سام هاريس Sam Harris (مواليد 9 نيسان 1967) هو مؤلف وفيلسوف ومفكر وعالم أعصاب أمريكي وهو أحد مؤسسي مشروع إدراك Project Reason ومديره التنفيذي. لم يستغرق وقتًا طويلًا ليحصل على درجة البكالورويس في الفلسفة من جامعة ستانفورد Stanford University عام 2000 بعد أن أخذ عطلة لمدة 11 عامًا من درجة بكالوريوس في اللغة الإنجليزية التي كان يحضرها في نفس الجامعة والتي لم يكملها.
ففي تلك الفترة الجامعية الأولى، جرب MDMA أو «الإكستاسي» (وهو نوع من أنواع المنشطات، له تأثير نفسي مشتق من الأمفيتامين)، ما أدى إلى اهتمامه بالتأمل، والذهاب للدراسة في الهند ونيبال. كما أمضى سنتين يمارس (الارتجاع الصامت-silent retreat) في فترات تتراوح بين أسبوع لثلاثة أشهر.
تبدو حياته في تلك الأيام ملأى بالكثير من الفلسفة والقراءة والتأمل والعمل اليومي الذي قد يكون مملًا. وطوال فترة انقطاعه التعليمي والمهني الطويلة كان مدعومًا من والديه، الممثل بيركلي هاريس Berkeley Harris والمنتجة التلفزيونية سوزان هاريس Susan Harris التي أنشأت The Golden Girls، هذا وقد انفصل والداه عندما كان في الثانية من عمره، ويستذكر دعمهما المادي له على أنه نعمة ونقمة في الوقت ذاته، لأنه بينما كان قادرًا على القراءة والكتابة والقيام بما يريد، كان قد أهمل بناء مهنته في الكتابة.
حصل على شهادة الدكتوراة في علم الأعصاب الإدراكي في عام 2009 من جامعة كاليفورنيا لوس أنجلوس UCLA، وقد كانت أبحاثه حول استخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي لإجراء بحوث في الأساس العصبي للاعتقاد (الإيمان) وعدم التصديق (الإنكار) وعدم اليقين (الريبة والشك). وكانت أطروحته بعنوان «المشهد الأخلاقي: كيف يمكن للعلم تحديد القيم الإنسانية».
يهتم سام هاريس بالعدالة الاجتماعية أيضًا ويقول إنه إذا أردنا أن نقترب مما هو عادل فعلينا «الخروج من هويّاتنا»، فهو يعتقد أنه عندما تشكل الهوية الأساس للنشاط السياسي كما في حالة (سياسات الهوية-identity politics) فسيعاني المجتمع منه كثيرًا. ويقول: «هذا من المضمون أن يضخم تقريبًا كل شيء لا نريده».
كتابات وأعمال سام هاريس:
سام مؤلف كتاب «نهاية الإيمان» the end of faith الذي صدر عام 2004 والذي ظهر في لائحة نيويورك تايمز New York Times لأفضل المبيعات لمدة 33 أسبوعًا على التوالي. كما تُوّج الكتاب بجائزة (PEN Award) عام 2005.
يتناول فيه الدين المُنظَّم والصراع ما بين الإيمان الديني والأفكار العقلانية ومشاكل التسامح مع الأصولية الدينية. ويقول عنه «كان كتاب نهاية الإيمان بمثابة استجابة مباشرة لتلك الأحداث (أحداث الحادي عشر من أيلول 2001)»، كما يضيف «لقد بدأت حرفيًا بكتابته في 9/12 أو 9/13. في اللحظة التي أصبح فيها ما حدث واضحًا، كان من الواضح أنني بحاجة إلى كتابة هذا الكتاب».
صورة كتابه نهاية الإيمان:
متوفر بالعربية (نسخة غير رسمية) من هنا
عام 2006، نشر هاريس كتابه «رسالة إلى أمة مسيحية» Letter to a Christian Nation ردًّا على اتهامات لكتاب «نهاية الإيمان» بالانحيازية وغيرها.
صورة كتابه رسالة إلى أمة مسيحية:
تَبِع هذا العمل كتابه «المشهد الأخلاقي» The Moral Landscape، الذي صدر سنة 2010 وفيه يقترح سام هاريس أن العِلم قادر على الإجابة على الأسئلة الأخلاقية والمساهمة في تحقيق الحياة الكريمة للفرد.
صورة كتابه المشهد الأخلاقي:
كما كان لهاريس مداخلة على منصة TED تحدث فيها باختصار حول هذا الموضوع، ننصحكم بمشاهدتها (مترجمة للعربية) من هنا
ليتبعه بمقالة من الطراز الطويل بعنوان «الكذب» Lying سنة 2012.
صورة كتابه الكذب:
لتتم سلسلة مؤلفاته مع كتاب «الصحوة: دليل إلى الروحانية الخالية من التدين»Waking Up: A. Guide to Spirituality Without Religion الذي يعتبر دليلًا غنيًا وقيمًا جدًا للتأمل عند هاريس، والذي سنغوص فيه لاحقًا.
