ما الذي يحدد إذا كانت فكرة ما علميةً أم لا؟ ناقش الفلاسفة ومؤرخو العلوم والعلماء العاملين والمحامين في المحاكم هذا السؤال حول معيار قابلية التكذيب ، إذ أنه ليس مجرد فكرة تجريدية، بل يحدد إذا كان الشيء علميًا أم لا، أو يجدر تعليمه في صفوف المدارس أو مدعومًا من الحكومة ماليًا. تُعتبر الإجابة نسبيةً في عدة حالات، فبصرف النظر عن نظريات المؤامرة المعاكسة، الأرض ليست مسطحةً. تُشير كل الأدلة بشكل حرفي إلى أن الأرض مدورة، وعليه فإن التصريحات الناتجة عن فرضيات الأرض المسطحة ليست علميةً البتة. يناقش الناس بفعالية في حالات أخرى كيف يجب رسم الخط الفاصل بين ما هو علمي وما هو غير علمي. طرح كارل بوبر فيلسوف العلم (1902-1994) معيارًا يحاجج فيه وجوب خضوع الأفكار العلمية لمعيار التكذيب.
كتب كارل بوبر في كتابه الكلاسيكي “منطق الكشف العلمي” أن النظرية التي لا يمكن إثبات خطئها، أي النظرية المرنة بما يكفي لتتلاءم مع كل النتائج المخبرية، هي نظرية لا جدوى منها علميًا. أكد كارل بوبر أن الفكرة العلمية يجب أن تحوي مفتاح تدميرها، يجب أن تقدم تنبؤات يمكن اختبارها، إذا أُثبت فشل هذه الاختبارات؛ يجب التخلي عندها عن هذه النظرية.
كان قلق كارل بوبر من الفيزياء، عندما كتب هذا الكلام، أقل بكثير من السيكولوجية الفرويدية أو التاريخ الستاليني، إذ لا يمكن أن تخضع هذه النظريات لمعيار التكذيب لأنها مبهمة ومرنة بما يكفي لتشارك في كل الأدلة الموجودة وعليه فإنها تنجو من هذا الاختبار.
ولكن أين يترك معيار قابلية التكذيب بعض الأقسام من الفيزياء النظرية؟ نظرية الأوتار، على سبيل المثال، تتضمن قوانين فيزيائية على مقاييس صغيرة جدًا بحيث لا تستطيع أي تجربة محسوسة قياس مدى صحتها. تشرح نظرية مثل التضخم الكوني خصائص الكون، ولكنها نفسها غير قابلة للتجربة من خلال الرصد المباشر. يرى بعض النقاد أن هذه النظريات غير قابلة للتكذيب إذًا فهي نظريات مشكوك في صحتها علميًا.
يصطف، في الوقت ذاته، علماء الفيزياء مع فلاسفة العلم لتعيين العيوب في نموذج كارل بوبر ، إذ يقولون أن معيار قابلية التكذيب مجدٍ للغاية في تعيين العلم الزائف الواضح مثل فرضية الأرض المسطحة، ولكنه غير مهم، نسبيًا، في الحكم على نظريات علمية تُخرَج من خلال نماذج علمية رصينة.
تقول شاندا بريسكود فاينشتاين من جامعة نيوهامبشاير: «أظن أنه يجدر بنا القلق لكوننا متعجرفين، معيار التكذيب مهم، ولكن يجب التذكير بأن الطبيعية تفعل ما تريد».
تعمل فاينشتاين عالمة جسيمات كونية وباحثةً في العلم والتكنولوجيا والدراسات الاجتماعية ومهتمة بتحليل الأولويات التي يتخذها العلماء، وتقول: «إن أي جيل يقرر أنه توصل إلى كل شيء يبدو لي أنه في قمة العجرفة».
توافق تريسي سلايتر من معهد ماساشوستس للتكنولوجيا على هذا الكلام وتقول أن القلق الصارم من معيار التكذيب يمنع الأفكار الجديدة من النشوء، ما يخنق الإبداع: «إن أغلب الأفكار التي نعمل عليها في الفيزياء النظرية يمكن أن تكون خاطئةً، قد تكون أفكارًا مثيرةً للاهتمام، وقد تكون أفكارًا جميلةً، وقد تكون بنًى رائعةً لا يمكن إدراكها في الكون الذي نعيش فيه».
