مسيح عليه سلام (تصوير سيد)
- - -
المسيحu (تصوير السيد ـ)
كان السيد المسيحu ولازال مصدر إلهام للكتاب والفنانين والمبدعين.
نشأ الفن البيزنطي فناً رئيساً ترعاه الكنيسة. وكان الفنانون لا يوقعون أعمالهم؛ إذ فضلوا أن تغرق شخصياتهم الذاتية في عمل خُصص حسب اعتقادهم لمجد الله العظيم. وليس بالضرورة أن تبعث الأعمال السرور، بل كانوا معنيين بالتعبير عن ماهية الإيمان الأرثوذكسي قدر المستطاع، وسعوا إلى نقل المشاهد إلى عالم جديد تركزت رسالة الفنان فيه على الإيمان والسرمدية.
ومن ميزات الفن البيزنطي أنه لم يهتم كثيراً بإظهار الشكل الحقيقي للسيد المسيحu بل حاول الاقتراب من ملامحه الشخصية واهتم بصورته الخالدة فرسمه لا بشكله الفاني بل الأبدي. ففي الصورة رقم/1/ صورة لعمل فني من مخطوط قبطي من القرن الثاني عشر تمثل عمادة السيد المسيحu في نهر الأردن. ورسم مصور هذا العمل شخوصه وأشكاله مواجهة للمشاهد في نطاق بعدي الصفحة. وشغلها بالرموز المسيحية مثل حمامة روح القدس، والهالات التي تحيط بيوحنا المعمدان والملائكة فكان أميناً للتصوير الشرقي والبيزنطي.
كانت غاية التصوير الفني في أوربا تجسيد فكرة الحقيقة الخالدة واللامتغيرة. فمن الطور الأول للمسيحية حتى الفترة المعروفة بالرومانسك عام 1100، ساد نمطٌ رسمي للفن ذو تقاليد ثابتة غير متغيرة. ويظهر ذلك في المخطوطات المزخرفة، وفي لوحات الكنائس الجدارية. وتجلى ذلك في الأعمال البيزنطية إذ تكررت الأيقونة إلى ما لا نهاية بالصيغة نفسها. ففي الصورة 2 التي تمثل «العشاء الأخير» تبرز صلة اللوحة بأهداف الفن البيزنطي ذي المنظور العمودي، إذ يتكئ فيها الحواريون وفقاً للأسلوب الشرقي ليشكلوا نوعاً من التاج للطاولة التي يتحلقون حولها، والتي لها مظهر النظارات فوق باب الكنيسة، وفي الخلفية ثمة انطباع عام عن المدينة الذي يبدو وكأنه رُسم وفقاً لمبادئ هندسة ڤيترونيو.
وكانت غاية التصوير الثانية تقديم الأحداث الرئيسة في العهد الجديد (الإنجيل) على نحو فاعل وبأساليب وطرائق متنوعة تبين للمشاهد أساس هذه الأحداث وإنسانيتها الكونيين، ففي موضوع الأم والطفل، أحد أعظم الأمثلة، كان الفنانون قادرين على تصوير أنماط وأزياء وأمكنة مختلفة تبعاً للزمان والمكان، فصوروا ما هو خالد من دون أن يقللوا من حقيقة المظهر الإنساني المتغير. واستطاعوا بالأداء نفسه أن يعالجوا فكرة (الصلب) بأساليب عدة من دون أن يضيعوا الغاية العظمى من فكرة التضحية.
كان هذان الموضوعان بدءاً من الفترة القوطية Gothic وما بعد في الشمال، ومن القرن الثالث عشر وما بعد في إيطاليا يتكرران بثبات، مع بعض الملامح الجديدة في المفهوم والأسلوب.
ترك الفن البيزنطي تراثاً ضخماً في دير مونتكاسينو Montecassino في إيطاليا، وقد صار هذا الدير الإلهام الرئيس وراء فن الرهبنة البينيدكتية في الغرب. وتأثر نتيجة لذلك بعض الفنانين الطليان بالفن البيزنطي ومنهم الفنان دوتشيو دي بونينسينا Duccio di Buoninsegna ت(1255 - 1318م) أول مصور استعمل الأشكال البيزنطية في معظم مشاهده من العهد الجديد بحرفية فائقة، وتحول ثراء اللون ورهافته، باستعمال الذهب زينة وعنصراً من عناصر التكوين، إلى ملامح جمالية وأضاف المصور الخطوط المحيطة المتنوعة والرشيقة لتكون نموذجاً للسطح ووصفاً للشكل. ففي الصورة /3/ «العذراء والطفل يسوع مع القديسين والأنبياء» احتلت الأشكال الأمامية مساحات كبيرة ووسمت بملامح إنسانية مع المحافظة على الرموز البيزنطية كلها.