صورة كتابه الصحوة: دليل إلى الروحانية الخالية من التدين:
إلا أن من أشهر كتبه كان «الإرادة الحرة» free will الذي نُشِر عام 2012، ودحض فيه فكرة الإرادة الحرة التي تقوم عليها النظم الإيمانية والعقائدية ووضّح كافة الظروف والتأثيرات والعوامل البيولوجية والبيئية والنفسية والعصبية والمجتمعية والزمانية والمكانية التي تحدد لنا كل اختياراتنا وقراراتنا وتصرفاتنا وميولنا وأهوائنا وبغائضنا…
صورة كتابه الإرادة الحرة:
الكتاب متوفر بالعربية بنسخة رسمية من هنا
يعد سام هاريس أحد المنتقدين المعاصرين للأديان، كما يُعتبر أحد أهم مؤيدي الشكوكية العلمية وحركة «الإلحاد الجديد» على الرغم من كراهيته لهذا المططلح، فهو يصف الأمر بمجرد صفة «المنطقي، المنطق، المنطقية» وحتى قد توج ذلك بتسمية مشروعه الكبير «مشروع سداد (منطق)» Project Reason. ويتميز هاريس أيضًا بدفاعه القوي عن العلمانية، وحرية الاعتقاد وحرية انتقاد الأديان.
كما كتب هاريس الكثير من المقالات لكل من المواقع الإخبارية الهافنغتون بوست The Huffington Post، ولوس أنجلوس تايمز Los Angeles Times، والواشنطن بوست Washington Post، والنيويورك تايمز New York Times، والنيوزويك Newsweek، والمجلة العلمية نيتشر Nature.
بداية شهرته:
ربما كانت اللحظة التي أصبح فيها سام هاريس معروفًا في أعين الرأي العام الأمريكي بكونه شخصية مثيرة للجدل هي عند مشادته قبل أربع سنوات مع ممثل هوليود بن أفليك Ben Affleck على البرنامج التلفزيوني الساخر Real Time With Bill Maher خلال نقاش حول الإسلام، إذ اتهم نجم هوليوود هاريس بالإسلاموفوبيا (الكره الإسلامي) والعنصرية.
عندها اندفع أفليك ذو البنية القوية ممتلئًا بالعاطفة الصالحة وفي حيرة من هاريس، خالطًا بين العنصرية البغيضة وبين مناوأة هاريس لأيديولوجيات وأفكار بعينها، وعلى الرغم من أن هاريس بقي هادئًا وحاول أن يوصل وجهة نظره، بدا الرجل الأصغر خائفًا من الغلبة الجسمية والشهرة اللتين يتمتع بهما ذاك الممثل. ويقول هاريس إنه لم يستعد صوته حقًا حتى أن خرجوا عن المسرح.
«قلت:‘أنت تعلم أنه إذا قررنا أن نحرق الكتاب المقدس على الهواء مباشرة الليلة فسيكون ذلك مثيرًا للجدل، لكنه لن يدمر حياتنا. إذا قررنا حرق القرآن في البرنامج الليلة، فسوف نقضي بقية حياتنا في التعامل مع ما بعد ذلك، وأنت تعرف ذلك وأنت تكذب الأمر».
مقارنة ومقاربة هاريس للعقائد والإيمان:
من وجهة نظر إحصائية نرى سام هاريس على أرض قوية، على الرغم من أن هناك الكثير من العوامل الأخرى التي يمكن أن تؤخذ في الاعتبار. لكنه عندما ينتقل من التعاريف الصارمة المحددة إلى التأكيدات العامة، يبدأ حينها بمواجهة بعض المشكلات والتي انتهت إلى اتهامه بالإسلاموفوبيا.
على الرغم من أنه يرفض هذا المصطلح من الأساس، كما أنه يميز بوضوح بين مهاجمة الإسلام على أنه مجموعة من المعتقدات المنتظمة، وشيطنة المسلمين عامة وهم مجموعة هائلة ومتنوعة من البشر.
وأبدى هاريس في عدد من المرات حيرته تجاه المساواة والعدالة في نقد نظم الإيمان والعقيدة المختلفة، ففي مقارنة بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة وبين باقي الأديان الأخرى، عاد ليوضح أن هناك بُنًى هرمية بين تلك الأديان والنظم العقائدية الإيمانية المختلفة، تترتب وفقها حسب درجة طغيانها ودوغمائيتها وجمودها العقائدي ونتائجها على أرض الواقع.
فبالنسبة لهاريس يوجد كفتان، يوجد في الكفة الأولى كون المرء عقلانيًا، ما يعني أنه عليه مناوأة كل الأنظمة الإيمانية على سوية واحدة، وفي الكفة الثانية توجد تلك البنية الهرمية في طغيان العقائد وبالتالي في خطورتها، ولذلك يشير سام هاريس إلى أن إنشاء مقارنة بين خطورة هذه العقائد المختلفة له ذات الأهمية من ناحية ضرورة مناوأتها جميعها.
فلا يمكن وضع شخص مهووس يؤمن حرفيًا بأنمي anime ياباني هزلي على قدم المساواة مع شخص مهووس يؤمن حرفيًا بأحد الأديان التقليدية، وكذلك الأمر أيضًا فيما بين هذه الأديان نفسها، فرغم أنهم جميعًا ليسوا عقلانيين ولكنهم ليسوا على ذات الدرجة من الجزع وبالتالي ليسوا على ذات الدرجة من الخطورة.