الجسيمات و قابلية التكذيب في الفلسفة العملية
لنأخذ على سبيل المثال (التماثل الفائق – supersymmetry) وهو امتداد للنموذج المعياري، إذ يقترن فيه كل جسيم بشريك فائق التماثل معه. تُعد النظرية نموًا للتماثل الرياضي للزمكان بطريقة مشابهة للنموذج المعياري ذاته. تؤسَس هذه النظرية بشكل موثق في فيزياء الجسيمات، ومع ذلك فإن الجسيمات فائقة التماثل قد تكون بعيدةً عن متناول تجارب العلماء.
قد يحل التماثل الفائق بعض الألغاز المحيرة في الفيزياء الحديثة، على سبيل المثال قد تكون هذه الجسيمات فائقة التماثل السبب الذي يجعل من كتلة بوزون هيغز أقل مما يُفترض أن تكون في ميكانيك الكم.
وقال هاورد باير من جامعة أوكلاهوما: «يقول ميكانيك الكم أن كتلة بوزون هيغز يجب أن تصل إلى أكبر مقياس كتلي ممكن». يعود هذا إلى أن الكتل في النظرية الكمومية هي نتيجة اشتراك جسيمات مختلفة في التفاعلات، وحقل هيغز الذي يمنح الجسيمات كتلتها يحتوي العديد من هذه التفاعلات. ولكن كتلة بوزون هيغز ليست كبيرةً وهذا يحتاج إلى شرح.
يقول باير: «يجب قلب شيء معين إلى قيمة سالبة ضخمة من أجل إلغاء القيمة الموجبة الضخمة لهذه التفاعلات وهذا ما يعطينا القيمة المرصودة». يُعرف هذا المستوى من المصادفة بمشكلة التوظيف المثالي وهو الذي يجعل علماء الفيزياء متحيرين، يقول عنه باير: «يشبه الأمر محاولة لعب اليانصيب، من المحتمل أن تفوز ولكن في داخلك أنت تعرف بالتأكيد أنك ستخسر».
إذا ظهرت الجسيمات فائفة التماثل في نطاق كتلي معين، فإن مشاركاتها في حقل هيغز ستحل المشكلة بصورة طبيعية، الأمر الذي يخدم نظرية التناظر الفائق. لم يظهر في مصادم الهادرونات الضخم، حتى الآن، أية جسيمات فائقة التماثل ضمن النطاق الطبيعي.
يوفر الإطار العام للتماثل الفائق جسيمات ضخمةً فائقة التماثل، يمكن أو لا يمكن التقاطها من خلال مصادم الهاردونات الضخم. في الحقيقة وإذا عزلنا الصورة الطبيعية للتماثل الفائق فهو لا يوفر أي مقياس واضح للكتلة، ما يعني أن جسيمات التماثل الفائق ستكون خارج نطاق الكشف من خلال أي مصادم أرضي، ما جعل بعض النقاد مشمئزين، إذا لم يكن أي مقياس كتلي واضح يمكن كشفه بالمصادمات الأرضية فهل هذه النظرية قابلة للتكذيب؟
تواجه مشكلة مماثلة الباحثين في مجال المادة المظلمة، بصرف النظر عن الدليل القوي غير المباشر للكمية الكبيرة للكتلة غير المرئية لكافة أنواع الضوء، فلم تستطع أي تجربة جسيمية رصد جسيمات المادة المظلمة، قد تكون جسيمات المادة المظلمة مستحيلة الرصد المباشر. ناقشت مجموعة صغيرة من الباحثين المتحررين لزوم إيجاد نظريات بديلة للجاذبية.
تعتبر ستايلر، والتي يتضمن عملها البحث عن المادة المظلمة، أن النقد في جزء منه يحوي مشكلةً في اللغة، إذ تقول: «عندما نقول المادة المظلمة علينا تمييزها عن سيناريوهات محددة لما يمكن أن تكون المادة المظلمة، ولم يقم المجتمع بهذا العمل على نحو جيد».
