بين الحقيقة والنظرية: البابليون، خسوف القمر والكورونا

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • بين الحقيقة والنظرية: البابليون، خسوف القمر والكورونا

    اضغط على الصورة لعرض أكبر. 

الإسم:	13876724244_326da36345_z-384x253.jpg 
مشاهدات:	6 
الحجم:	9.4 كيلوبايت 
الهوية:	121383


    أتحدث في هذا المقال الصغير عن قضية مهمة متعلقة بكيف نفهم الواقع من حولنا. ستكون الأمثلة الأساسية التي أستحضرها مستقاة من أزمة الكورونا والنظريات العجيبة التي يتناولها الناس لتفسيرها. لكني في البداية أستذكر قصة من تاريخ إمبراطورية بابل القديمة، أستعين بها لإيضاح بعض النقاط.

    كانت لخسوف القمر أهمية كبيرة في الحضارات البابلية والآشورية القديمة، إذ كانت الناس تؤمن بأنه يعبّر عن غضب الآلهة عليهم، وبالذات على ملكهم. لهذا كانوا يعدمون الملك ويقدمونه أضحيةً للآلهة عند حدوث الخسوف، لعل ذلك يرضي الآلهة لتكفّ غضبها عنهم. لكن، في القرن الخامس أو السادس قبل الميلاد توصل فلكيو بابل إلى اكتشاف عظيم، وهو أن خسوف القمر يتكرر كل 18 عامًا و11 يومًا و8 ساعات تقريبًا. تُعرف هذه الدورة في علم الفلك باسم دورة ساروس.

    قد يظهر اكتشاف دورة ساروس بمثابة شيء بسيط لأول وهلة، لكنه في الحقيقة تطلب رصدًا شديد الدقة لحركة القمر نتج عنه قياس طول الشهر القمري.

    فعلى سبيل المثال، استطاع الفلكي نابو-ريمانو أن يقيس طول الشهر القمري بدقة مذهلة، إذ توصل إلى أنّ طوله 29.530641 يومًا، بينما القياس الحديث يعطينا طول 29.530589 يومًا (أي بفارق أقل من خمس ثوانٍ). هذه المعطيات عن طول الشهر القمري ودورة ساروس، إضافة إلى عدة اكتشافات من هذا النوع، مهدت الطريق أمام البابليين إلى وضع تقويم متكامل كان له تأثير كبير في العالم القديم. وهذا يعني أن البابليين كانوا أول من اكتشف نظرية علمية ذات طابع رياضي، لها جمال وقوة هائلين، وذلك قبل قرون من أي حضارة أخرى.



    شكّلت دورة ساروس دليلًا واضحًا على أن خسوف القمر يتبع دورةً ثابتة طبيعية، وأنّ غضب الآلهة أو رضاها ليست له أية علاقة بها. لكن هذا الدليل القاطع لم يغير إيمان الناس، ولم يقنعهم بأنه لا دخل للآلهة بخسوف القمر الذي كان سوف يحدث بصرف النظر عمّا إذا كانت هذه الآلهة غاضبة أم راضية. من المفارقة في الأمر أن الناس أصبحوا يستعملون دورة ساروس لحساب موعد الخسوف القادم لكي يفدوا الملك بشخص آخر يمكنهم الاستغناء عنه (مجرم قابع في السجن مثلًا). إذ يرسمون هذا الشخص ملكًا عليهم ليعدموه مباشرة بعد حدوث الخسوف وذلك لاسترضاء الآلهة، ومن ثم يعيدون الملك الأصلي إلى عرشه.

    يجسد هذا الطقس التاريخي التناقض الذي يواجهه الناس في كثير من الأحيان بين معتقداتهم وقناعتهم من جهة، والحقائق الموضوعية من جهة أخرى. لكن إذا تمعنّا فيها، فتفاصيل القصة تقول لنا أكثر بكثير من مجرد هذا التناقض. الشيء الأول الذي نتعلمه منها هو أن المعرفة العلمية هي حاجة ماسة في كل المجتمعات، وأن ما يفصل بين المجتمعات المتقدمة والمجتمعات المتأخرة هو في الدافع لدى الأولى للسيطرة على مصيرها، وفي فهمها أن إحدى أهم الأدوات للسيطرة على هذا المصير هو المعرفة العلمية.

