|
وقد ازدادت أهمية برزخ السويس في عهد الفرس، فلما حكم داريوس ملك الفرس مصر في عام 510ق.م، أعار القناة جلّ اهتمامه فأمر باستمرار الحفر فيها، وأدخل عليها تحسينات كبيرة، ولكنه لم يفلح على الأرجح في وصل البحيرة المرة بالبحر الأحمر إلا بوساطة قنوات صغيرة لم تكن صالحة للملاحة إلا في أثناء فيضان النيل.
وفي عام 285ق.م، تمّ إعداد القناة بأكملها، إذ أمر بطلميوس الثاني بحفر الجزء الواقع بين البحيرة المرّة والبحر الأحمر، ليحل محل القنوات الصغيرة التي حفرها داريوس، فأصبحت القناة تصب في البحر الأحمر بجوار مدينة كليسما (وهو اسم السويس الإغريقي القديم).
وفي عام 98م، ولأسباب تتعلق بضرورات التجارة، رأى الرومان إعادة استخدام القناة بعد أن عبثت بها أيدي الإهمال في أواخر عهد البطالسة، فقام الامبراطور تراجان بحفر وصلة جديدة تبدأ من بابليون (القاهرة) وتصب في القرية المعروفة بالعباسية، حيث تتصل بالفرع القديم (بوبست ـ البحيرة المرة)، غير أن القناة أُهملت من جديد في عهد البيزنطيين، إذ تركوا التراب يطغى عليها، وغدت غير صالحة للملاحة.
ولما فتح العرب المسلمون مصر، ووُلّي عليها عمرو بن العاص (641ـ644م)، خطر له أن يحفر قناة تصل مباشرة بين البحرين المتوسط والأحمر، وتشق السهل المنبسط القليل الارتفاع، الممتد جنوبي فرما، وهي مدينة كانت قائمة على مقربة من موقع بور سعيد الحالي. ولكن الخليفة عمر بن الخطاب عارض هذا المشروع، إذ جاء من ينبهه إلى أن شق البرزخ يعرض مصر كلها لطغيان مياه البحر الأحمر، فأمر الخليفة بالاكتفاء بإعادة قناة الرومان القديمة، لكي يتسنى للسفن السفر إلى الحجاز واليمن والهند، وبذلك أعاد العرب قناة الرومان إلى الملاحة من الفسطاط إلى القلزم، في أقل من ستة أشهر (القلزم هو اللفظ العربي لاسم السويس القديم كليسما).
وقد سُميت هذه القناة بقناة أمير المؤمنين، واستُخدمت زهاء 150سنة، لتنشيط التبادل التجاري بين البلاد العربية وأنحاء المعمورة كافة، وخاصة لنقل الحجاج إلى بيت الله الحرام. على أن الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور أمر بردمها في نهاية القرن الثامن، كيلا تستخدم في نقل المؤن إلى أهل المدينة الذين تمردوا على سلطته، فتعطلت بذلك الصلة مع البحرين مدة أحد عشر قرناً.
وفي أثناء إقامة الفرنسيين في مصر، إثر الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت، درس المهندسون الذين رافقوا الحملة العسكرية، النيل والبحر الأحمر وبرزخ السويس، وبحث علماء الآثار عن بقايا الأقنية القديمة. ولم يكن من السهل على «دوليسبس» إقناع المسؤولين بفكرة فتح القناة، بسبب المخاوف القديمة من طغيان مياه البحر التي كانت تراود أفكار الناس. واستمر دوليسبس في بذل مساعيه مستفيداً من صداقته للخديوي محمد سعيد، الذي أصدر فرماناً في تشرين الثاني من عام 1854 يعطي امتياز فتح القناة إلى دوليسبس، وصدق الباب العالي امتياز القناة في تشرين الثاني 1858، وكانت مدة الامتياز 99سنة.
ومع العقبات الكثيرة التي واجهت هذا المشروع، فقد أمكن تدشينها في تشرين الثاني من عام 1869، وحضر الحفلة عدد من ملوك أوربا، ومنهم الامبراطورة أوجين زوجة نابليون الثالث وامبراطور النمسا وأمير بروسيا.
