يمكن الإجابة المختصرة عن هذا السؤال بأن وظيفة عالِم الطبيعة هي فهم الطبيعة وقوانينها واستكشاف أعماق تفاعل تلك القوانين مع بعضها البعض.
فصناعة العلم لا تصبو إلى تبرير أو دعم هذا العرف الاجتماعي أو ذاك المعتقد الديني.
ويبنى جوهر البحث العلمي على التساؤل والشكّ وتحدي المعارف والنظريات القائمة، وليس على مجرد تأكيد ما هو مقبول مُسْبقًا علميًا أو اجتماعيًا أو دينيًا.
فإذا كانت الإجابة عن التساؤلات العلمية معروفة مسبقًا، فما الهدف إذًا من العملية العلمية؟ لا ريب أن ممارسة العلم عندها تصبح ممجوجة، وفارغة المضمون، واهنه عن التحدي، لا تخلق الجديد ولا تتعمّق في دراسة المجهول.
فالعالِم حينها يصبح كالسفينة التي لا تترك ميناءها خوفا مما ينتظرها في أعالي البحار أو في الطرف الآخر من المحيط.
فهذا النوع من «العلم» لا يساهم في زيادة المعرفة، بل يشكّل أداة لتكريس الجهل.
يهدد هذا الالتباس في دور العلم الدين أيضًا بالقدر ذاته الذي يهدد به العلم.
فعندما يدّعي البعض أن دينه يتنبأ بواقع أو حدث معين وهذا الحدث لا يتحقق على أرض الواقع يفقد هذا الدين مصداقيته. وحدث هذا على مدار التاريخ البشري مرارًا وتكرارًا.
فعندما يقال لنا مثلًا أنه يوجد نص ديني معيّن يدعم نظرية الانفجار الكبير، فماذا نفعل بهذا النص إذا ما اكتشف العلماء نظرية أفضل من نظرية الانفجار الكبير أو رصدوا ظواهر جديدة توضح بأن الانفجار الكبير لم يحدث قط، كما حدث ويحدث للنظريات العلمية؟ فهل يعني هذا أن النص الديني خاطئ من أساسه؟ إن هذه البلبلة في دور العلم ودور الدين تمثّل عملية مدمرة للطرفين!
يمارَس العلم الحديث إجمالًا من خلال ما يسمى «المنهج العلمي» (The Scientific Method).
وتعود جذور هذا المنهج إلى أعمال أبو الكيمياء، جابر بن حيان، الذي كان أول من شدد على دور التجارب في دراسة الكيمياء.
ولأبحاث ابن الهيثم في علم البصريات الذي أدخل معايير صارمة على كيفية القيام بالتجارب، وتممت ذلك لاحقًا فلسفة روجر بيكون الذي عمم الاعتماد على الاستدلال الاستقرائي (Inductive reasoning) في العلوم الطبيعية.
وهكذا تَبَلوَر المنهج العلمي ليأخذ شكله العصري في القرن السابع عشر، إثر الثورة الكوبيرنيكية (نسبة للعالم البولندي نيكولاس كوبيرنيكوس) التي جزمت بأن الشمس، لا الأرض، هي مركز المجموعة الشمسية.
واكتملت هذه الثورة بدراسة كبلر لمدارات الكواكب السيارة حول الشمس، واكتشاف غاليليو لأقمار تدور حول المُشتري، وتوّجت بإنجازات نيوتن الكبيرة، الذي وضع أسس الفيزياء الميكانيكية واكتشف قانون الجاذبية.
ومنذ ذلك الوقت أصبح المنهج العلمي حجر الأساس في الإنتاج العلمي في العلوم الطبيعية (والعلوم الاجتماعية، أو على الأقل تلك التي تَدَّعي العلمية منها).
ويقضي هذا المنهج بأن البحث العلمي عملية مستمرة تتضمن عددًا من الخطوات.
وأستعين بمثال واقعي لتوضيح هذه الخطوات، وإن كان جزءٌ من التجارب والأرقام التي أذكرها بصدده من محض خيالي، لكنني أفعل ذلك بهدف التوضيح فقط كما أسلفت.
