مصري قديم (فن)
-
المصري القديم(الفن ـ)
إن أهم ما يميز الفن المصري الجدية، فليس فيه أي مظهر من مظاهر العبث والترفيه. وما يُرى من رسوم جدارية أو نحوت أو أعمدة ليس إلا رموزاً لعقيدة المصريين القدماء؛ عقيدة الخلود والبعث.
بدأ تاريخ تعرف الحضارة المصرية منذ حملة نابليون بونابرت على مصر من خلال جهود العلماء الذين رافقوا هذه الحملة؛ وعلى رأسهم العالم شامبليون J.Champollion ت(1790-1832) الذي اكتشف حجر رشيد عام 1822، ومنه استطاع فكّ رموز الكتابة الهيروغليفية؛ ليظهر على إثرها علم جديد سمي علم الآثار المصرية Egyptology، وكان الاكتشاف الثاني الأبرز كشف قبر توت عنخ آمون على يد العالمين كارتر Carter وكارنارفون Carnarvon عام 1923، كما قدمت الآثار التي تم العثور عليها في منطقة (نقادة) دليلاً على تقدم الحضارة المصرية في ذلك العصر، والمستوى الرفيع الذي وصله الفن منذ ظهور الأسرة الأولى التي أسسها «مينا» في «منف»، ومن تلك الآثار الأواني المرمرية واللوحات العاجية، مثل «حجر بالِرْمو» الذي سجلت عليه طقوس إحياء حفلات الجلوس الملكي.
يمكن تمييز بعض المواصفات الفنية التي تعد مميزات عامة للفن المصري سواء في النحت أم العمارة أم التصوير أم الفنون التطبيقية. ففي مجال النحت انتبذ النحت المصري جانباً الأسلوب الطبيعي المثاليّ الذي تميّزت به فنون الدولة القديمة؛ ليحلّ محلّه الأسلوب الشكليّ التجريديّ. ذلك أن فنَّ النحت الذي نهض في الدولة القديمة متميزاً بطابعه الملكي في مراحله الأولى، ثم بشعبيّته وتأثّره بالحياة اليومية؛ قد أخذ يتقيد مع الانهيار السياسي بقيود تكبّله، وبدلاً من أن ينفصل الشكل المنحوت عن أصله الحجري إذا هو يزداد التصاقاً به وكأنه المأوى الذي يلجأ إليه، كما اختفت المنحوتات الرقيقة - من الحجر الجيري - التي امتازت بها الدولة القديمة، وشاعت الأحجار المعتمة التي لم تعد تستخدم التلوين لإبراز تأثيرها الشامل، واكتفت بصقلها صقلاً شديداً. وبينما كانت التماثيل الملكية في الدولة القديمة تتميز بكثرتها وضخامتها إذا هي تستوي وتماثيل عامة الشعب كمّاً وحجماً.
ومنذ بداية الأسرة الثانية عشرة ظهرت مدرستان فنيّتان مختلفتان، هما مدرسة الجنوب ومدرسة الشمال. فكانت مدرسة الجنوب ذات واقعية مباشرة وقوة في التعبير مع خشونة تصل أحياناً إلى الصرامة. وقدّمت مدرسة الشمال أعمالاً تتّسم بالسموّ والوداعة، فنظرات تماثيلهم أشد وداعة، والفم أقلّ مرارة، والوجنتان أكثر امتلاءً واستدارةً. وبدلاً من أن يأخذ الفنانون عن الطبيعة مباشرة أخذوا عن تماثيل منف القديمة التي استخلصوا منها أنماطاً وقواعد انبثقت عنها أجسام أشد امتشاقاً. كانت مدرسة الجنوب أكثر واقعية، ومدرسة الشمال أكثر مثالية، وعاشت المدرستان في البداية إحداهما إلى جوار الأخرى إلى أن انتهى بهما الأمر إلى التقارب واتخاذ طابع عام مشترك بينهما هو إضفاء المثالية على الجمال والميل إلى الأكاديمية والتحوير في بنية الجسم خاصة حتى أصبحت هذه السمة المشتركة سمة رئيسية آخر الأمر لفن الدولة الوسطى؛ كما أن تماثيل الدولة الحديثة قد جمعت أيضاً بين اتجاهي الواقعية والمثالية اللذين سادا في المراحل السابقة، فضلاً عن العناصر التي أضافتها الفتوحات التي أدخلت