كما أن هاريس عانى ما عاناه من سوء تفسير لأقواله وأفكاره مرارًا وتكرارًا، بل حتى في كثير من الأحيان من تحوير شنيع لها عن قصد، من قبل الكثير من خصومه داخل مجاله أو خارجه وحتى على تويتر، وذكر مرة في حوار له على شبكة vox: «إذا قلت اليوم معك على الهواء إن السود (البشر ذوي أصول إفريقية) قردة، إن البيض (البشر ذو أصول قوقازية) قردة، إننا نحن كلنا جميعًا قردة… فسنخرج غدًا لنرى تويتر مليئًا بتغريدات على شاكلة: (سام هاريس: إن السود قردة.) وذلك تكرر معي عدة مرات من قبل خصوم وشخصيات معروفة بعينها».
سام هاريس والتأمل:
يقول هاريس: «نحن الآن نسير نائمين. عندما تتعلم كيفية التأمل، فإنك تدرك أن هناك احتمالًا آخر، وهو أن تكون مدركًا بوضوح لتجربتك في كل لحظة، ما يحررك من البؤس الروتيني. التأمل هو ببساطة ممارسة لتعلم كسر التعويذة والاستيقاظ».
لا يرى هاريس أي تناقض بين الدراسة الموضوعية للعقل والتجربة الذاتية للهروب من الضوضاء الدائمة في الحياة، بل إن كليهما وسيلة لفهم الوعي. يقول: «إن وجودنا هنا وتجربتنا للعالم في كل لحظة على ضوء وعينا، لَهوَ حقيقة غامضة مدهشة للغاية، وكلما زاد اهتمامك بها، ستبدأ تجربتك بارتجاع بعض المزاعم الدينية ذات السلطة الأبوية أو الأمومية على مر العصور.» أي أننا في ضوء مانعلمه عن العالم اليوم سنستطيع رؤية ماهية المزاعم العتيقة السلطوية المتعششة داخل كُبريات الأنظمة العقائدية التقليدية اليوم.
كما يقول إن الغرب يمكن أن يتعلم الكثير من الشرق، ليس من الإسلام بالضرورة، ولكن من تقاليد التأمل الموجودة في الهندوسية والبوذية. وعند سؤاله عن الجوانب الروحية لشخصيته يجيب هاريس: «نحتاج أن نعيش حياتنا بأكثر من مجرد فهم الحقائق.» وأضاف «أن لا نكون مخطئين، ليس أقصى ما يمكن للبشرية تحقيقه في هذه الحياة.»
ربما هذا صحيح أو على الأقل يجب أن يكون كذلك، فمن الصعب التفكير في إيجاد شخص يبدو أكثر تصميمًا على عدم كونه مخطئًا من هاريس. ولا يتعلق الأمر بكونه متبجحًا أو متعجرفًا، ولكن في طرائقه المبسطة المبدئية في إيصال فكره، فهو ثابت في إثبات قضيته. وسيكون المستمعون إلى البودكاست Making Sense الخاص به والذي يحظى بشعبية كبيرة (والمعروف سابقًا باسم Wake Up) على دراية بهذه الجودة في محتوى هاريس الذي ينتجه.
وفي خضم محاولات سام هاريس تفكيكه لمفهوم الوعي وربطه مع قضية الذكاء الاصطناعي، تكلم هاريس في مداخلة شهيرة أخرى على منصة TED عن مخاطر الذكاء الاصطناعي ننصحكم بمشاهدتها من هنا (مترجمة للعربية)
سلسلة حواراته مع عالم النفس جوردان بيترسون Jordan Peterson :
في منتصف العام الماضي 2018 أجرى هاريس سلسلة من أربع حوارات مع عالم النفس الشهير جوردان بيترسون Jordan Peterson استضافتها منصة Pangbrun وتعد هذه السلسلة من أهم الحوارات الفلسفية خلال العام الماضي بل حتى ربما خلال العشرة أعوام الماضية، غطت عدة محاور مثل، أصل الوعي، مصدر الوحي، معارضة العلم للدين، السلطوية اليسارية الصاعدة حديثًا ورقابتها الفكرية المسماة باللباقة السياسية، والتي اتفق الاثنان أنها دفعتهما لتجنب النقاش والحوار في الكثير من الأمور والقضايا التي صُنفت بأنها غير لبقةٍ سياسيًا، وغيرها الكثير…
وحتى إن كليهما اتفقا في نقطة من النقاط أن هناك بنية هرمية للوحي، إلا إنهما اختلفا عندما كانا يتكلمان عن مصدر وحي الكتب السماوية عامة والإنجيل خاصة حيث أشار بيترسون إلى أننا لا نعلم علم اليقين من أين يأتينا الوحي، وأن الوحي قد يكون من مصدر ضمني نتاجًا للتجربة والمعرفة التراكمية للبشر عبر ما يصل إلى ألفية من الزمن، بينما أشار سام هاريس إلى أنه بالطبع هناك بنية هرمية للوحي لكننا ما نزال نتحدث عن أشباهنا من البشر، لا عن كيان واعٍ يجيب نداءاتنا بطرائق عهدناها فقط عبر أهل العصور الوسطى.
