصيدةً بعنوان موت شاعر:
أسلمَ الرأسَ لكفّيه خذولا / وتمَطّت بازدراءٍ شفتاهُ
خفقت بَسمَتُه دنيا أسى / كنهارٍ شَرب الغيمَ سناهُ…
والحديث عن تشاؤم الشاعر والتفكير في الموت لا يمكن أن يتخطّى إنتاج شاعرة العراق الكبرى نازك الملائكة. فقد كانت الشاعرة في صِباها من المتأثرين بتشاؤم الفيلسوف الألماني
شوبنهاور، كما تذكُر في كتاباتها. ففي العشرين من عمرها أصدرت مجموعة شعرية بعنوان «مأساة الحياة» تتحدث فيها عن الموت بتشاؤم. وعندما سُئِلتْ عن معنى الموت عندها أجابت:
هل فهمتُ الحياة كي أفهم الموت / وأدنو من سرِّه المكنونِ
لم يزل عالمُ المَنيّةِ لُغزاَ / عزّ حلاّ على فؤاد الحزينِ
وآخر شعراء الحداثة في العراق، وأبرز من غنّى للعراق اعتزازاً وتكريماً، عبد الرزاق عبد الواحد، الذي يتّصل نَسَبُه الشعري بالجواهري والمتنبي، لا يُحسِن البكاء على الأطلال ولا التفَجُّع المراسيمي. ومن بين قصائده القليلة التي تتحدث عن الموت قصيدة بعنوان «الزائر الأخير» ألقاها في مهرجان شعري في ستوكهولم، من بين جميع بلاد الله، فأثّرت في الجمهور تأثيراً كبيراً بحيث مُنِحت الجائزة الأولى في ذلك المهرجان الشعري. وأنا إلى اليوم ما أزال غير قادر على فهم كيف تواصَل ذلك الجمهور غير العربي مع هذه القصيدة القصيرة المؤثِّرة بعنوان «الزائر الأخير»، وأيّة ترجمةٍ هذه وبأيّة لغةٍ، يا سيدي الجاحظ، جرى «نقل الشعر» من دون أن يسقط موضع التعجّب فيه؟
«من دون ميعاد/ من دون أن تُقلقَ أولادي/ أطرُق على الباب… وعندما تخرُجُ لا توقظ ببيتي أحداً/ لأن من أفجعِ ما تُبصرُه العيون/ وجوهُ أولاديَ حينَ يعلمون».
ومن أصفى وأصدق ما كُتِبَ عن الموت في إطار محبّة الوطن قصيدةٌ قصيرةٌ أحسب أنها آخر ما كتب عبد الرزاق عبد الواحد، وقد أملاها عليّ بالتلفون من مستشفاه في باريس وهو ينتظر دخوله إلى «مسرح العمليات» وكان ذلك آخر ما سمعتُ من صَوته، نَفثة حُزن بعنوان: «يا عراق»:
خوفاً على قلبكَ المطعون من ألَمي/سأطبقُ الآن أوراقي على قلَمي
نشَرتُ فيكَ حياتي كلّها عَلَماً / الآن هَبني يَداً أطوي بها عَلَمي
ياما حلمتُ بموتٍ فيكَ يحملني / به ضَجيج ٌمن الأضواء والظُلَم
أهلي وصَحبي وأشعاري مُنثَّرةٌ / على الجَنازةِ أصواتاً بلا كَلِم
إلاّ عِراقُ تُناديني… وها أنا ذا / أصحو بانأى بقاعِ الأرضِ من حُلُمي
فأبصِر الناسَ لا أهلي ولا لغتي / وأبصر الروحَ فيها ثَلمُ مُنثَلِم
أموت فيكم ولو مَقطوعةٌ رئتي / يا لائمي في العراقيين لا تَلُمِ.
البكاء على الأطلال وعلى كل رَسمٍ دَرَس لا يلبث حتى تذروه الرياح. أما البكاء على الأوطان الضائعة فيبقى حبيس القلوب المطعونة من ألَمِ الفراق.