يُعرف الموقف الفلسفي التي تكون الحواس -وفقًا له- المصدر الأساسي للمعرفة الإنسانية بالتجريبية، إذ إنها تتخذ موقفًا مناقضًا للعقلانية، التي تعد السببَ مصدرًا رئيسيًا للمعرفة. وتفتخر التجريبية بامتلاكها قائمة طويلة ومتميزة من الأتباع في الفلسفة الغربية، وقد أضحت مشهورةً خاصةً في القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين. ويعد جون لوك وديفيد هيوم من أشهر التجريبين البريطانيين وأكثرهم أهمية في ذاك الوقت.
تنص التجريبية على أن التجربة تؤدي إلى المعرفة:
يدّعي التجريبيون أن كل الأفكار التي يمكن أن يتمتع بها العقل قد تشكلت في الحقيقة عبر القليل من التجربة أو -لنستخدم مصطلحًا تقنيًا أكثر- من طريق الانطباع. وقد عبّر هيوم عن هذه العقيدة بقوله: «لا بد من وجود انطباع واحد على الأقل يؤدي إلى ظهور كل فكرةٍ حقيقية»، (في أطروحته عن الطبيعة الإنسانية، الكتاب الأول، القسم الرابع، الفصل السادس). وبالفعل، يتابع هيوم في كتابه الثاني: «إن جميع أفكارنا أو تصوراتنا الأضعف هي نسخ عن انطباعاتنا أو تلك الأكثر حيوية منها».
يدعم التجريبيون فلسفتهم بوصف الحالة التي تؤدي قلة خبرة الإنسان فيها إلى منعه من الفهم الكامل.
لننظر إلى الأناناس مثلًا، وهو مثال مفضّل بين الكتاب المعاصرين الأوائل، فكيف يمكنك شرح طعم الأناناس لشخص لم يذقه من قبل أبدًا؟ إليك ما قاله جون لوك في مقالته عن الأناناس:
«إذا كنت تشك في ذلك، انظر فيما إذا كان بإمكانك، عبر الكلمات فقط، إعطاء أي شخص لم يسبق له تذوق طعم الأناناس فكرة عن نكهة تلك الفاكهة. قد يقترب من إدراكها بعد إخباره عن تشابهها مع النكهات الأخرى التي لديه في الأصل فكرة عنها في ذاكرته، محفوظة هناك من قبل الأشياء التي وضعها في فمه سابقًا، ولكن هذا لا يعطيه الفكرة نفسها بالتحديد، ولكنك تزرع فيه فقط بعض المعرفة والأفكار البسيطة الأخرى، التي ستظل في نهاية الأمر مختلفةً تمامًا عن نكهة الأناناس».
(مقالة عن الإدراك الإنساني، الكتاب الثالث، الفصل الرابع).
وبالطبع هنالك عدد لا يحصى من الحالات مشابهة لتلك التي تحدّث عنها لوك. وهي عادة ما تتمثل بادعاءات من قبيل «لا يمكنك معرفة ماهية هذا الشعور…». تبعًا لذلك، إذا لم تنجب من قبل فلا يمكنك أن تشعر بآلام الولادة، وإذا لم تتناول العشاء في ذلك المطعم الإسباني الشهير، لا يمكنك امتلاك المعرفة بجودة الطعام فيه، وغير ذلك الكثير.
حدود التجريبية:
يوجد العديد من الحدود على مذهب التجريبية، وكذلك العديد من الاعتراضات على الفكرة القائلة بأن الخبرة تجعل من الممكن لنا فهم النطاق الواسع للتجربة البشرية بنحو كافٍ. إحدى أهم الاعتراضات تتعلق بمرحلة التجريد التي من المفترض أن الانطباعات تتحول عبرها إلى أفكار.