وننصحكم بمشاهدة السلسلة كاملة وهنا القسم الأول من الحوار مترجم للعربية
وهنا القسم الثاني من حوارهما مترجم للعربية أيضًا
الفرسان الأربعة ومناوءة الإيمان العقائدي
بدأ الأمر في منتصف العقد الأول من هذا القرن، حيث استُشرفت حركة جديدة تلوح في الأفق من خلال نشر عدد من الكتب حول نفس الموضوع. المؤلفون الأربعة الرئيسيون هم ريتشارد دوكينزRichard Dawkins وكريستوفر هيتشنز Christopher Hitchens ودانييل دينيت Daniel Dennett وسام هاريس. وسميت هذه الحركة من قبل الكثيرين «الإلحاد الجديد.»
في ذلك الوقت كان سام هاريس -والذي كان بالفعل أول ناشر بينهم مع كتابه «نهاية الإيمان-» بلا شك الشريك الأصغر. فقد كان للآخرين سمعة عالمية في مجالاتهم: دوكينز في البيولوجيا التطورية، وهيتشنز في الصحافة والخطابة، ودينيت في الفلسفة والعلوم المعرفية (الإدراكية). أما هاريس فكل ما كان في حوزته كتابه وشهادة البكالوريوس في الفلسفة.
التقى الأربعة الذين سيُعرفون باسم «الفرسان الأربعة» في عام 2007 في شقة هيتشنز بواشنطن لمناقشة الحجج الداعية إلى «الإلحاد» أو وبشكل أدق الحجج المضادة للإيمان العقائدي. سُجل الحدث وهو متاح لمشاهدته على Youtube.
حوار الفرسان الأربعة (بالإنكليزية)
نُشرت هذه المحادثة في كتاب بعنوان «الفرسان الأربعة،» مع مقدمة متوهجة من ستيفن فرايStephen Fry واصفًا إياها بأنها لحظة فريدة في التاريخ لتُسترجع. إلا إن الإلحاد الجديد قد تلاشى بدلًا من البروز، ويعزى ذلك جزئيًا لأنه وكما أقر مؤيدوه لم يكن مختلفًا تمامًا عن الإلحاد القديم. ويرجع ذلك جزئيًا إلى أنه كان ناتجًا عن ظاهرة «الحرب على الإرهاب،» أو على الأقل استجابة فكرية لما استهدفته تلك الحرب ظاهريًا: ألا وهو الإسلام الراديكالي.
صورة جلسة حوار الفرسان الأربعة:
في نهاية الحوار كانت هناك لحظة قاتمة إلى حد ما، عندما سأل سام هاريس عن آمالهم ومخاوفهم بالنسبة للمستقبل وما الذي يمكن تحقيقه في حياة أطفالهم. يقول هيتشنز إنه على الرغم من أنهم قد يكونون يفوزون في الجدال من الناحية الفكرية، فإنهم من الناحية العالمية وزملائه العلمانيين ضمن «أقلية صغيرة متضائلة ستهزمها القوى الثيوقراطية.» المدافعون الحقيقيون عن العلمانية كما يقول هيتشنز هم فرقة المشاة 82 المحمولة جوًا (وهي فرقة في الجيش الأمريكي).
وقد سُئل هاريس فيما بعد فيما إذا كان يشترك مع الفارس الآخر هيتشنز في منظوره العسكري للحل ضد الآيديولوجيات العقائدية الدوغمائية كالإسلام مثلًا، أجاب هاريس: «أعتقد أنها مشكلة يمكننا أن نغفل عنها لشهور أو حتى لسنوات عدة مرة واحدة…لكنها ستندلع في مرحلة ما. ومن الصعب أن نرى كيف يمكن لهذا العنف أن يحل نفسه دون إصلاح فكري جذري في المجتمع المسلم. ومن الصعب تخيل ذلك في الوقت الحالي.»
أما اليوم فقد أصبح دوكينز ودينيت في أواخر السبعينات من عمرهما ولم يعدا نشيطين كما كانا من قبل، كما إن هيتشنز الأكثر جاذبية بينهم جميعًا قد مات.
ما ترك هاريس وحيدًا في دعم القضية وهو ما فعله بقوة كبيرة حقًا. فاليوم هو واحد من أفضل المفكرين العامين في أمريكا، وذلك بفضل سلسلة من أكثر الكتب مبيعًا، وسلسلات البودكاست الخاصة به، ومشادته المشهورة مع بن أفليك، ومداخلاته في منصة TED، وحواراته على منصة Pangburn.
إن منجزات هاريس الكثيرة وأطروحاته العميقة، وحواراته البناءة، وكتبه المبهرة، أضخم من أن نستطيع تغطيتها كاملة بشكل وافٍ في مقال واحد، وما يزال سام هاريس مستمرًا بإغناء المعرفة البشرية بمزيد من الأفكار والمفاهيم التي ستساعد عالمنا اليوم في تحديد بوصلته ما بين ماضيه وحاضره ومستقبله لمواجهة التحديات والتهديدات التي تحيط بوجودنا جميعًا.