أما جيوتو[ر] Giotto ت(1267-1337) وهو فلورنسي؛ فيعدّ من مؤسسي التصوير الحديث ومن أكثر المصورين الإيطاليين أهمية في القرن الرابع عشر، إذ وضع أسس التصوير الطبيعي والواقعي للشخوص الإنسانية في اللوحة. وقد رفض الألوان البراقة كالجواهر والخطوط الطويلة الرشيقة في الأسلوب البيزنطي ابتغاء ألوان أهدأ وتصوير أكثر واقعية. وركز على ما هو إنساني واقعي، وليس على ما هو قدسي. «قبلة يهوذا» (الصورة 4) تصوير جداري في مصلى (كنيسة صغيرة). وقد صور ما جاء في الإنجيل. «فأخذ يهوذا الجند وخداماً من عند رؤساء الكهنة وجاء إلى هناك بمشاعل ومصابيح وسلاح».
لم يكن الفنان في أوربا معزولاً في بلده دون سائر البلدان. بل كان يتنقل ويتعلم الأساليب والتقانات التي حققت وجودها. فقد صوّر لويس بوراسا Luis Borrassa ت(1360-1424) بالأسلوب القوطي الدولي International Gothic Style كما كان في سيينا Siena، ولكنه منح اللوحة فهماً مغرقاً في الذاتية مع حرص شديد على التفاصيل، وأضاف قوة الملاحظة الإسبانية لا من حيث الإضاءة والشكل فحسب، بل الرسم بالخطوط القصيرة أيضاً لإبراز الموضوع المرسوم، إضافة إلى ما في الوجوه من تعبير. أما في لوحة «القيامة» فقد قدم لباساً معاصراً في مشهد إنجيلي. ووضع لأشكال الجنود والجلادين تشوهات في الوجوه قاسية.
وفي لوحة «الجَلْد» للفنان بييرو ديلا فرانشيسكا[ر] Piero della Francesca ت(1410-1492) قسمت أرضية المكان وفق المقياس الذهبي [ر: المعيار والمقياس في الفن]، ما أضفى على اللوحة هدوءاً وتوازناً غريبين، ولم يكن مرد ذلك استخدام بييرو الهندسة، بل لتجنبه إظهار أي نور أو ظل في لوحته، فجاءت هيئات شخوصه شبيهة بالنحت الجداري البارز، وتجمدت الوقفات، وأحيط الشكل كله بخط أرفع من أدق شعرة، وأظهرت المعالجة القاسية تبايناً قوياً في الموضوع: فليس ثمة ميل إلى إظهار العواطف بل إلى الفكر والعقل فقط. فعالم بييرو هو واحد إذ يمكن حل جميع المشكلات بالفكر والعقل.
وقد صوَّر أنطونيو كوريجيو[ر] Antonio Correggio ت(1494-1534) بأسلوب غني بالإيماءات والحركة، وطوَّر بحساسية فائقة استعمال النور والظل، وبنعومة غريبة أظهر أشكال شخوصه. وما صورة «الليلة المقدسة» إلا شاهد على مصور رقيق جداً ينقل إلى المشاهد جواً شاعرياً لا نظير له؛ إذ يتهيأ للمشاهد أنه يسمع سمر الليل حين يبدو وهج نور الموقد منعكساً على الوجوه المليئة بالأسرار حوله؛ يغمرها النور والظل؛ وتلقي حزمة من النور الباهر على وجهي الطفل يسوع والسيدة العذراء.
ولا يمكن إغفال ليوناردو دافنشي[ر] Leonardo da Vinci ت(1452-1519) الفنان الفلورنسي وأحد أعظم شخصيات عصر النهضة في إيطاليا. ولوحة «العشاء الأخير» من أكثر إبداعات ليوناردو ظهوراً ودلالة؛ إذ صور فكرة تقليدية بأسلوب جديد، فجمع الرسل (الحواريين) في وحدات توليفية قوية؛ تتألف كل وحدة منها من ثلاثة أشخاص تؤطر شكل السيد المسيح\ الذي وُضِع في مركز التكوين أمام منظر بعيد باهت يُرى من فتحة مستطيلة في الحائط. والمسيح \، الذي أعلن للتو أن أحد الحاضرين سيخونه، يمثل القلب الهادئ، في حين يستجيب الآخرون بالإيماءات، فجاء القديس بطرس، الخشن والمندفع والمتشوق إلى إعلان براءته، مغايراً للقديس يوحنا القانع، والجالس بهدوء، لأنه يدرك أن ما من أحد يدينه، وامتدت يد القديس بطرس لتشكل جسراً بين رأسي القديس يوحنا ويهوذا وتبرز التضاد بين البراءة والخِسَّة، في حين صور ثلاثة رسل في أقصى يسار اللوحة ينظرون باهتمام إلى الداخل، ووضع اثنين في الجهة اليمنى يشيران بأيديهما إلى الداخل ليلتقي نظرهما مع سطوع شخص القديس سمعان الرائع، الذي يبدو عائداً وفقاً لمسار أيديهما. إن بناء أمثال هذه المتتاليات هو بلا ريب، من أعظم تجليات القوة الفكرية في الفن. وهنا يكمن سر ليوناردو داڤينشي في جعل شخوصه بسيطة، ومؤثرة جداً، وعالمية في رونقها.