الترف غير المعهود والزخارف الجديدة، وكذلك الانشقاق الذي فرضه أخناتون Akhenaton (أمنحوتب الرابع) الذي أشعل ثورة معنوية أتاحت لأحاسيس المصريّين الدفينة أن تنبثق، فخرجت تماثيل الدولة الحديثة تجمع إلى الصفات القديمة الراسخة الرشاقةَ ومرونةَ الخطوط والحسّ الجمالي التشكيليّ والاهتمام بالتعبير عن الانفعالات الداخلية، فإذا هي تفوق تماثيل العهود الأخرى في قدرتها على التعبير وفي حيويتها وتحررها ضمن إطار الطابع الرسمي بما يفرضه من تقاليد كهنوتية صارمة؛ على أن نضارة الرجولة الحقة وملامح الفتوّة التي امتازت بها تماثيل الدولة القديمة قد اختفت وظهرت تماثيل تعبّر عن جيل متّصف بالليونة والاستمتاع بالحياة والسعي وراء المظاهر والأبهة. وجاهد الفنان في تشكيل طيّات الثياب المتناسقة وإبراز الشعر المستعار المصفف بعناية؛ ومضى فن النحت في اتجاهين مختلفين: أولهما الأسلوب الرسمي الذي يرجع إلى فن النحت الملكي، وهو أسلوبٌ شكليٌ كلاسيٌ نوعاً ما قائم على اتباع طريقة محددة في التشكيل وصنعة فنيّة متأنقة. وثانيهما الأسلوب المطوّر المتكلف الذي يمتاز بانحناءاته اللطيفة، ويبدو في صور النساء الدقيقات الخصور، الثقيلات الأرداف، السامقات الأطراف، الصغيرات الرؤوس المشرئبة فوق أعناق طويلة.
في النحت المصري تبدو الهيئات - سواء أكانت واقفة أم جالسة - منتصبة على أن يبقى الرأس مع منبت العنق ووسط الجذع في مستوى واحد، وإن أي تغيير في العمود الفقري أو انثناء كان محظراً، وتستند هذه الهيئات بكامل ثقلها إلى مشط القدمين؛ فلا يوجد أي تمثال مصري واقف على قدم واحدة، وكل الأشخاص السائرين يمدون أرجلهم اليسرى إلى الأمام، كما أن التلوين المستخدم في بعض الرسوم الملونة والتماثيل الخشبية والجصية هو تلوين بسيط خال من التدرج اللوني، وليس فيه أي خلط أو تظليل.
وقد تطورت أشكال التماثيل مع تعاقب الأسر الحاكمة في مصر إذ كانت التماثيل قبل حكم الأسرة الرابعة، بسيطة وصغيرة من العاج أو الطين المشوي، فصارت لاحقاً موضع تمجيد الفراعنة، وترمز إلى مكانتهم وقوة شخصيتهم، ومن أهمها وأوضحها تمثال أبي الهول Sphinx في الجيزة الذي بني في عهد خوفو؛ وهو مؤلف من جسم أسد ورأس فرعون، ومن تماثيل الأسرة الثالثة تمثال زوسر الجالس. ومن الأسرة الرابعة تمثال خوفو، أما الأسرة الخامسة فإن أروع ما تركته هو تمثال الكاتب المتربع الموجود في متحف اللوڤر، ويمتاز بعينيه المرصعتين وبنظرته الثاقبة الذكية. وفي عهد الدولة الوسطى التي جمع النحت فيها خاصتي الواقعية والمثالية، وأدخل التعبير النفسي على التماثيل؛ فإن أبرز ما تركته هو تمثال تحوتمس الثالث المنحوت من البازلت؛ والذي تظهر على شفتيه ابتسامة مكر وحزم ممتلئ بالخداع والدهاء. وبعد استلام أمنحوتب الرابع (أخناتون) الحكم وتوحيده الديانة تحول الفن نحو الموضوعية والجاذبية، ومن أشهر تماثيل هذه الحقبة تمثال أخناتون، وتماثيل نفرتيتي، وأهمها الموجود في متحف داهلم، وبعد عهد أخناتون ودينه نقلت تماثيل توت عنخ آمون الأسلوب نفسه، ثم تماثيل رمسيس الثاني، وأهمها الموجودة في معبد أبي سنبل، ثم اضمحل النحت في عهد الدولة الأخيرة، واقتصر على تماثيل صغيرة دقيقة الملامح شديدة الصقل، ومنها تماثيل الفرعون بسماتيك.