والخطوات التي تحدثت عنها هي كالتالي:
طرح أسئلة عن ظاهرة معينة، مثلًا «لماذا مياه البحر مالحة؟» ويأتي هذا السؤال من خلال سياق علمي معين وهو ليس خاليًا من الفرضيات السابقة، فنحن لم نسأل مثلًا «لماذا مياه البحر حلوة المذاق؟» هذه صفة عامة للأسئلة العلمية، أي أن السياق، والمعرفة المسبقة، والتصور المقبول عادةً (ليس دائمًا) ترشدنا إلى الأسئلة الصحيحة.
وطرح الأسئلة الصحيحة هو في كثير من الأحيان أدقّ وأهم خطوة في عملية البحث العلمي.
بلورة تصور (pothesisy) يضع نظرية تجيب عن السؤال المطروح.
وتوجد عادة العديد من التصورات أو النظريات التي تجيب عن الأسئلة المطروحة.
ففي مثالنا عن ملوحة مياه المحيطات يمكن التصور أن الأنهار والينابيع تحمل معها ملوحة تزودها للبحار، أو أن الملح حمله للبحر نيزك، الخ.
لكن أي هذه التصورات هو الصحيح؟ هذا ما تحدده الخطوة التالية.
القيام بتنبؤات يمكن رصدها بواسطة التجارب عن إسقاطات ونتائج هذا التصور.
وهذا هو أحد الشروط الأساسية لأي تصور ليكون علمياً.
فبالنسبة لمثالِنا، قد يأتي أحدهم بنظرية تقول بأن بوسايدون، إله البحر عند اليونانيين القدماء، أحضر الملح إلى المحيطات.
هذه النظرية ليست علمية بتاتًا، على الرغم من أنها تقترح تفسيرًا لوجود الملح في مياه المحيطات، لأنها لا تتنبأ بنتائج أخرى نستطيع فحصها تجريبيًا.
فهي موازية منطقيًا لتفسير «الماء بالماء» أو للرد على سؤالنا بالجواب العبثي «لأنه هكذا!».
بينما يمكن أن نجد لنظرية حمل الأنهار الملح للبحار عواقب قابلة للفحص. فهي تعني، مثلًا، أن مياه المحيطات كانت أقل ملوحة في الماضي.
أي أن للتصورات والنظريات العلمية نتائج وإسقاطات بالإمكان فحصها من خلال التجارب والتي تمكننا، مبدئيًا على الأقل من دحض النظرية المطروحة.
فحص هذه التنبؤات بواسطة التجارب أو الرصد (كما في علوم الفلك والأحياء).
فعلى العالم التفكير في كيفية فحص النظريات والتصورات المختلفة.
ويجب أن تكون نتائج التجربة أو الرصد واضحة لا تقبل التأويل أو التفسير المزدوج، بقدر الإمكان (هذا مثلًا ما أصر عليه ابن الهيثم).
وبالطبع موافقة التجربة مع تنبؤات النظرية لا يعني صحة الأخيرة.
بل يعني فقط بأن هذه التجربة لا تدحض النظرية، فلربما توجد تجربة أخرى قد تدحضها.
ففي مثالنا، يمكن قياس كمية الملح الذي تحمله الأنهار إلى المحيط سنويًا.
فإذا كانت النتيجة تدل أن الأنهار لا تحمل بتاتا أملاحًا إلى المحيط نكون قد دحضنا النظرية!
تحليل نتائج التجارب.
تمكننا هذه الخطوة من تحديد إن كانت نتائج التجارب تتفق مع ما تتنبأ به النظرية بصورة لا تقبل التأويل! فقد يحتاج العالم إلى استخدام أدوات الإحصاء الرياضي (Mathematical Statistics) لتَبْيين ذلك.
وعليه الأخذ في الحسبان أخطاء القياس (المنهجية والإحصائية) المقترنة بالتجارب دائمًا.
فقد تتمخض التجارب على نظرية ملوحة المحيطات بأن 70% من كمية الملح في المحيطات تأتي من الأنهار ومصادر المياه الأخرى التي تصب في المحيطات.
إذًا فنظريتنا تفسر وجود الأملاح في المحيطات لكن ليس بالكامل! ما العمل عندها؟ هذا هو ما تبينه الخطوة الأخيرة في خطوات المنهج العلمي.
طرح أسئلة جديدة أو تعديل التصور (وأحيانًا حتى تغييره تمامًا).
في هذه المرحلة تعود عجلة المنهج العلمي التي لا تنتهي إلى المرحلة الأولى، مرحلة التساؤل ووضع تصورات جديدة أو معَدَّلة! فقد تفتح نتيجة التجربة المجال لأسئلة أخرى أو حتى لدحض النظرية التي نفحصها جملةً وتفصيلًا.