مثلًا، تأمل فكرة المثلث، من المفترض أن الشخص العادي قد شاهد الكثير من المثلثات، على اختلاف أنواعها وأحجامها وألوانها ومعادنها…
ولكن قبل أن تتكون لدينا فكرة عن المثلث في عقولنا، كيف يمكننا أن ندرك أن ذلك الشكل الثلاثي الجوانب، هو في الحقيقة، مثلث؟
يردّ التجريبيون عادةً بأن عملية التجريد تتضمن خسارة في المعلومات، الانطباعات واضحة، بينما غالبًا ما تكون الأفكار ذكريات باهتة من الانعكاسات. وإذا أردنا أن ننظر في كل انطباع على حدة، سنرى أنه لا يتشابه أي اثنين منهم، ولكن عندما نتذكر انطباعات مختلفة عن المثلثات، يمكننا معرفة أنها كلها أشياء ثلاثية الجوانب.
وفي حين أن الإدراك والمعرفة لفكرة معينة قد يكون ممكنًا تجريبيًا مثل «مثلث» أو «منزل»، ولكن مع ذلك تبقى المفاهيم التجريدية أكثر تعقيدًا. وإن فكرة الحب أحد الأمثلة على هذا المفهوم المجرد: هل هي مخصصة للصفات الموضعية مثل الجنس أو العمر أو التربية أو الحالة الاجتماعية، أم يوجد حقًا فكرة مجردة واحدة عن الحب؟
ويوجد أيضًا مفهوم تجريدي آخر صعب الوصف استنادًا إلى المنظور التجريبي وهي فكرة الذات. فما هو نوع الانطباعات التي من الممكن أن تعلمنا هذه الفكرة؟
بالنسبة لديكارت، بالفعل، الذات هي فكرة فطرية، وهي توجد داخل الإنسان بنحوٍ مستقل عن أي تجربة معينة، وعوضًا عن ذلك، فإن الاحتمالية الأكبر في وجود انطباع تعتمد على امتلاك الموضوع القليل من المعرفة عن الذات. وبالمثل، ركز كانط فلسفته على فكرة الذات، التي عدها بديهية حسب المصطلح الذي قدمه، إذن، ما هو تعليل فكرة الذات عند التجريبية؟
يمكننا القول بأن الرد الأكثر سحرية وفعالية يأتي مجددًا من قبل هيوم، وهذا ما كتبه عن الذات في أطروحته (الكتاب الأول، القسم الرابع، الفصل السادس):
«من جانبي، عندما أتعمق بنحو وثيق في ما أسميه نفسي، فأنا دومًا ما أتعثر بتصوّر معين أو آخر، للحرارة أو البرودة، للضوء أو الظل، للحب أو الكراهية، وللألم أو اللذة. أنا لا أستطيع التقاط نفسي في أي وقت دون تصور، ولا ألاحظ أي شيء دون ذلك التصور. وعندما تزول تصوراتي في أي وقت، كما في النوم العميق مثلًا، فطالما أنني غير مدرك لنفسي، يمكن القول حقًا أنني لم أعد موجودًا، وقد أزال الموت تصوراتي والمعرفة التي كانت لدي، ولم يعد بإمكاني التفكير، أو الشعور، أو الرؤية، أو الحب، أو الكره، وبعد تحلل جسدي، يجب أن تتم إبادتي بالكامل، لا أن أتصور ما هو ضروري لجعلي غير موجود بنحو مثالي. وإذا كان هنالك أحد يعتقد بعد المعرفة والتفكير الجاد وغير المتحيز، أن لديه نظرة أخرى لنفسه، فأنا أعترف أنني لا أستطيع النقاش معه في ذلك، وكل ما يمكنني الاعتراف له به، أنه قد يكون على الجانب الصحيح مثلي، ولكن نحن مختلفان حقًا في هذا الخصوص، ولربما هو يدرك شيئًا بسيطًا ومستمرًا، ويعده ذاته، ولكنني على يقين بأنه لا وجود لمثل هكذا مبدأ في داخلي».
سواء أكان هيوم على حق أم لا، فما يهم حقًا هو أن نظرية التجريبية عن معرفة الذات، عادة ما تدور حول التخلص من وحدة الذات. بمعنى آخر، يمكننا القول أن الفكرة القائلة بأن هنالك شيء واحد يبقى معنا طوال حياتنا هي في الحقيقة مجرد وهم.