أما في مجال العمارة فقد سيطر الطابع الروحي على المباني بما تحويه من الشعور بالفخامة والعظمة والهيبة وما تثيره من غموض ورهبة في تكوينها، وقد اعتمدت في تنوعها على مصادر الطبيعة فكانت مشابهة لسعف النخل أو ورق البردي أو زهور البشنين (اللوتس). وكان المصريون سباقين في استخدام الحجارة في البناء كهرم (سقارة)، في حين كان السائد قبل ذلك استخدام الطين المشوي؛ ليكسب صلادة، وكان الهدف من صلابة المواد تأبيد العمل الفني وتخليده تبعاً لعقيدة الخلود، وقد قامت العمارة القديمة على أسس هندسية دقيقة روعيت فيها نسب الفتحات إلى أطوال الجدران وعرضها، وصمّمت المقابر على شكل مصاطب متصلة بأقبية لحفظ الطعام والمؤونة والحلي وكل ما يحتاج إليه الميت عند نشوره.
تصنف العمارة المصرية إلى عمارة مدفنية وعمارة دينية وعمارة مدنية وعمارة عسكرية إضافة إلى عمارة الأعمدة والمسلات، ففي المدفنية ظهرت الأهرامات؛ وهي قبور مخصصة للفراعنة الملوك، ومن أشهرها هرم خوفو، وهرم خفرع، وهرم منكورع، ويعد هرم سقارة الذي بني في عهد زوسر أول عمارة حجرية في التاريخ؛ وهو عبارة عن بضع مصاطب متصاغرة فوق بعضها بعضاً تحوي العليا منها مصليات ذات أبهة. وتطور بناء الهرم في عهد الأسرة الرابعة، فشمل معبداً لضم المومياء يتصل بالبناء الجنائزي بوساطة طريق حجري صاعد، وهو الهرم الذي يغطي غرفة اللحد، وفي مرحلة الامبراطورية الحديثة نقلت قبور الملوك إلى طيبة في وادي الملوك، واستعيدت تقاليد العمارة المعقدة التي كانت متبعة في بناء الأهرامات إبان الامبراطورية القديمة مع اختلاف بسيط، فقد فصل الطريق الحجري الواصل بين معبد الزيارة والمعبد الجنائزي عن القبر الذي استقر تحت الأرض.
تعد معابد الشمس من أبرز أنواع العمارة الدينية، وهي معابد مفتوحة إلى السماء، أقدمها معبد قصر الصاغة الذي يرجع إلى عهد الأسرة الثالثة، وهو مؤلّف من واجهة ذات باب ينفتح على بهو عرضي متصل بسبعة مصليات، ومن عهد الإمبراطورية الوسطى لم يبق إلا معبد مدينة (مادي)، في حين تعود كل المعابد الباقية إلى الامبراطورية الحديثة التي ازدهرت اقتصادياً، ومن أشهر تلك المعابد معبد آمون الكبير (في الكرنك)، معبد الأقصر، معبد الرامسيوم، ثم المعابد المنحوتة في الجبل كمعبد أبي سنبل ومعبد الملكة حتشبسوت.
لم تلق العمارة المدنية الاهتمام ذاته الذي لقيته العمارة الدينية، ولكن هذا لا يمنع من عدها عمارة مصرية راقية، وبسبب بناء البيوت في الدولة القديمة بمواد خفيفة؛ فإن الآثار التي بقيت منها قليلة جداً عدا بعض الآثار الموجودة في سقارة؛ والتي تعود إلى الأسرة الثالثة، أما في عهد الامبراطورية الوسطى فقد أصبح تنظيم المدن قائماً على الأصول الرباعية، والمنازل مؤلفة من فناء متصل بمسكن مؤلف من طابق واحد، أما في عهد الامبراطورية الحديثة فقد قسمت البيوت إلى بيوت مترفة تحوي الحدائق والبحيرات؛ وبيوت عمالية تتألف من صالة استقبال ومن غرفة ومطبخ حسبما دلت الآثار الموجودة في تل العمارنة مع بقايا تدل على وجود بعض القصور كالموجود في مدينة هابو قرب المعبد الجنائزي.
أما العمارة العسكرية فقليلة هي الآثار الدالة عليها، منها التي وجدت في أهناس؛ وتدل على وجود قلعة مقسمة بثغرات اصطناعية، أو بعض القلاع التي عثر عليها في النوبة؛ والتي تعود إلى الامبراطورية الوسطى.
تعرف المسلّة بأنها قطعة من الغرانيت تحفر على الأرض، وتقلع بوضع أسافين من الخشب في الحفر، وعندما يصب عليها الماء تنفتح، فتشق الصخر، ويكتب عليها عادة اسم الفرعون وعبارات الدعاء والتوسل للإله الذي أقيم له المعبد. من أشهر المسلات مسلة حتشبسوت، وارتفاعها 33.20م، ووزنها 257 طناً، ومسلتا معبد الأقصر.