تفوَّق بيتر بول روبنز[ر] Peter Paul Rubens ت(1577-1640)، المصور الفلمنكي العظيم، في تصوير الشخصية والمنظر واللوحة الدينية والتاريخية والملحمية بتكوينات كبيرة الحجوم. ومن بين روائعه لوحة «رفع الصليب» التي تصور السيد المسيحu ملقى على الصليب، وتقوم أيدي الجلادين برفعه مع الصليب. ولم ير وكلاء الكنيسة وجمهورها مثل هذه الرائعة الغنائية العاطفية تحت سقف كنيسة: فحركة الأجسام المتشنجة، وجو الرعب والخوف، والضحية المقدسة الرازحة تحت رحمة الكراهية والعنف البالغ، محاطة ببهاء غير أرضي فوق كتلة متشابكة من الجلادين يحركون أرجلهم بنشاط، أو يشدون الحبال. وتعبّر الجلبة على هذا النحو، وبصوت مرتفع عن الألم والمعاناة، وعن الظلم وانعدام العدالة المجتمعة في هذا الموضوع.
ويشير تكوين اللوحة المحوري الجريء إلى عنف المعالجة، وتظهر الفرشاة وكأنها تهاجم قماش اللوحة بشدة؛ وتتبع قوة التشكيل في هذه اللوحة. فحركة التكوين هي لمسات لونية فصل بوساطتها الفنان شخص السيد المسيحu، المضاء إضاءة شديدة، عن الألوان البنية والرمادية التي تتحلق حوله.
وباختصار يمكن القول: إن هناك منهجين؛ الأول صوفي شمل التصوير البيزنطي فاستطالت أشكال الشخوص حتى بدوا وكأنهم يطوفون متحررين من الأرض. واعتمد الثاني على كمال الجسد الذي كان إناء للروح المقدسة، واستفاد من مستجدات الهندسة وتوزيع الفراغ وقوة الحركة ليجمع بين الروحي والمادي معاً.
بطرس خازم
- - -
المسيحu (تصوير السيد ـ)
الصورة (1) |
نشأ الفن البيزنطي فناً رئيساً ترعاه الكنيسة. وكان الفنانون لا يوقعون أعمالهم؛ إذ فضلوا أن تغرق شخصياتهم الذاتية في عمل خُصص حسب اعتقادهم لمجد الله العظيم. وليس بالضرورة أن تبعث الأعمال السرور، بل كانوا معنيين بالتعبير عن ماهية الإيمان الأرثوذكسي قدر المستطاع، وسعوا إلى نقل المشاهد إلى عالم جديد تركزت رسالة الفنان فيه على الإيمان والسرمدية.
ومن ميزات الفن البيزنطي أنه لم يهتم كثيراً بإظهار الشكل الحقيقي للسيد المسيحu بل حاول الاقتراب من ملامحه الشخصية واهتم بصورته الخالدة فرسمه لا بشكله الفاني بل الأبدي. ففي الصورة رقم/1/ صورة لعمل فني من مخطوط قبطي من القرن الثاني عشر تمثل عمادة السيد المسيحu في نهر الأردن. ورسم مصور هذا العمل شخوصه وأشكاله مواجهة للمشاهد في نطاق بعدي الصفحة. وشغلها بالرموز المسيحية مثل حمامة روح القدس، والهالات التي تحيط بيوحنا المعمدان والملائكة فكان أميناً للتصوير الشرقي والبيزنطي.
الصورة (2) |
وكانت غاية التصوير الثانية تقديم الأحداث الرئيسة في العهد الجديد (الإنجيل) على نحو فاعل وبأساليب وطرائق متنوعة تبين للمشاهد أساس هذه الأحداث وإنسانيتها الكونيين، ففي موضوع الأم والطفل، أحد أعظم الأمثلة، كان الفنانون قادرين على تصوير أنماط وأزياء وأمكنة مختلفة تبعاً للزمان والمكان، فصوروا ما هو خالد من دون أن يقللوا من حقيقة المظهر الإنساني المتغير. واستطاعوا بالأداء نفسه أن يعالجوا فكرة (الصلب) بأساليب عدة من دون أن يضيعوا الغاية العظمى من فكرة التضحية.