وما بين الهوية والوعي والإيمان والعقل تكمن مفاهيم الحوارات الكبيرة التي تشكل محور الكثير من النقاشات المعاصرة. ولا يبعد عنها أبدًا الرأي الواثق القاسم؛ للمتحدث الهادئ هاريس، الفارس الرابع الذي يمتطي فرسه بثقةٍ وحيدًا.
ففي تلك الفترة الجامعية الأولى، جرب MDMA أو «الإكستاسي» (وهو نوع من أنواع المنشطات، له تأثير نفسي مشتق من الأمفيتامين)، ما أدى إلى اهتمامه بالتأمل، والذهاب للدراسة في الهند ونيبال. كما أمضى سنتين يمارس (الارتجاع الصامت-silent retreat) في فترات تتراوح بين أسبوع لثلاثة أشهر.
تبدو حياته في تلك الأيام ملأى بالكثير من الفلسفة والقراءة والتأمل والعمل اليومي الذي قد يكون مملًا. وطوال فترة انقطاعه التعليمي والمهني الطويلة كان مدعومًا من والديه، الممثل بيركلي هاريس Berkeley Harris والمنتجة التلفزيونية سوزان هاريس Susan Harris التي أنشأت The Golden Girls، هذا وقد انفصل والداه عندما كان في الثانية من عمره، ويستذكر دعمهما المادي له على أنه نعمة ونقمة في الوقت ذاته، لأنه بينما كان قادرًا على القراءة والكتابة والقيام بما يريد، كان قد أهمل بناء مهنته في الكتابة.
حصل على شهادة الدكتوراة في علم الأعصاب الإدراكي في عام 2009 من جامعة كاليفورنيا لوس أنجلوس UCLA، وقد كانت أبحاثه حول استخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي لإجراء بحوث في الأساس العصبي للاعتقاد (الإيمان) وعدم التصديق (الإنكار) وعدم اليقين (الريبة والشك). وكانت أطروحته بعنوان «المشهد الأخلاقي: كيف يمكن للعلم تحديد القيم الإنسانية».
يهتم سام هاريس بالعدالة الاجتماعية أيضًا ويقول إنه إذا أردنا أن نقترب مما هو عادل فعلينا «الخروج من هويّاتنا»، فهو يعتقد أنه عندما تشكل الهوية الأساس للنشاط السياسي كما في حالة (سياسات الهوية-identity politics) فسيعاني المجتمع منه كثيرًا. ويقول: «هذا من المضمون أن يضخم تقريبًا كل شيء لا نريده».
كتابات وأعمال سام هاريس:
سام مؤلف كتاب «نهاية الإيمان» the end of faith الذي صدر عام 2004 والذي ظهر في لائحة نيويورك تايمز New York Times لأفضل المبيعات لمدة 33 أسبوعًا على التوالي. كما تُوّج الكتاب بجائزة (PEN Award) عام 2005.
يتناول فيه الدين المُنظَّم والصراع ما بين الإيمان الديني والأفكار العقلانية ومشاكل التسامح مع الأصولية الدينية. ويقول عنه «كان كتاب نهاية الإيمان بمثابة استجابة مباشرة لتلك الأحداث (أحداث الحادي عشر من أيلول 2001)»، كما يضيف «لقد بدأت حرفيًا بكتابته في 9/12 أو 9/13. في اللحظة التي أصبح فيها ما حدث واضحًا، كان من الواضح أنني بحاجة إلى كتابة هذا الكتاب».
صورة كتابه نهاية الإيمان:
متوفر بالعربية (نسخة غير رسمية) من هنا
عام 2006، نشر هاريس كتابه «رسالة إلى أمة مسيحية» Letter to a Christian Nation ردًّا على اتهامات لكتاب «نهاية الإيمان» بالانحيازية وغيرها.
صورة كتابه رسالة إلى أمة مسيحية:
تَبِع هذا العمل كتابه «المشهد الأخلاقي» The Moral Landscape، الذي صدر سنة 2010 وفيه يقترح سام هاريس أن العِلم قادر على الإجابة على الأسئلة الأخلاقية والمساهمة في تحقيق الحياة الكريمة للفرد.
صورة كتابه المشهد الأخلاقي:
كما كان لهاريس مداخلة على منصة TED تحدث فيها باختصار حول هذا الموضوع، ننصحكم بمشاهدتها (مترجمة للعربية) من هنا
ليتبعه بمقالة من الطراز الطويل بعنوان «الكذب» Lying سنة 2012.
صورة كتابه الكذب:
لتتم سلسلة مؤلفاته مع كتاب «الصحوة: دليل إلى الروحانية الخالية من التدين»Waking Up: A. Guide to Spirituality Without Religion الذي يعتبر دليلًا غنيًا وقيمًا جدًا للتأمل عند هاريس، والذي سنغوص فيه لاحقًا.