واستعار المصريون في تزيين أعمدتهم أشكال الأزهار التي وجدت في وادي النيل، فحملت أسماءها، ويتكون العمود المصري من ساق وقاعدة وتاج تعلوه وسادة مربعة تفصل التاج عن كتلة البناء، وأهم أنواع الأعمدة المصرية: العمود البسيط؛ وهو أقدمها، والعمود شبه الدوري ومنه المضلع والمقنى، والعمود البردي واللوتسي… ومعظمها موجود في المعابد الدينية.
وقد ظفر فن التصوير المصري منذ ولد بحريّة لم يظفر بها فن النحت أو فن العمارة؛ إذ كان من شأن المصوّرين أن ينزووا في أعماق المقابر شهوراً في تأمل عميق، بينهم وبين العالم الخارجي حجاب كثيف، يتلقون الوحي عن أنفسهم وما يُحسّون، ثم يضفون على لوحاتهم خلجات قلوبهم. وعلى حين كان سلطان الكهنوت واقفاً بالمرصاد من النحات يغلّ يده، ويحاسبه على كل ضربة إزميل لا تتفق وقداسة تمثال الإله وهيبته؛ كان المصوّر في مأمن من هذا السلطان الجائر مستسلماً في طواعية لسلطان الجمال الفني وحده، تجريديّاً حين يحلّق في سماء الخيال؛ واقعيّاً حين يستوحي مشاهداته؛ كاريكاتيريّاً حين تجنح به نفسه المرحة إلى الدعابة. وقد سلك الفنان المصري دروباً ثلاثة في محاولته إعادة تصوير العالم المرئي: التعبير المباشر الذي تجلّى في ملاحظة الفنان المصري القديم للطبيعة؛ حيوانها ونباتها واختلاف أنشطة الإنسان فيها؛ وتصوير ذلك تصويراً صادقاً لا يشوبه تحوير مقترباً من النموذج الطبيعي محافظاً على واقعيته، ثم تعبير يرتقي به إلى مستوى الفلسفة والسموّ الفكري على ما يتجلى في مقابر بعض الأشراف، وأخيراً تعبير غدت فيه الأشكال رمزية مستغلقة ذات رمز عميق لا تدل دلالة صريحة ظاهرة بل دلالة خفية غامضة غموض أطواء النفس.
اعتمد التصوير على الطريقة الجبهية، مثله مثل النحت، ولم يستخدم الفنانون المنظور، وحافظوا على الصورة الجدارية المسطّحة الخالية من التدرج، فكانت الأشخاص تتوضع فوق بعضها، وحجومها تزداد بازدياد مكانة صاحبها، ومن ثم فإن صورة فرعون كانت الأكبر، وقد تنوعت موضوعات التصوير المصري، وكلها تدل على واقع الحياة والتقاليد والعقائد، واختلفت الموضوعات باختلاف العهود والعصور، ففي الدولة القديمة كانت تمثل الثروة والنشاط الزراعي والصناعي، في حين صار التصوير في الدولة الحديثة متجهاً نحو العالم الآخر، عالم الحساب والدينونة، وظهرت مظاهر الترف في الموائد الكبيرة وأواني الأزهار، ومن أشهر هذه الصور ما نقش على جدران المدافن المحفورة تحت الأرض في وادي الملوك والملكات.
ويضم التصوير المصري النقش بنوعيه البارز والغائر، فالنقش البارز هو نقش على الحجر تبرز فيه الصورة عن سطح الحجر وتدهن الصورة بالألوان الترابية؛ الأحمر للرجال، والأصفر للنساء، والأزرق للنبات، وتوجد هذه النقوش على جدران المعابد والقبور، ويقوم النقش الغائر على حفر حدود الصورة، ويكون الحفر قائماً من الخارج ومائلاً نحو الداخل، وتكون الصورة على مستوى سطح الحجر، وتوجد هذه النقوش في الأماكن المعرضة للشمس؛ لتصبح الصورة أكثر وضوحاً، وتمثل عادة أعمال فرعون وانتصاراته في الحروب. ويضم التصوير المصري أيضاً التصوير الملون الجداري؛ وهو التلوين الذي لا يعتمد على النقش، بل توضع الألوان على الجدران، وترسم بصورة مشابهة للتصوير الزيتي؛ ولكن بألوان ترابية، ومن أهم الأمثلة عليه صورة طاولة العطايا في صنيجم ـ دير المدينة، واعتاد المصريون أيضاً أن يتركوا بالقرب من توابيت موتاهم ملفات من البردي فيها صور تمثل أوضاع المتوفى في التابوت وأمام الآلهة، كما تتضمن صوراً عن الحياة الريفية ومناظر الحياة اليومية.