بكلمات أخرى، يمكن لنماذج محددة من المادة المظلمة أن تقاوم أو تسقط، ولكن نماذج المادة المظلمة ككل قاومت كل الاختبارات حتى الآن، ولكن كما تشير ستايلر فلا تستطيع أي نظرية بديلة عن الجاذبية شرح ما يستطيع شرحه نموذج واحد للمادة المظلمة، من تصرفات المجرات إلى بنى إشعاع الخلفية الكونية الميكروي.
تقول بيرسكود فانيشتاين أننا ما نزال بعيدين عن حل كل احتمالات المادة المظلمة: «كيف سنثبت أن المادة المظلمة -إن وُجدت- لا تتفاعل مع النموذج المعياري. تُعد فيزياء الفضاء بشكل ما لعبة رصد، دون الكشف المخبري للمادة المظلمة لا يمكننا إصدار بيانات حاسمة عن خصائصها. ولكن يمكننا التأسيس لسرديات بناءً على ما نعرفه عن سلوكها».
يعتقد باير، بشكل مشابه، أننا لم نستنفد كل احتمالات التماثل الفائق بعد ويقول: «يقول الناس أننا نعدهم بالتماثل الفائق منذ عشرين أو ثلاثين عامًا ولكنه مبني على حسابات طبيعية متفائلة. أعتقد أنه إذا قيّم أحدهم الخاصية الطبيعية بشكل صحيح فسيجد أن التماثل الفائق حتى الآن طبيعي جدًا، ولكننا سنحتاج لرفع سوية الطاقة في مصادم الهادرونات الضخم أو سنحتاج إلى مصادم خطي عالمي لاكتشافها».
يشغل بال علماء الفيزياء، بعيدًا عن تكذيب التماثل الفائق والمادة المظلمة، هموم دنيوية. تقول ستايلر: «إذا كانت هذه السيناريوهات قابلةً للتكذيب، فكم سيكلف ذلك من الوقت والمال». بمعنً آخر، بدلًا من التركيز على حل مشكلة التماثل الفائق ككل، يركز علماء الفيزياء على تجارب الجسيمات والتي يمكن تنفيذها من خلال ميزانية متوفرة، هذا ليس خياليًا بل على العكس حقيقي جدًا.
هل هو علم؟ من يُقرر قابلية التكذيب ؟
تبدو بعض النظريات في بعض الأحيان، تاريخيًا، غير قابلة للتجربة ولكنها في الحقيقة تحتاج المزيد من الوقت فقط. على سبيل المثال، في القرن التاسع عشر أظهر عالم الفيزياء لودفيج بولترزمان وزملاؤه أنه بإمكانهم شرح عدة نتائج في الفيزياء الحرارية والكيمياء لو كان كل شيء مصنوع من ذرات -ما نطلق عليه الآن جسيمات وذرات وجزيئات- محكومًا من قبل قوانين نيوتن الفزيائية.
كانت الذرات، في ذلك الوقت، بعيدةً عن متناول التجارب، لذا اعتقد فلاسفة علم مرموقون أن الفرضيات الذرية غير قابلة للتجربة من حيث المبدأ وبالتالي فهي غير علمية.
ومع ذلك ربح علماء الذرة الجائزة الكبرى، بعد أن كشف جي جي تومسون للعالم وجود الإلكترون بينما أظهر ألبرت آينشتاين أن جزيئات الماء تظهر بشكل حبيبات على سطح البركة إذا أثر عليها مؤثر خارجي. توفر الذرات حالات للدراسة تجعلنا نرى أن معيار قابلية التكذيب هو معيار خاطئ، لكن بعض الحالات تبدو خادعةً أكثر.
تُعتَبر نظرية آينشتاين للنسبية العامة أحد أفضل النظريات اختبارًا في العلم، فهي تتيح في نفس الوقت وجود كون غير عقلاني فيزيائيًا، مثل الكون الدائر الذي يتيح الحركة في الزمن إلى الأمام والخلف، ما يتناقض مع كل الملاحاظات التي نعيشها في الواقع.