كان هذان الموضوعان بدءاً من الفترة القوطية Gothic وما بعد في الشمال، ومن القرن الثالث عشر وما بعد في إيطاليا يتكرران بثبات، مع بعض الملامح الجديدة في المفهوم والأسلوب.
الصورة (3) |
أما جيوتو[ر] Giotto ت(1267-1337) وهو فلورنسي؛ فيعدّ من مؤسسي التصوير الحديث ومن أكثر المصورين الإيطاليين أهمية في القرن الرابع عشر، إذ وضع أسس التصوير الطبيعي والواقعي للشخوص الإنسانية في اللوحة. وقد رفض الألوان البراقة كالجواهر والخطوط الطويلة الرشيقة في الأسلوب البيزنطي ابتغاء ألوان أهدأ وتصوير أكثر واقعية. وركز على ما هو إنساني واقعي، وليس على ما هو قدسي. «قبلة يهوذا» (الصورة 4) تصوير جداري في مصلى (كنيسة صغيرة). وقد صور ما جاء في الإنجيل. «فأخذ يهوذا الجند وخداماً من عند رؤساء الكهنة وجاء إلى هناك بمشاعل ومصابيح وسلاح».
الصورة (4) |
وفي لوحة «الجَلْد» للفنان بييرو ديلا فرانشيسكا[ر] Piero della Francesca ت(1410-1492) قسمت أرضية المكان وفق المقياس الذهبي [ر: المعيار والمقياس في الفن]، ما أضفى على اللوحة هدوءاً وتوازناً غريبين، ولم يكن مرد ذلك استخدام بييرو الهندسة، بل لتجنبه إظهار أي نور أو ظل في لوحته، فجاءت هيئات شخوصه شبيهة بالنحت الجداري البارز، وتجمدت الوقفات، وأحيط الشكل كله بخط أرفع من أدق شعرة، وأظهرت المعالجة القاسية تبايناً قوياً في الموضوع: فليس ثمة ميل إلى إظهار العواطف بل إلى الفكر والعقل فقط. فعالم بييرو هو واحد إذ يمكن حل جميع المشكلات بالفكر والعقل.
وقد صوَّر أنطونيو كوريجيو[ر] Antonio Correggio ت(1494-1534) بأسلوب غني بالإيماءات والحركة، وطوَّر بحساسية فائقة استعمال النور والظل، وبنعومة غريبة أظهر أشكال شخوصه. وما صورة «الليلة المقدسة» إلا شاهد على مصور رقيق جداً ينقل إلى المشاهد جواً شاعرياً لا نظير له؛ إذ يتهيأ للمشاهد أنه يسمع سمر الليل حين يبدو وهج نور الموقد منعكساً على الوجوه المليئة بالأسرار حوله؛ يغمرها النور والظل؛ وتلقي حزمة من النور الباهر على وجهي الطفل يسوع والسيدة العذراء.
لوحة "العشاء الأخير" لدافنشي |
تفوَّق بيتر بول روبنز[ر] Peter Paul Rubens ت(1577-1640)، المصور الفلمنكي العظيم، في تصوير الشخصية والمنظر واللوحة الدينية والتاريخية والملحمية بتكوينات كبيرة الحجوم. ومن بين روائعه لوحة «رفع الصليب» التي تصور السيد المسيحu ملقى على الصليب، وتقوم أيدي الجلادين برفعه مع الصليب. ولم ير وكلاء الكنيسة وجمهورها مثل هذه الرائعة الغنائية العاطفية تحت سقف كنيسة: فحركة الأجسام المتشنجة، وجو الرعب والخوف، والضحية المقدسة الرازحة تحت رحمة الكراهية والعنف البالغ، محاطة ببهاء غير أرضي فوق كتلة متشابكة من الجلادين يحركون أرجلهم بنشاط، أو يشدون الحبال. وتعبّر الجلبة على هذا النحو، وبصوت مرتفع عن الألم والمعاناة، وعن الظلم وانعدام العدالة المجتمعة في هذا الموضوع.
ويشير تكوين اللوحة المحوري الجريء إلى عنف المعالجة، وتظهر الفرشاة وكأنها تهاجم قماش اللوحة بشدة؛ وتتبع قوة التشكيل في هذه اللوحة. فحركة التكوين هي لمسات لونية فصل بوساطتها الفنان شخص السيد المسيحu، المضاء إضاءة شديدة، عن الألوان البنية والرمادية التي تتحلق حوله.
وباختصار يمكن القول: إن هناك منهجين؛ الأول صوفي شمل التصوير البيزنطي فاستطالت أشكال الشخوص حتى بدوا وكأنهم يطوفون متحررين من الأرض. واعتمد الثاني على كمال الجسد الذي كان إناء للروح المقدسة، واستفاد من مستجدات الهندسة وتوزيع الفراغ وقوة الحركة ليجمع بين الروحي والمادي معاً.
بطرس خازم