كان المصريون سباقين في مجال الفنون التطبيقية، وكانت الأواني والأثاث والحلي التي عثر عليها آية في الجمال ودليلاً قوياً على تطور هذا الفن وتقدمه إذ استعمل فيه المصريون أوفر عدد ممكن من الخامات كالعاج والأبنوس والذهب والأحجار الكريمة والزجاج والميناء والرخام، واعتمدوا فيه على صيغ نباتية مستوحاة من زهرة اللوتس والبردي والنخيل، وعلى رسوم رمزية ذات أصول إنسانية وحيوانية، وشمل كل ما يتعلق بالأدوات المستخدمة في الحياة اليومية، من مثل الأثاث والحلي والعربات والتوابيت، وقد اختلفت أنواع هذه الفنون وأنماطها باختلاف العصور، ففي عهد الأسرة الأولى ظهر التطعيم في الأثاث وعلى الحلي، وكان يتم بعجائن ملونة كالميناء أو بأحجار كريمة ملونة، واستخدم الذهب والفضة في صناعة الحلي، وكان أحياناً يحفر اسم الفرعون على الأحجار الكريمة؛ وتستخدم كأختام ملكية أو تمائم، وفي عهد الدولة المتوسطة ارتفع مستوى صناعة الحلي، ومن أشهر القلائد المعروفة قلائد سينوسريت الثاني والثالث.
وفي الدولة الحديثة ازداد استخدام الزجاج عوضاً عن الميناء، وظهرت الأواني الزجاجية بأشكال مختلفة وبألوان متعددة مصنوعة باليد وملونة بأساليب خاصة جداً، وكان الأثاث ثميناً وملوناً مصنوعاً من الخشب الثمين المطعم بالأبنوس والعاج وأحجار الزجاج، وله أشكال وفيرة بحسب الحاجة، ومن أهم الآثار الموجودة ما وجد في قبر توت عنخ آمون.
لقد كان الفن المصري مرآة عكست الحقيقة الحضارية والفنية لمصر القديمة.
نهيل نزال
-
المصري القديم(الفن ـ)
إن أهم ما يميز الفن المصري الجدية، فليس فيه أي مظهر من مظاهر العبث والترفيه. وما يُرى من رسوم جدارية أو نحوت أو أعمدة ليس إلا رموزاً لعقيدة المصريين القدماء؛ عقيدة الخلود والبعث.
بدأ تاريخ تعرف الحضارة المصرية منذ حملة نابليون بونابرت على مصر من خلال جهود العلماء الذين رافقوا هذه الحملة؛ وعلى رأسهم العالم شامبليون J.Champollion ت(1790-1832) الذي اكتشف حجر رشيد عام 1822، ومنه استطاع فكّ رموز الكتابة الهيروغليفية؛ ليظهر على إثرها علم جديد سمي علم الآثار المصرية Egyptology، وكان الاكتشاف الثاني الأبرز كشف قبر توت عنخ آمون على يد العالمين كارتر Carter وكارنارفون Carnarvon عام 1923، كما قدمت الآثار التي تم العثور عليها في منطقة (نقادة) دليلاً على تقدم الحضارة المصرية في ذلك العصر، والمستوى الرفيع الذي وصله الفن منذ ظهور الأسرة الأولى التي أسسها «مينا» في «منف»، ومن تلك الآثار الأواني المرمرية واللوحات العاجية، مثل «حجر بالِرْمو» الذي سجلت عليه طقوس إحياء حفلات الجلوس الملكي.