وبقيت القناة التي تمر عبر أراضي مصر، والتي حفرتها أيد عربية، ملكاً لشركة السويس العالمية، ومركزها باريس، إلى أن أممتها الحكومة المصرية في 26تموز 1956، فغدت شركة مصرية (عربية) وطنية.
مخطط القناة
قناة السويس إلى الجنوب من الإسماعيلية |
ولم تحفر القناة بشكل مستقيم في كل أجزائها، لذلك بلغ طولها الفعلي 173كم، والخاصة الرئيسة لقناة السويس أن حركة الملاحة فيها تتم من دون سدود (أهوسة)، وأن ارتفاع الماء لا يزيد في أي نقطة من نقاطها على مستوى البحر، أما عرضها فيراوح بين 95 و120م عند سطح الماء، و60م على عمق 11م، وأقصى غاطس مصرح به للسفن العابرة 10.67م قبل التحسينات التي أُدخلت عليها.
وقد خضعت القناة لأعمال تعميق وتوسيع مرات عدة، وترمي التعديلات التي أُدخلت على القناة إلى ثلاثة أهداف رئيسة:
أولاً ـ تعميق القناة، بحيث تسمح بمرور سفن يزيد غاطسها على 14.3م.
ثانياً ـ توسيع القناة، بحيث يراوح قطاعها المائي بين 1850 و1900م2.
ثالثاً ـ توحيد طراز إكساء ضفاف القناة، على طول القناة.
وكانت السفن فيما مضى تعبر القناة فرادى، أما اليوم، فيتبع في مرورها نظام القوافل، بحيث تقوم كل يوم قافلتان من بور سعيد، الأولى ليلاً في الساعة الواحدة، وتتوقف مرة واحدة في البحيرات المرة، والقافلة الثانية في الساعة التاسعة صباحاً، وتتوقف مرة واحدة أيضاً في الفرع الإفريقي (الغربي) من تفريعة البلاح بين الكيلومترين 51 و61، وتقوم قافلة واحدة من السويس في منتصف الساعة السادسة صباحاً، وتسير مباشرة إلى بور سعيد دون توقف.
المسافة المختصرة | %إلى طريق رأس الرجاء الصالح | |
إلى بومباي | 8894كم | 44 |
إلى كولومبو | 7468كم | 38 |
إلى رانغون | 7505كم | 34 |
إلى سنغفاورة | 6930كم | 32 |
إلى يوكوهاما | 6689كم | 25 |
الجدول 1 |
يرجع النجاح الكبير الذي أحرزته قناة السويس قبل كل شيء إلى المسافات الكبيرة التي تختصرها السفن الذاهبة من أوربا الغربية إلى بلاد الشرق الأقصى إذا ما مرت بهذه القناة؛ فالسفينة التي تنطلق من لندن نحو مرافئ الشرق الأقصى تختصر المسافات المدرجة في الجدول (1) إذا ما مرت بالسويس بدلاً من المرور حول رأس الرجاء الصالح.
خطر الأنابيب
تتلخص استراتيجية الأنابيب في أنها اختزال للمسافة؛ فالمسافة من الخليج إلى المتوسط لطريق السويس تبلغ 8338كم، بينما لا يزيد طول التابلاين، أطول أنابيب المشرق العربي، على 1700كم إلا قليلاً، فهناك على الأقل 6626كم وفراً، فترى بعدها سلسلة من الوفورات الاقتصادية المترابطة: في عدد الناقلات عبر المتوسط، في عدد رحلات الناقلة، في النفقات الأولية والصيانة والتشغيل. وعموماً يغدو مجمل الوفورات الاقتصادية للنقل بالأنابيب مقارنة بتكاليف القناة بنحو الثلث أو يزيد قليلاً. ومن الواضح في المحصلة النهائية، وإلى هذا المدى، أن كفة الأنابيب لاشك ترجح كفة القناة.
ولا جدال أن هذا يشير إلى خطورة المنافسة، كما أن الوضع كله يثير قضية المناقشة بين البر والبحر، أو الصراع بين الطريق البري والطريق البحري، فلقد كانت هناك دائماً طوال التاريخ علاقة عكسية بين الطريقين فيما يخص تجارة المرور حول الجزيرة العربية وعلى جانبيها.
صفوح خير