تتنبأ النسبية العامة أيضًا بأشياء غير قابلة للقياس بالتعريف، مثل كيفية حركة الجسيمات داخل أفق الحدث للثقب الأسود، إذ لا يمكن تحديد أي معلومات حول هذه المسارات بالتجربة.
لا يمكن لأي فيزيائي ذو معرفة أو أي فيلسوف علم مناقشة إن كانت النسبية العامة غير علمية، إن نجاح هذه النظرية يعتمد على التنبؤات التي قدمتها وخضعت بعد ذلك للتجربة.
يوجد نموذج آخر لنطرية لا يمكن إخضاعها للتجربة، ولكنها تمتلك نتائج مهمة. إحدى هذه النماذج هي نظرية التضخم الكوني والتي تشرح، من بين أشياء أخرى، لماذا لا نرى أقطابًا مغناطيسيةً أحاديةً معزولةً، ولماذا تكون درجة الحرارة موحدةً في كل مكان ننظر إليه في الكون.
لا يمكن اختبار الخاصية الأساسية للتضخم الكوني وهي التمدد السريع للزمكان خلال أجزاء صغيرة جدًا من الثانية بعد حدوث الانفجار العظيم مباشرةً. يبحث علماء الكونيات عن دليل غير مباشر للتصخم، ولكن في نهاية المطاف قد يكون ذلك صعبًا أو مستحيلًا، ببساطة لأنهم لا يستطيعون الحصول على البيانات. هل يعني هذا أن التضخم غير علمي؟
تقول بريسكود فاينشتاين: «يملك العديد من الناس مشاعر حول التضخم وجماليات الفيزياء النظرية». تنوي فاينشتاين أن تجرب أفكارًا جديدةً نتجم عنها نتائج قابلة للقياس، ولكن التضخم يعمل بشكل جيد حتى الآن. تتابع: «في الواقع، تستمر غالبية مجتمع علم الكونيات باعتبار التضخم نموذجًا بشكل جدي، وبالتالي عندما أسمع أحدًا يقول أنه غير علمي أستهجن ذلك قليلًا».
يناقش عالم الكونيات شون كارول، بناءً على هذه الملاحظة، أن أكثر النظريات المفيدة تمتلك تنبؤات قابلة وغير قابلة للتكذيب. قد نتمكن من اختبار بعض جوانب هذه النظريات من حيث المبدأ، ولكن ليس باستخدام أي تجربة أو رصد يمكننا إجراءه بالتكنولوجيا الحالية.
تقع عدة نماذج لفيزياء الجسيمات ضمن هذه المجموعة، ولكن هذا لا يمنع علماء الفيزياء من اعتبارها مفيدةً. قد يكون التماثل الفائق -بمثابة مفهوم- لا يحتمل قابلية التكذيب ، ولكن عدة نماذج محددة ضمن الإطار العام قابلة للتكذيب بالتأكيد.
كل الأدلة التي نملكها حول وجود المادة المظلمة غير مباشرة، ولن تذهب هذه الأدلة أدراج الرياح إن لم تتمكن التجارب المخبرية من العثور على جسيمات المادة المظلمة. يتقبل علماء الفيزياء هذا المفهوم ببساطة لأنه فعال.
تعتبر سلايتر نفسها متابعةً عمليةً للمادة المظلمة إذ تقول: «إن الأسئلة التي أهتم بالإجابة عنها ليست مجرد أسئلة قابلة للتكذيب من حيث المبدأ، ولكن يمكن اختبارها على مقياس زمني أقل من حياتي. إنها ليست مشاكل يمكن اختبارها على مدى زمني أقل من حياة تريسي بل هي أسئلة عملية جيدة».
توافق بيرسكود فاينتشاين على ذلك وتحاجج أن علينا التمتع بعقل منفتح إذ تقول: «هناك الكثير لا نعرفه عن الكون، يشمل ما هو معروف عنه. أعتقد أننا كائنات فضولية ويجب أن نبقى كذلك».