تمثال نفرتيتي |
ومنذ بداية الأسرة الثانية عشرة ظهرت مدرستان فنيّتان مختلفتان، هما مدرسة الجنوب ومدرسة الشمال. فكانت مدرسة الجنوب ذات واقعية مباشرة وقوة في التعبير مع خشونة تصل أحياناً إلى الصرامة. وقدّمت مدرسة الشمال أعمالاً تتّسم بالسموّ والوداعة، فنظرات تماثيلهم أشد وداعة، والفم أقلّ مرارة، والوجنتان أكثر امتلاءً واستدارةً. وبدلاً من أن يأخذ الفنانون عن الطبيعة مباشرة أخذوا عن تماثيل منف القديمة التي استخلصوا منها أنماطاً وقواعد انبثقت عنها أجسام أشد امتشاقاً. كانت مدرسة الجنوب أكثر واقعية، ومدرسة الشمال أكثر مثالية، وعاشت المدرستان في البداية إحداهما إلى جوار الأخرى إلى أن انتهى بهما الأمر إلى التقارب واتخاذ طابع عام مشترك بينهما هو إضفاء المثالية على الجمال والميل إلى الأكاديمية والتحوير في بنية الجسم خاصة حتى أصبحت هذه السمة المشتركة سمة رئيسية آخر الأمر لفن الدولة الوسطى؛ كما أن تماثيل الدولة الحديثة قد جمعت أيضاً بين اتجاهي الواقعية والمثالية اللذين سادا في المراحل السابقة، فضلاً عن العناصر التي أضافتها الفتوحات التي أدخلت الترف غير المعهود والزخارف الجديدة، وكذلك الانشقاق الذي فرضه أخناتون Akhenaton (أمنحوتب الرابع) الذي أشعل ثورة معنوية أتاحت لأحاسيس المصريّين الدفينة أن تنبثق، فخرجت تماثيل الدولة الحديثة تجمع إلى الصفات القديمة الراسخة الرشاقةَ ومرونةَ الخطوط والحسّ الجمالي التشكيليّ والاهتمام بالتعبير عن الانفعالات الداخلية، فإذا هي تفوق تماثيل العهود الأخرى في قدرتها على التعبير وفي حيويتها وتحررها ضمن إطار الطابع الرسمي بما يفرضه من تقاليد كهنوتية صارمة؛ على أن نضارة الرجولة الحقة وملامح الفتوّة التي امتازت بها تماثيل الدولة القديمة قد اختفت وظهرت تماثيل تعبّر عن جيل متّصف بالليونة والاستمتاع بالحياة والسعي وراء المظاهر والأبهة. وجاهد الفنان في تشكيل طيّات الثياب المتناسقة وإبراز الشعر المستعار المصفف بعناية؛ ومضى فن النحت في اتجاهين مختلفين: أولهما الأسلوب الرسمي الذي يرجع إلى فن النحت الملكي، وهو أسلوبٌ شكليٌ كلاسيٌ نوعاً ما قائم على اتباع طريقة محددة في التشكيل وصنعة فنيّة متأنقة. وثانيهما الأسلوب المطوّر المتكلف الذي يمتاز بانحناءاته اللطيفة، ويبدو في صور النساء الدقيقات الخصور، الثقيلات الأرداف، السامقات الأطراف، الصغيرات الرؤوس المشرئبة فوق أعناق طويلة.
في النحت المصري تبدو الهيئات - سواء أكانت واقفة أم جالسة - منتصبة على أن يبقى الرأس مع منبت العنق ووسط الجذع في مستوى واحد، وإن أي تغيير في العمود الفقري أو انثناء كان محظراً، وتستند هذه الهيئات بكامل ثقلها إلى مشط القدمين؛ فلا يوجد أي تمثال مصري واقف على قدم واحدة، وكل الأشخاص السائرين يمدون أرجلهم اليسرى إلى الأمام، كما أن التلوين المستخدم في بعض الرسوم الملونة والتماثيل الخشبية والجصية هو تلوين بسيط خال من التدرج اللوني، وليس فيه أي خلط أو تظليل.
وقد تطورت أشكال التماثيل مع تعاقب الأسر الحاكمة في مصر إذ كانت التماثيل قبل حكم الأسرة الرابعة، بسيطة وصغيرة من العاج أو الطين المشوي، فصارت لاحقاً موضع تمجيد الفراعنة، وترمز إلى مكانتهم وقوة شخصيتهم، ومن أهمها وأوضحها تمثال أبي الهول Sphinx في الجيزة الذي بني في عهد خوفو؛ وهو مؤلف من جسم أسد ورأس فرعون، ومن تماثيل الأسرة الثالثة تمثال زوسر الجالس. ومن الأسرة الرابعة تمثال خوفو، أما الأسرة الخامسة فإن أروع ما تركته هو تمثال الكاتب المتربع الموجود في متحف اللوڤر، ويمتاز بعينيه المرصعتين وبنظرته الثاقبة الذكية. وفي عهد الدولة الوسطى التي جمع النحت فيها خاصتي الواقعية والمثالية، وأدخل التعبير النفسي على التماثيل؛ فإن أبرز ما تركته هو تمثال تحوتمس الثالث المنحوت من البازلت؛ والذي تظهر على شفتيه ابتسامة مكر وحزم ممتلئ بالخداع والدهاء. وبعد استلام أمنحوتب الرابع (أخناتون) الحكم وتوحيده الديانة تحول الفن نحو الموضوعية والجاذبية، ومن أشهر تماثيل هذه الحقبة تمثال أخناتون، وتماثيل نفرتيتي، وأهمها الموجود في متحف داهلم، وبعد عهد أخناتون ودينه نقلت تماثيل توت عنخ آمون الأسلوب نفسه، ثم تماثيل رمسيس الثاني، وأهمها الموجودة في معبد أبي سنبل، ثم اضمحل النحت في عهد الدولة الأخيرة، واقتصر على تماثيل صغيرة دقيقة الملامح شديدة الصقل، ومنها تماثيل الفرعون بسماتيك.