    وهذا يذكرنا بما نحياه الآن، إذ لا يختلف اثنان على أن الطريقة الأساسية لمحاربة الكورونا هي المعرفة العلمية حول هذا الفيروس (مبناه، كيفية انتشاره، طرائق تخفيف العدوى به، وإيجاد مطعوم أو دواء له). لهذا لا يوجد مجتمع أو دولة في غنًى عن هذه المعرفة العلمية الصرفة الآن، لكن، ليس بمقدور كل مجتمع أو دولة إنتاج مثل هذه المعرفة. فهناك دول تنتج مثل هذه المعرفة، وهناك دول، مثل دولنا العربية للأسف، تنتظر أن يجد غيرها الحل لكي تتبعه.

    العبرة الثانية البارزة في قصة دورة ساروس هو أنه من الصعب جدًا تغيير معتقدات الناس حتى حين نواجههم بالحقائق الدامغة التي تناقض هذه المعتقدات. بعد اكتشاف دورة ساروس، كان الاستنتاج المنطقي من ورائه هو أنه لا توجد علاقة ما بين الخسوف والآلهة، لكن هذا لم يُستنتج، بل بقي البابليون على إيمانهم بأن الخسوف يدل على غضب الآلهة. هذا في الحقيقة يميز الغالبية الساحقة من الناس -ليس البابليون القدماء فقط- الذين لا يغيرون معتقداتهم وآرائهم أمام الحقائق والدلائل، بل ببساطة يتجاهلون هذه الدلائل.

    نرى هذه الظاهرة بوضوح في سياق جائحة الكورونا. مثلا، يعتقد الكثير من الناس بأن المرض هو نتيجة مؤامرة، وهذا ينبع جزئيًا من شعور عميق لدى الناس بأن المؤامرات تحيطهم من كل جانب. فهي إمّا مؤامرة أمريكية لضرب الاقتصاد الصيني، أو صهيونية لضرب إيران، أو صينية لضرب أمريكا، أو مؤامرة من قبل شركات الأدوية لتسويق مطعوم ضد مرض لا نعرف عنه شيئًا تقريبًا، وما إلى ذلك من فرضيات عجيبة كل واحدة أغرب من سابقتها.

    لكن في المقابل أيضًا، في كل مرة نفحص بها الحقائق المتعلقة بالمرض وانتشاره، تدحض المعطيات هذه الفرضيات. لكن هذا للأسف لا يساعد، إذ لا يمكن أن يكون هذا الوباء في أعين الكثيرين إلا مؤامرةً، ولتذهبْ الحقائق إلى الجحيم!

    لا أنكر طبعًا وجود مؤامرات مختلفة تحدث في إطار السياسة الدولية أو المحلية أو غيرها من مجالات الفاعليات الإنسانية التي تتضارب بها مصالح الناس. فمثلًا لا شك أن صفقة القرن مؤامرة تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية، أو أن العدوان الثلاثي على مصر عبد الناصر عام 1956 كان مؤامرة (لدينا وثيقة واضحة تثبت ذلك)، وإلخ.

    لكن للمؤامرة شروط، أهمّها ليس فقط أن لأصحاب المؤامرة هدف واضح، بل وأنهم يستطيعون السيطرة على، أو على الأقل توقع، سيرورة الأمور بوضوح بما يمكنهم من الوصول إلى هدفهم المنشود. في حالة وباء الكورونا لا يستطيع أحد أن يتنبأ بما سيحصل في نهاية المطاف، بالذات، ما هو تأثير هذه الجائحة على الاقتصاد العالمي وعلى المبنى الاجتماعي والسياسي في كل الدول. ردود فعل الدول، المرتبكة غالبًا، هي الدليل الأكبر على ذلك.

    مصدر هذا الفيروس على الأرجح هو طبيعي، هكذا تشير أغلب الدلائل، إذ إنه من عائلة الفيروسات التاجية الموجودة في الطبيعة، مثل فيروس الـ SARS-CoV الذي ضرب الصين مع بداية الألفية ومصدره خفاش حدوة الفرس.

    وحتى إذا وُجد احتمال ضئيل جدًا بأن أحدًا ما صنّع الفيروس مخبريًا (أنا لا أعتقد ذلك بتاتًا)، ومن ثم وضعه عمدًا أو سهوًا في سوق مدينة ووهان الصينية مع نهاية عام 2019، فهذا يجعل سبب الوباء إهمالًا أو عملًا إجراميًّا، لا مؤامرةً. لأنه وكما ذكرت سابقًا، تتطلب المؤامرة أن يملك المتآمرون قدرة السيطرة على، أو توقُّع، سيرورة الأمور ومجريات الأحداث لضمان نجاح مآربهم، وهذا غير قائم أبدًا في حالة الوباء الحالي.