صورة كتابه الصحوة: دليل إلى الروحانية الخالية من التدين:
إلا أن من أشهر كتبه كان «الإرادة الحرة» free will الذي نُشِر عام 2012، ودحض فيه فكرة الإرادة الحرة التي تقوم عليها النظم الإيمانية والعقائدية ووضّح كافة الظروف والتأثيرات والعوامل البيولوجية والبيئية والنفسية والعصبية والمجتمعية والزمانية والمكانية التي تحدد لنا كل اختياراتنا وقراراتنا وتصرفاتنا وميولنا وأهوائنا وبغائضنا…
صورة كتابه الإرادة الحرة:
الكتاب متوفر بالعربية بنسخة رسمية من هنا
يعد سام هاريس أحد المنتقدين المعاصرين للأديان، كما يُعتبر أحد أهم مؤيدي الشكوكية العلمية وحركة «الإلحاد الجديد» على الرغم من كراهيته لهذا المططلح، فهو يصف الأمر بمجرد صفة «المنطقي، المنطق، المنطقية» وحتى قد توج ذلك بتسمية مشروعه الكبير «مشروع سداد (منطق)» Project Reason. ويتميز هاريس أيضًا بدفاعه القوي عن العلمانية، وحرية الاعتقاد وحرية انتقاد الأديان.
كما كتب هاريس الكثير من المقالات لكل من المواقع الإخبارية الهافنغتون بوست The Huffington Post، ولوس أنجلوس تايمز Los Angeles Times، والواشنطن بوست Washington Post، والنيويورك تايمز New York Times، والنيوزويك Newsweek، والمجلة العلمية نيتشر Nature.
بداية شهرته:
ربما كانت اللحظة التي أصبح فيها سام هاريس معروفًا في أعين الرأي العام الأمريكي بكونه شخصية مثيرة للجدل هي عند مشادته قبل أربع سنوات مع ممثل هوليود بن أفليك Ben Affleck على البرنامج التلفزيوني الساخر Real Time With Bill Maher خلال نقاش حول الإسلام، إذ اتهم نجم هوليوود هاريس بالإسلاموفوبيا (الكره الإسلامي) والعنصرية.
عندها اندفع أفليك ذو البنية القوية ممتلئًا بالعاطفة الصالحة وفي حيرة من هاريس، خالطًا بين العنصرية البغيضة وبين مناوأة هاريس لأيديولوجيات وأفكار بعينها، وعلى الرغم من أن هاريس بقي هادئًا وحاول أن يوصل وجهة نظره، بدا الرجل الأصغر خائفًا من الغلبة الجسمية والشهرة اللتين يتمتع بهما ذاك الممثل. ويقول هاريس إنه لم يستعد صوته حقًا حتى أن خرجوا عن المسرح.
«قلت:‘أنت تعلم أنه إذا قررنا أن نحرق الكتاب المقدس على الهواء مباشرة الليلة فسيكون ذلك مثيرًا للجدل، لكنه لن يدمر حياتنا. إذا قررنا حرق القرآن في البرنامج الليلة، فسوف نقضي بقية حياتنا في التعامل مع ما بعد ذلك، وأنت تعرف ذلك وأنت تكذب الأمر».
مقارنة ومقاربة هاريس للعقائد والإيمان:
من وجهة نظر إحصائية نرى سام هاريس على أرض قوية، على الرغم من أن هناك الكثير من العوامل الأخرى التي يمكن أن تؤخذ في الاعتبار. لكنه عندما ينتقل من التعاريف الصارمة المحددة إلى التأكيدات العامة، يبدأ حينها بمواجهة بعض المشكلات والتي انتهت إلى اتهامه بالإسلاموفوبيا.
على الرغم من أنه يرفض هذا المصطلح من الأساس، كما أنه يميز بوضوح بين مهاجمة الإسلام على أنه مجموعة من المعتقدات المنتظمة، وشيطنة المسلمين عامة وهم مجموعة هائلة ومتنوعة من البشر.
وأبدى هاريس في عدد من المرات حيرته تجاه المساواة والعدالة في نقد نظم الإيمان والعقيدة المختلفة، ففي مقارنة بين الأديان الإبراهيمية الثلاثة وبين باقي الأديان الأخرى، عاد ليوضح أن هناك بُنًى هرمية بين تلك الأديان والنظم العقائدية الإيمانية المختلفة، تترتب وفقها حسب درجة طغيانها ودوغمائيتها وجمودها العقائدي ونتائجها على أرض الواقع.
فبالنسبة لهاريس يوجد كفتان، يوجد في الكفة الأولى كون المرء عقلانيًا، ما يعني أنه عليه مناوأة كل الأنظمة الإيمانية على سوية واحدة، وفي الكفة الثانية توجد تلك البنية الهرمية في طغيان العقائد وبالتالي في خطورتها، ولذلك يشير سام هاريس إلى أن إنشاء مقارنة بين خطورة هذه العقائد المختلفة له ذات الأهمية من ناحية ضرورة مناوأتها جميعها.
فلا يمكن وضع شخص مهووس يؤمن حرفيًا بأنمي anime ياباني هزلي على قدم المساواة مع شخص مهووس يؤمن حرفيًا بأحد الأديان التقليدية، وكذلك الأمر أيضًا فيما بين هذه الأديان نفسها، فرغم أنهم جميعًا ليسوا عقلانيين ولكنهم ليسوا على ذات الدرجة من الجزع وبالتالي ليسوا على ذات الدرجة من الخطورة.