أبو الهول وأهرامات الجيزة الشهيرة |
تصنف العمارة المصرية إلى عمارة مدفنية وعمارة دينية وعمارة مدنية وعمارة عسكرية إضافة إلى عمارة الأعمدة والمسلات، ففي المدفنية ظهرت الأهرامات؛ وهي قبور مخصصة للفراعنة الملوك، ومن أشهرها هرم خوفو، وهرم خفرع، وهرم منكورع، ويعد هرم سقارة الذي بني في عهد زوسر أول عمارة حجرية في التاريخ؛ وهو عبارة عن بضع مصاطب متصاغرة فوق بعضها بعضاً تحوي العليا منها مصليات ذات أبهة. وتطور بناء الهرم في عهد الأسرة الرابعة، فشمل معبداً لضم المومياء يتصل بالبناء الجنائزي بوساطة طريق حجري صاعد، وهو الهرم الذي يغطي غرفة اللحد، وفي مرحلة الامبراطورية الحديثة نقلت قبور الملوك إلى طيبة في وادي الملوك، واستعيدت تقاليد العمارة المعقدة التي كانت متبعة في بناء الأهرامات إبان الامبراطورية القديمة مع اختلاف بسيط، فقد فصل الطريق الحجري الواصل بين معبد الزيارة والمعبد الجنائزي عن القبر الذي استقر تحت الأرض.
هرم سقارة |
لم تلق العمارة المدنية الاهتمام ذاته الذي لقيته العمارة الدينية، ولكن هذا لا يمنع من عدها عمارة مصرية راقية، وبسبب بناء البيوت في الدولة القديمة بمواد خفيفة؛ فإن الآثار التي بقيت منها قليلة جداً عدا بعض الآثار الموجودة في سقارة؛ والتي تعود إلى الأسرة الثالثة، أما في عهد الامبراطورية الوسطى فقد أصبح تنظيم المدن قائماً على الأصول الرباعية، والمنازل مؤلفة من فناء متصل بمسكن مؤلف من طابق واحد، أما في عهد الامبراطورية الحديثة فقد قسمت البيوت إلى بيوت مترفة تحوي الحدائق والبحيرات؛ وبيوت عمالية تتألف من صالة استقبال ومن غرفة ومطبخ حسبما دلت الآثار الموجودة في تل العمارنة مع بقايا تدل على وجود بعض القصور كالموجود في مدينة هابو قرب المعبد الجنائزي.
أما العمارة العسكرية فقليلة هي الآثار الدالة عليها، منها التي وجدت في أهناس؛ وتدل على وجود قلعة مقسمة بثغرات اصطناعية، أو بعض القلاع التي عثر عليها في النوبة؛ والتي تعود إلى الامبراطورية الوسطى.
تعرف المسلّة بأنها قطعة من الغرانيت تحفر على الأرض، وتقلع بوضع أسافين من الخشب في الحفر، وعندما يصب عليها الماء تنفتح، فتشق الصخر، ويكتب عليها عادة اسم الفرعون وعبارات الدعاء والتوسل للإله الذي أقيم له المعبد. من أشهر المسلات مسلة حتشبسوت، وارتفاعها 33.20م، ووزنها 257 طناً، ومسلتا معبد الأقصر.
واستعار المصريون في تزيين أعمدتهم أشكال الأزهار التي وجدت في وادي النيل، فحملت أسماءها، ويتكون العمود المصري من ساق وقاعدة وتاج تعلوه وسادة مربعة تفصل التاج عن كتلة البناء، وأهم أنواع الأعمدة المصرية: العمود البسيط؛ وهو أقدمها، والعمود شبه الدوري ومنه المضلع والمقنى، والعمود البردي واللوتسي… ومعظمها موجود في المعابد الدينية.