ففي مثال الملح نسأل لماذا 70% فقط؟ هل كانت نسبة ملوحة الأنهار في الماضي أكبر؟ كيف نستطيع فحص ذلك؟ أو ربما يوجد مصدر آخر للملح كالينابيع الحرارية الجوفية الموجودة في قاع المحيطات، أو ربما أن نيزكًا حمل الملح إلى المحيط، إلخ. وهكذا.
لاحظ أن العملية العلمية لا تنتهي، فبالرغم من انتهاء الأسئلة والتجارب التي نفحص بها نظرية معينة في مرحله معينة، فإن هذا لا يعني أنّا برهَنّا النظرية! إذ يوجد دائمًا مجال لظهور حقائق جديدة غير متوقعة تجعلنا نتساءل من جديد عن صحة النظرية! فبعكس النظريات الرياضية (التي تستند على الاستنباط، Deduction)، لا يمكن أبدًا أن نبرهن النظريات العلمية (التي تستند على الاستقراء، Induction)، إذ يوجد دائمًا، ولو ذرة، من الشكّ.
إذا فبحسب هذا المنهج، فإن صناعة العلم الأساسية هي البحث عن القوانين التي تحكم الطبيعة وتفسير الظواهر المختلفة بواسطة تلك القوانين.
فهو يفرض مسبقًا بأنه من الممكن للإنسان معرفة الطبيعة وإدراكها.
أي أن محدودية وَعْيِنا هي ليست اعتبارًا في عملية المعرفة العلمية.
ثانيًا يفرض هذا المنهج، وبشكل أساسي، بأن الطبيعة تتضمن نفسها.
أي أن كل ما تَدرُسُه العلوم الطبيعية تحكمه قوانين الطبيعة، فلا يوجد شيء فوق هذه القوانين أو خارجها.
ولا تتغير هذه القوانين مع تغير الزمان والمكان (على الرغم من تغير فهمنا لها عبر العصور).
أي أن القوانين التي حكمت الكون منذ مليارات السنين، هي القوانين عينها التي تحكم الطبيعة الآن وهي ما سيحكمها في المستقبل البعيد.
فالعلم لا يسأل مثلًا ما سبب وجود الطبيعة، أو ما هو هدف وجودها.
أنه يبحثها لأنها موجودة ونحن جزءٌ منها! أي باختصار، بالنسبة للعلم، الطبيعة وقوانينها هي كل ما يوجد لدينا!
بالطبع يوجد كثير مما يمكن أن يناقش في أصول الفرضيات الأساسية في المنهج العلمي − التي قد يكون بعضها ميتافيزيائيًا− أو بكيفية عمل هذا المنهج.
فهذا هو الشغل الشاغل لمجال فلسفة العلوم الذي يحاول العاملون فيه فهم ماهية «الحقائق» العلمية ومعناها، ودراسة كنه مفهوم النظرية العلمية وكيف تتطور، والتساؤل عن حدود المعرفة العلمية، إلخ.
وبالرغم من التيارات الكثيرة في هذا المجال فالإجماع العام هو أن العلوم تتعامل مع الحقائق الموضوعية ولا مكان للغيبيات بها.
التوفيق ما بين النظريات العلمية والتصور الديني ليس من وظيفة عالم الطبيعة بل هو من مهام رجال الدين والفلاسفة.
وهذا التوفيق ليس سهلا أو مفروغًا منه ضمنًا، هذا إذا كان ذلك ممكنًا على الإطلاق.
إذ توجد توجهات دينية عديدة لمحاولة التوفيق بينهما.
ففي الطرف الأقصى هناك التيارات −التي كما يظهر، للأسف، تطغى على الفهم الديني في العالم العربي− التي ترفض الحقائق الموضوعية والنظريات العلمية جملة وتفصيلا.
وفي الطرف الأقصى الآخر التيارات التي تقضي بأن العلوم وقوانينها لا تمتّ بصله للدين، والدين لا يمتّ بصله للعلوم، فلكل منهما حيزه الذي لا يتقاطع مع الحيز الآخر.
وهناك بين هذين التفسيرين تفسيرات أخرى عديده.
على أية حال، محاولات التوفيق هذه لا تمت بصلة للعالم وصناعته، فهي بجوهرها محاولات غير علمية.