كما أن هاريس عانى ما عاناه من سوء تفسير لأقواله وأفكاره مرارًا وتكرارًا، بل حتى في كثير من الأحيان من تحوير شنيع لها عن قصد، من قبل الكثير من خصومه داخل مجاله أو خارجه وحتى على تويتر، وذكر مرة في حوار له على شبكة vox: «إذا قلت اليوم معك على الهواء إن السود (البشر ذوي أصول إفريقية) قردة، إن البيض (البشر ذو أصول قوقازية) قردة، إننا نحن كلنا جميعًا قردة… فسنخرج غدًا لنرى تويتر مليئًا بتغريدات على شاكلة: (سام هاريس: إن السود قردة.) وذلك تكرر معي عدة مرات من قبل خصوم وشخصيات معروفة بعينها».
سام هاريس والتأمل:
يقول هاريس: «نحن الآن نسير نائمين. عندما تتعلم كيفية التأمل، فإنك تدرك أن هناك احتمالًا آخر، وهو أن تكون مدركًا بوضوح لتجربتك في كل لحظة، ما يحررك من البؤس الروتيني. التأمل هو ببساطة ممارسة لتعلم كسر التعويذة والاستيقاظ».
لا يرى هاريس أي تناقض بين الدراسة الموضوعية للعقل والتجربة الذاتية للهروب من الضوضاء الدائمة في الحياة، بل إن كليهما وسيلة لفهم الوعي. يقول: «إن وجودنا هنا وتجربتنا للعالم في كل لحظة على ضوء وعينا، لَهوَ حقيقة غامضة مدهشة للغاية، وكلما زاد اهتمامك بها، ستبدأ تجربتك بارتجاع بعض المزاعم الدينية ذات السلطة الأبوية أو الأمومية على مر العصور.» أي أننا في ضوء مانعلمه عن العالم اليوم سنستطيع رؤية ماهية المزاعم العتيقة السلطوية المتعششة داخل كُبريات الأنظمة العقائدية التقليدية اليوم.
كما يقول إن الغرب يمكن أن يتعلم الكثير من الشرق، ليس من الإسلام بالضرورة، ولكن من تقاليد التأمل الموجودة في الهندوسية والبوذية. وعند سؤاله عن الجوانب الروحية لشخصيته يجيب هاريس: «نحتاج أن نعيش حياتنا بأكثر من مجرد فهم الحقائق.» وأضاف «أن لا نكون مخطئين، ليس أقصى ما يمكن للبشرية تحقيقه في هذه الحياة.»
ربما هذا صحيح أو على الأقل يجب أن يكون كذلك، فمن الصعب التفكير في إيجاد شخص يبدو أكثر تصميمًا على عدم كونه مخطئًا من هاريس. ولا يتعلق الأمر بكونه متبجحًا أو متعجرفًا، ولكن في طرائقه المبسطة المبدئية في إيصال فكره، فهو ثابت في إثبات قضيته. وسيكون المستمعون إلى البودكاست Making Sense الخاص به والذي يحظى بشعبية كبيرة (والمعروف سابقًا باسم Wake Up) على دراية بهذه الجودة في محتوى هاريس الذي ينتجه.
وفي خضم محاولات سام هاريس تفكيكه لمفهوم الوعي وربطه مع قضية الذكاء الاصطناعي، تكلم هاريس في مداخلة شهيرة أخرى على منصة TED عن مخاطر الذكاء الاصطناعي ننصحكم بمشاهدتها من هنا (مترجمة للعربية)
سلسلة حواراته مع عالم النفس جوردان بيترسون Jordan Peterson :
في منتصف العام الماضي 2018 أجرى هاريس سلسلة من أربع حوارات مع عالم النفس الشهير جوردان بيترسون Jordan Peterson استضافتها منصة Pangbrun وتعد هذه السلسلة من أهم الحوارات الفلسفية خلال العام الماضي بل حتى ربما خلال العشرة أعوام الماضية، غطت عدة محاور مثل، أصل الوعي، مصدر الوحي، معارضة العلم للدين، السلطوية اليسارية الصاعدة حديثًا ورقابتها الفكرية المسماة باللباقة السياسية، والتي اتفق الاثنان أنها دفعتهما لتجنب النقاش والحوار في الكثير من الأمور والقضايا التي صُنفت بأنها غير لبقةٍ سياسيًا، وغيرها الكثير…
وحتى إن كليهما اتفقا في نقطة من النقاط أن هناك بنية هرمية للوحي، إلا إنهما اختلفا عندما كانا يتكلمان عن مصدر وحي الكتب السماوية عامة والإنجيل خاصة حيث أشار بيترسون إلى أننا لا نعلم علم اليقين من أين يأتينا الوحي، وأن الوحي قد يكون من مصدر ضمني نتاجًا للتجربة والمعرفة التراكمية للبشر عبر ما يصل إلى ألفية من الزمن، بينما أشار سام هاريس إلى أنه بالطبع هناك بنية هرمية للوحي لكننا ما نزال نتحدث عن أشباهنا من البشر، لا عن كيان واعٍ يجيب نداءاتنا بطرائق عهدناها فقط عبر أهل العصور الوسطى.