تصوير جداري في أحد قبور طيبة يمثل نقل القمح بالزورق |
اعتمد التصوير على الطريقة الجبهية، مثله مثل النحت، ولم يستخدم الفنانون المنظور، وحافظوا على الصورة الجدارية المسطّحة الخالية من التدرج، فكانت الأشخاص تتوضع فوق بعضها، وحجومها تزداد بازدياد مكانة صاحبها، ومن ثم فإن صورة فرعون كانت الأكبر، وقد تنوعت موضوعات التصوير المصري، وكلها تدل على واقع الحياة والتقاليد والعقائد، واختلفت الموضوعات باختلاف العهود والعصور، ففي الدولة القديمة كانت تمثل الثروة والنشاط الزراعي والصناعي، في حين صار التصوير في الدولة الحديثة متجهاً نحو العالم الآخر، عالم الحساب والدينونة، وظهرت مظاهر الترف في الموائد الكبيرة وأواني الأزهار، ومن أشهر هذه الصور ما نقش على جدران المدافن المحفورة تحت الأرض في وادي الملوك والملكات.
ويضم التصوير المصري النقش بنوعيه البارز والغائر، فالنقش البارز هو نقش على الحجر تبرز فيه الصورة عن سطح الحجر وتدهن الصورة بالألوان الترابية؛ الأحمر للرجال، والأصفر للنساء، والأزرق للنبات، وتوجد هذه النقوش على جدران المعابد والقبور، ويقوم النقش الغائر على حفر حدود الصورة، ويكون الحفر قائماً من الخارج ومائلاً نحو الداخل، وتكون الصورة على مستوى سطح الحجر، وتوجد هذه النقوش في الأماكن المعرضة للشمس؛ لتصبح الصورة أكثر وضوحاً، وتمثل عادة أعمال فرعون وانتصاراته في الحروب. ويضم التصوير المصري أيضاً التصوير الملون الجداري؛ وهو التلوين الذي لا يعتمد على النقش، بل توضع الألوان على الجدران، وترسم بصورة مشابهة للتصوير الزيتي؛ ولكن بألوان ترابية، ومن أهم الأمثلة عليه صورة طاولة العطايا في صنيجم ـ دير المدينة، واعتاد المصريون أيضاً أن يتركوا بالقرب من توابيت موتاهم ملفات من البردي فيها صور تمثل أوضاع المتوفى في التابوت وأمام الآلهة، كما تتضمن صوراً عن الحياة الريفية ومناظر الحياة اليومية.
كان المصريون سباقين في مجال الفنون التطبيقية، وكانت الأواني والأثاث والحلي التي عثر عليها آية في الجمال ودليلاً قوياً على تطور هذا الفن وتقدمه إذ استعمل فيه المصريون أوفر عدد ممكن من الخامات كالعاج والأبنوس والذهب والأحجار الكريمة والزجاج والميناء والرخام، واعتمدوا فيه على صيغ نباتية مستوحاة من زهرة اللوتس والبردي والنخيل، وعلى رسوم رمزية ذات أصول إنسانية وحيوانية، وشمل كل ما يتعلق بالأدوات المستخدمة في الحياة اليومية، من مثل الأثاث والحلي والعربات والتوابيت، وقد اختلفت أنواع هذه الفنون وأنماطها باختلاف العصور، ففي عهد الأسرة الأولى ظهر التطعيم في الأثاث وعلى الحلي، وكان يتم بعجائن ملونة كالميناء أو بأحجار كريمة ملونة، واستخدم الذهب والفضة في صناعة الحلي، وكان أحياناً يحفر اسم الفرعون على الأحجار الكريمة؛ وتستخدم كأختام ملكية أو تمائم، وفي عهد الدولة المتوسطة ارتفع مستوى صناعة الحلي، ومن أشهر القلائد المعروفة قلائد سينوسريت الثاني والثالث.
وفي الدولة الحديثة ازداد استخدام الزجاج عوضاً عن الميناء، وظهرت الأواني الزجاجية بأشكال مختلفة وبألوان متعددة مصنوعة باليد وملونة بأساليب خاصة جداً، وكان الأثاث ثميناً وملوناً مصنوعاً من الخشب الثمين المطعم بالأبنوس والعاج وأحجار الزجاج، وله أشكال وفيرة بحسب الحاجة، ومن أهم الآثار الموجودة ما وجد في قبر توت عنخ آمون.
لقد كان الفن المصري مرآة عكست الحقيقة الحضارية والفنية لمصر القديمة.
نهيل نزال