    للأسف، وكما ذكرت سابقًا، يوجد جزء من الناس لا تُبلبلهم الحقائق أو التحليلات المنطقية، فهم يعلمون بواسطة «قواهم الخارقة» أن هذه الجائحة هي نتيجة مؤامرة لا شك فيها. أية مؤامرة؟ هذا السؤال ليس مهمًا، المهم أنها مؤامرة، ولتحترقْ الحقائق وليمُت المنطق!

    أنتقل الآن إلى الموضوع الآخر الذي تتناوله قصة دورة ساروس والبابليون، وهو ما فعله الناس عندما علموا بهذه الدورة. يحتاج هذا إلى تحليل أكثر دقة وإلى التمييز بين جانبين. الجانب الأول هو أن الناس كانوا على استعداد لقبول الجانب العملي من الاكتشاف الجديد بشرط ألّا يمس هذا إيمانهم ومعتقداتهم مسًّا شديدًا.

    فهم على استعداد أن يتقبلوا مثلًا أن الآلهة ليس غاضبة على تصرفات ملكهم، بل هي غاضبة على الشخص الذي يشغل كرسي الملك عند الخسوف، بغض النظر عمّا إذا كان هذا هو الملك الحقيقي أم لا. نستطيع بسهولة أن نتخيل كيف من الممكن إقناع الناس بذلك، على الرغم من أنهم لو فكروا قليلًا لأدركوا أن قبولهم بتبديل الملك يعني أن آلهتهم حمقاء لا تستطيع التمييز بين الملك الحقيقي والملك البديل.

    قبول الجانب العلمي جزئيًا هو أيضًا ما نراه في التعامل مع وباء الكورونا. على سبيل المثال، يعتقد الكثيرون أن وباء الكورونا جاء ليعبر عن غضب رباني لا بد منه (بعضهم حتى ادعى أنه غضب رباني على الصين، لكنهم تجاهلوا ماذا يفعل هذا الوباء في مجتمعاتهم)، لكن هذا لا يمنعهم مثلًا من الانصياع لنصائح العلماء بضرورة الحجر الصحي والابتعاد الاجتماعي. أي أنهم يقبلون الفهم العلمي ما دام هذا الفهم لا يتناقض مع معتقداتهم.

    الجانب الثاني الذي أود أن أشير إليه هو أن هناك من استغل المعرفة التي وفرتها دورة ساروس، أعني الملك الحقيقي. فقد أقنع هذا الملك الناس أن عليهم أن يُبقوه في سدّة الحكم وأن كل ما عليهم فعله هو أن يستبدلوه لبضعة أيام، حتى يأتي الخسوف ويأخذ معه الملك البديل. هذا أيضًا يحدث في زمن الكورونا، فالبعض يستغل الأزمة ويحسن أوضاعه، أو ليخدم برنامجًا ورؤية سياسية أو اقتصادية معينة.

    وهنا أيضًا يجب أن نفرق بين من تأتيه الأزمة بفرصة لتحسين أوضاعه لأن لديه ما تحتاج إليه الناس خلال هذه الأزمة. مثل الشركات التي تصنع الكمامات، أو مواد تطهير اليدين، أو التي توفر وسائل اتصال سهلة عن طريق الإنترنت (مثل شركة Zoom).

    ولكن أيضًا هناك من يستغل الأزمة ليفرض قواعد لعبة جديدة تخدم مصالح معينة وتضرّ بالغالبية العظمى من الناس. على سبيل المثال، استعمال الوسائل الإلكترونية، مثل التلفونات الخلوية، لمراقبة المواطنين كما قررت دولة اسرائيل أن تفعل، حريٌّ بأن يثير الرعب في قلوبنا جميعًا. وممّا لا أشك فيه أن النخب الحاكمة في أغلب الدول، وبالذات الدولة الرأسمالية الشرسة، سوف تستغل كل قطرة توفرها لها هذه الأزمة ببشاعة، لكن هذا لا يتعلق في موضوع العلاقة بين الحقيقة والنظرية وسأتناوله في موقع آخر.