وننصحكم بمشاهدة السلسلة كاملة وهنا القسم الأول من الحوار مترجم للعربية
وهنا القسم الثاني من حوارهما مترجم للعربية أيضًا
الفرسان الأربعة ومناوءة الإيمان العقائدي
بدأ الأمر في منتصف العقد الأول من هذا القرن، حيث استُشرفت حركة جديدة تلوح في الأفق من خلال نشر عدد من الكتب حول نفس الموضوع. المؤلفون الأربعة الرئيسيون هم ريتشارد دوكينزRichard Dawkins وكريستوفر هيتشنز Christopher Hitchens ودانييل دينيت Daniel Dennett وسام هاريس. وسميت هذه الحركة من قبل الكثيرين «الإلحاد الجديد.»
في ذلك الوقت كان سام هاريس -والذي كان بالفعل أول ناشر بينهم مع كتابه «نهاية الإيمان-» بلا شك الشريك الأصغر. فقد كان للآخرين سمعة عالمية في مجالاتهم: دوكينز في البيولوجيا التطورية، وهيتشنز في الصحافة والخطابة، ودينيت في الفلسفة والعلوم المعرفية (الإدراكية). أما هاريس فكل ما كان في حوزته كتابه وشهادة البكالوريوس في الفلسفة.
التقى الأربعة الذين سيُعرفون باسم «الفرسان الأربعة» في عام 2007 في شقة هيتشنز بواشنطن لمناقشة الحجج الداعية إلى «الإلحاد» أو وبشكل أدق الحجج المضادة للإيمان العقائدي. سُجل الحدث وهو متاح لمشاهدته على Youtube.
حوار الفرسان الأربعة (بالإنكليزية)
نُشرت هذه المحادثة في كتاب بعنوان «الفرسان الأربعة،» مع مقدمة متوهجة من ستيفن فرايStephen Fry واصفًا إياها بأنها لحظة فريدة في التاريخ لتُسترجع. إلا إن الإلحاد الجديد قد تلاشى بدلًا من البروز، ويعزى ذلك جزئيًا لأنه وكما أقر مؤيدوه لم يكن مختلفًا تمامًا عن الإلحاد القديم. ويرجع ذلك جزئيًا إلى أنه كان ناتجًا عن ظاهرة «الحرب على الإرهاب،» أو على الأقل استجابة فكرية لما استهدفته تلك الحرب ظاهريًا: ألا وهو الإسلام الراديكالي.
صورة جلسة حوار الفرسان الأربعة:
في نهاية الحوار كانت هناك لحظة قاتمة إلى حد ما، عندما سأل سام هاريس عن آمالهم ومخاوفهم بالنسبة للمستقبل وما الذي يمكن تحقيقه في حياة أطفالهم. يقول هيتشنز إنه على الرغم من أنهم قد يكونون يفوزون في الجدال من الناحية الفكرية، فإنهم من الناحية العالمية وزملائه العلمانيين ضمن «أقلية صغيرة متضائلة ستهزمها القوى الثيوقراطية.» المدافعون الحقيقيون عن العلمانية كما يقول هيتشنز هم فرقة المشاة 82 المحمولة جوًا (وهي فرقة في الجيش الأمريكي).
وقد سُئل هاريس فيما بعد فيما إذا كان يشترك مع الفارس الآخر هيتشنز في منظوره العسكري للحل ضد الآيديولوجيات العقائدية الدوغمائية كالإسلام مثلًا، أجاب هاريس: «أعتقد أنها مشكلة يمكننا أن نغفل عنها لشهور أو حتى لسنوات عدة مرة واحدة…لكنها ستندلع في مرحلة ما. ومن الصعب أن نرى كيف يمكن لهذا العنف أن يحل نفسه دون إصلاح فكري جذري في المجتمع المسلم. ومن الصعب تخيل ذلك في الوقت الحالي.»
أما اليوم فقد أصبح دوكينز ودينيت في أواخر السبعينات من عمرهما ولم يعدا نشيطين كما كانا من قبل، كما إن هيتشنز الأكثر جاذبية بينهم جميعًا قد مات.
ما ترك هاريس وحيدًا في دعم القضية وهو ما فعله بقوة كبيرة حقًا. فاليوم هو واحد من أفضل المفكرين العامين في أمريكا، وذلك بفضل سلسلة من أكثر الكتب مبيعًا، وسلسلات البودكاست الخاصة به، ومشادته المشهورة مع بن أفليك، ومداخلاته في منصة TED، وحواراته على منصة Pangburn.
إن منجزات هاريس الكثيرة وأطروحاته العميقة، وحواراته البناءة، وكتبه المبهرة، أضخم من أن نستطيع تغطيتها كاملة بشكل وافٍ في مقال واحد، وما يزال سام هاريس مستمرًا بإغناء المعرفة البشرية بمزيد من الأفكار والمفاهيم التي ستساعد عالمنا اليوم في تحديد بوصلته ما بين ماضيه وحاضره ومستقبله لمواجهة التحديات والتهديدات التي تحيط بوجودنا جميعًا.
وما بين الهوية والوعي والإيمان والعقل تكمن مفاهيم الحوارات الكبيرة التي تشكل محور الكثير من النقاشات المعاصرة. ولا يبعد عنها أبدًا الرأي الواثق القاسم؛ للمتحدث الهادئ هاريس، الفارس الرابع الذي يمتطي فرسه بثقةٍ وحيدًا.