فعالم الطبيعة عندما يدخل الى مختبره أو يستعمل مرصاده، لا يتساءل إذا ما كانت نتيجة تجربته أو رصده مقبولة على أعراف مجتمعه، أو تتناقض مع أرائه الفكرية المسبقة، أو تتعارض مع تعاليم هذا الدين أو ذاك.
فعلى سبيل المثال عندما اكتشف العلماء أن الأرض تدور حول الشمس وليس العكس، تعارض اكتشافهم مع تعاليم الكنيسة الكاثوليكية.
ولم يجعل هذا التعارض نتائجهم خاطئة، على الرغم من الثمن الكبير الذي دفعه بعضهم (فمثلًا، حوكِمَ جاليليو بالسجن المنزلي حتى مماته وأُحرِق جوردانو برونو حيًا)، بل على العكس أجبرت نتائجهم مع مرور الوقت الكنيسة الكاثوليكية على أن تتراجع وأن تغير توجهها للعلوم جذريًا، فهي اليوم تقبل تقريبًا كل ما هو متفق عليه علميًا (ومنها نظرية داروين لنشوء الأنواع!).
وتوجد العديد من الأمثلة الأخرى لمثل هذا التصادم في التاريخ التي انتهت دائمًا بخسارة موقف السلطة الدينية.
فنحن كعلماء نبحث فيما هو موجود موضوعيًا وليس فيما فُرِض وجوده مُسبقًا أو مرغوب به من قبل هذا الدين أو تلك العقيدة. هذا بالطبع لا يعني بشكل تلقائي أن العلماء ملحدون.
إذ يوجد كثير من العلماء المؤمنين من كافة الأديان.
فلكل إنسان، بغض النظر عن مهنته، موقف من الدين.
يوجد فصل واضح بين قصص الدين، أيُّ دين، المتعلقة بالطبيعة، وسؤال وجود خالق أو عدمه! فقصص الدين، وبالذات تلك التي تتعلق بخلق العالم المادي وطبيعته تتناقض مع ما نجده علميًا، بالإضافة إلى تناقضها مع بعضها البعض! فأي قصة من قصص الخلق لآلاف الأديان التي تبناها البشر عبر تاريخهم هي الصحيحة؟ لا نستطيع أن نجزم موضوعيًا! في حين أن المنهج العلمي وحده هو الذي يزودنا بالأدوات الموضوعية لبناء تصور عن أصل الكون ومبناه.
أما بالنسبة لسؤال وجود خالق أو عدمه فنحن نعلم فلسفيا أنّا لا نستطيع الإجابة على هذا السؤال.
ما أود تأكيده هنا، أنه أيًا كان الموقف من هذا السؤال، فهو بصميمه ليس علميًا! هذا لا يعني أن هذا الموقف أو ذاك خاطئ (أحد هذين الموقفين يجب أن يكون صحيحًا)، بل يعني فقط أننا لا نستطيع أن نحسم جوهر المسألة علميًا، أي باستخدام المنهج العلمي.
جَزَم فيلسوف العلوم كارل بوبر في كتابه الشهير «منطق البحث»، أن الشاغل الأساسي لعالِم الطبيعة، إن كان مدركا لذلك أم لا، هو دحض النظريات العلمية المقبولة وليس إثباتها.
فبحسب طريقة بوبر، كي تكون النظرية علمية عليها أن تتنبأ بما يمكن فحصه ودحضه من خلال التجارب.
هذا هو برأيي جوهر العلم الحديث، فهو يفحص كل نظرية مرارًا وتكرارًا، دائم التساؤل والشك بما هو مقبول! فما يميز العلوم الحديثة، هو ليس فهمها للواقع بشكل حذر وموضوعي فحسب.
وليس الثورة الكبيرة التي أحدثتها في حياة الإنسان التي أدّت إلى تطوره التقني الهائل في القرون الثلاثة الأخيرة.
بل أساسها أيضًا هو في إدراكنا بأن ما نعرفه قابل دائمًا للتغير والتعديل، وفي الأساس أنه لا توجد معرفة مطلقة لا شك فيها. فالتزاوج بين ما هو في صُلبه مبني على التساؤل وعلى تحدي الأعراف المقبولة (العلم) وبين ما هو في صُلبه مطلق لا يتغير (الدين) هو تزاوج بين متناقضات!