    ذكرت في بداية هذا المقال أنه عند التناقض بين الحقائق الموضوعية والمعتقدات يكون المنتصر دائمًا الحقيقة الموضوعية (كما في قصة دورة ساروس). ما يميز الطبيعة وقوانينها أنها لا تحسب حساب معتقداتنا ولا مواقفنا الدينية والفكرية والسياسية. برز هذا في مواقف بعض القيادات الغربية المتطرفة مثل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون اللذين ارتأيا أن الحفاظ على الاقتصاد هو أهم ما يجب فعله، أما فيروس الكورونا فمن الممكن تجاهله أو تحمل نتائجه.

    فقد وقف بوريس جونسون أمام شعبه وطلب منهم الاستعداد لوداع أحبائهم (قصد المسنين، على أغلب الظن)، هذه المواقف الذي يقرر فيها زعيم دولة من أغنى دول العالم أن يتنازل مسبقًا عن حياة سكان دولته المسنين، لأن الاقتصاد بالنسبة له أهم من حياتهم، هو موقف مرعب وإجرامي. كذلك الأمر بالنسبة لموقف الرئيس الأمريكي المعتوه الذي رفض أن يقبل في البداية أن المرض وباء جدّي سوف يقضي على حياة الكثيرين ونصح شعبه بالسفر في الطائرات وتنفيذ الأعمال العادية لأن الكورونا «مجرد إنفلونزا».

    كذلك الأمر لا تأخذ الطبيعة بعين الاعتبار ما إذا كان الشخص يصلّي كثيرًا أو قليلًا، أو يتبع هذا الدين أو ذاك، إذا اقتربت من الفيروس لن يتعامل معك الفيروس بتمييز عن باقي البشر. فقد سمعنا مثلًا عن نصائح الكاهن القبطي الذي طلب من رعيته أن تلزم بيوتها وتتوقف عن الاقتراب من بعضها البعض، لكنه أصر على أن هذا لا ينطبق على يوم الأحد والصلاة في الكنيسة لأن الله يحميهم خلال ذلك.

    مثل هذه المواقف -وهي للأسف كثيرة- تعكس مدى الجهل العميق في طريقة عمل الطبيعة، خاصةً أمثال هذا الكاهن فهم يضعون معتقداتهم فوق ما يقوله العلم وفوق دروس الواقع المرير فيشكلون خطرًا على الرعية التي تثق بهم وتصدقهم بالنتيجة. أو ذلك الشيخ الذي يدّعي أن الكورونا أتت عقابًا للصينيين على معاملتهم للأقلية المسلمة فيها.

    من الأفضل أن لا نقحم الله في هذا الفيروس، لأنه إذا كان هذا من فعل الله فمن الصعب أن نفهم كيف يسمح إله رحيم ومحب، بوباء كهذا يقتل الناس من غير تمييز، وبالذات الفئة المسنة التي هي أكثر فئة إيمانًا. مثل هؤلاء لا يختلفون بقيد أنملة عن البابليين الذي رفضوا الحقيقة البسيطة بأن الخسوف ليس له علاقة بآلهتهم.

    توجد ادعاءات أخرى كثيرة تناقلها الناس تبين أغلبها الجهل العميق الذي يعيشه بعض الناس في ما يتعلق بالتفسيرات العلمية وكيف نصل إليها. هذا للأسف يعكس حالة يعيشها البشر منذ مدة طويلة وهي حالة رفض العلم والاستنتاجات العلمية. فنحن نعيش في العقود الأخيرة في جو واضح من انحسار العقلانية والتشبث بالغيبيات والشائعات والتفسيرات السطحية ورفض العلم والحقائق لكل ما يدور حولنا.

    وما فعله هذا الوباء أنه كشف لنا مأسويًا عمق هذه الحالة التي نعيشها، لسنا نحن فقط في هذه المنطقة المنكوبة بالجهل من العالم، وإنما في كل مكان. لعل هذه النكبة بالرغم من مآسيها، تذكر البشرية مجددًا بأن المعرفة هي أهم أدواتنا التي نشكل بها مستقبلنا، وتعلمنا من جديد أن العقل والمنطق والحقائق الموضوعية هي الأساس المتين الذي نبني عليه معتقداتنا وأفكارنا، لا العكس. فالويل لنا إذا لم نتعلم الدروس الصحيحة من هذه المأساة
يعمل...
X