مشاييه
Peripateticism - Péripatéticisme
المشائية
المشائية Peripatetism لفظة تطلق على الحركة الفلسفية التي أسسها أرسطو[ر] Aristotle ت(384-322ق.م) وحمل لواءها عدد من الفلاسفة: تلامذته وأنصاره وشراحه، ومن أخذوا عنه. والمشائية كلمة أصلها يوناني مشتقة من الفعل peripatein وتعني يطوف، وذلك إشارة إلى الممشى الظليل أو الرواق peripatos الذي كان أرسطو يلقي محاضراته فيه، أو إلى طريقته في التدريس وهو يطوف بالرواق في مدرسة اللوقيين Lycum التي أسسها في أثينا عام 334 ق.م، واستمر وجودها نحو ألف عام حتى 529م حين أمر الامبراطور جستنيان بإقفالها وحظر تدريس الفلسفة، وكان قد غلب عليها حينئذٍ تعاظم أثر الأفلاطونية المحدثة Neo-Platonism.
ومع أن بعض المؤرخين لا يفصل بين الفلسفة الأرسطية Aristotelism والفلسفة المشائية، فإن أغلبهم يؤرخ للفلسفة المشائية في عام 323 ق.م حين تولى ثيوفراسطس Theophrastus (نحو 370- 288 ق.م) تلميذ أرسطو رئاسة اللوقيين بعد وفاة معلمه. ومنذ ذلك الحين تطورت الفلسفة المشائية على يد تلاميذ أرسطو شراحه ومترجميه والمتأثرين بمنهجه في المنطق أو في علم الطبيعة، أو ما بعد الطبيعة (أو الإلهيات)، أو في الفلسفة العملية (الأخلاق والسياسة) أو في الأدب والنقد (الخطابة والشعر)، وإن اختلف كل منهم في مدى تأثره وتبنيه لجانب من هذه الجوانب أو نقده وتطويره له.
واصل مفكرو المشائية البحوث الميتافيزيقية والطبيعية والأخلاقية الأرسطية مفسرين وشارحين لفلسفة أرسطو حتى القرون الميلادية الخمسة الأولى، حين بدأ التداخل بين المشائية والأفلاطونية المحدثة، فظهرت المشائية العربية بعد القرن الخامس، وكان لها الفضل في نقل تراث أرسطو إلى أوربا وظهور المشائية اللاتينية بفضل الترجمات العربية واليونانية، ثم ظهور المشائية المسيحية في العصور الوسطى ولاسيما في القرنين الثاني عشر والثالث عشر.
وكان ثيوفراسطس أول من ترأس المدرسة بعد وفاة أرسطو، وقد اهتم بالطبيعيات وعلم النبات والحساب والهندسة وعلم النفس والموسيقى، وألف عدة كتب في المنطق والفلك والسياسة والأخلاق، وبعض المؤلفات في الإلهيات.
وخلفه استراتون Straton (نحو 305- 270 ق.م) الذي طور الاتجاه المادي في فلسفة أرسطو، وعرف باسم «الفيزيائي» لاهتمامه بالجوانب الفيزيائية في فلسفته، وقد عالج إلى جانب الطبيعيات مسائل أخلاقية في الخير والسعادة والملكية، وألف عدة كتب فيها، إضافة إلى اهتمامه بمسائل علم النفس وعلم المنطق.
ثم خلفه لوقون الطروادي Lycon بين عامي 268- 224ق.م فبرز في ميدان الخطابة والتربية، ثم أرسطون الكيوسي Ariston بين عامي 269- 225ق.م الذي مشى بالاتجاه نفسه، وتلاه كريتولاووس الفازيلي Critolaus بين عامي 190- 155ق.م الذي دافع عن نظرية أرسطو في قدم العالم وأزليته وبقاء الجنس البشري رداً على الرواقيين، لكنه خالف أرسطو في مسائل عدة حول النفس، ثم جاء ديودورس الصوري Diodorus عام 140ق.م، وإريمنوس Erymneus نحو عام 110ق.م، ثم عدد من أعلام المدرسة كان أشهرهم أندرونيقوس الرودسي Andronicus of Rhodes نحو عام 40ق.م، الذي أسهم إسهاماً كبيراً في جمع مؤلفات أرسطو ونشرها بشكلها المعروف حالياً، وكان أول من وضع شرحاً لنظرية «المقولات» لأرسطو.
قام أنصار المشائية في القرون الخمسة الأولى بشرح مؤلفات أرسطو ومناقشتها ثم نقدها وتطويرها، وكان من أشهرهم يوديموس الرودس Eudemus الذي شرح مؤلف أرسطو «في السماع الطبيعي»، ثم وضع كتاباً في الأخلاق ذا نزعة دينية، مغايراً لما جاء في كتاب أرسطو «الأخلاق النيقوماخية». أما أرسطوخينوس التارنتومي Aristoxenus فقد تأثر بنظرية «الهارمونيا» التي ناقشها أرسطو في كتابه «النفس»، وتأثر به ديكايرخوس المشيني Dicaearchus الفيثاغوري النزعة، لكنه أنكر مفهوم خلود النفس، وعارض أرسطو في الميدان الأخلاقي، معتبراً أن الحياة العملية أشرف من الحياة النظرية، كما تناول في مؤلفاته موضوع الدساتير اليونانية. واهتم فانياس الأريسوسي Phanias بسير الفلاسفة ولاسيما سقراط، وبميادين التاريخ والعلوم. ثم برز في ميدان السياسة والفكر ديمتريوس الفاليروني Demetrius of Phaleron (توفي 286ق.م) الذي ترك مجموعة من الكتب التاريخية والسياسية والخطب والتقارير الدبلوماسية والشعر، هذا فضلاً عن كتاب في «الحث على الفلسفة». كما لمع ديوكليس الكاريسي Diocles في ميادين الطب والعلوم الطبيعية ودعي بـ«أبو قراط الثاني» و«صاحب العبقرية الشاملة».
أما شراح أرسطو المتأخرون فقد برز منهم الإسكندر الأفروديسيAlexander of Aphrodisias الذي اشتهر نحو عام 205م بدراسته النظرية المعرفة ونقده لها، حيث أدخل عليها بعض العناصر الأفلاطونية ومهد بذلك لعدد من شراح أرسطو المتأخرين الذين كانوا ذوي منحىً أفلاطوني واضح، ومنهم ثاميسطيوس Themistius ت(317-388م) من أتباع أفلوطين[ر] Plotinus، الذي لُقب بـ«البليغ» في ميادين السياسة والخطابة والشعر والفلسفة، ومعه بدأ التداخل بين المشائية والأفلاطونية المحدثة، فقد وضع عدداً من الشروح لأرسطو متأثراً بالأفلاطونية المحدثة أهمها تلخيص كتابي «النفس» و«السماع الطبيعي». وكذلك ملخوس السوري الملقب بفرفوريوس الصوري[ر] Porphyry الذي وضع مدخلاً لكتاب أرسطو في «المقولات» عرف بـ «الإيساغوجي» وقد أدى دوراً كبيراً في تطور المنطق العربي واللاتيني، كما وضع كتاباً آخر في «المدخل إلى المعقولات». ثم قام تلميذه يامبليخوس[ر] Iamblichus بتدوين شروح أخرى على أرسطو، وتأليف أخريات، فجاء مذهبه خليطاً يونانياً شرقياً، ثم ظهر في الإسكندرية أمونيوس بن هرمياس Ammonius (نحو سنة 485م) الذي شرح معظم مؤلفات أرسطو في المقولات والتحليلات والطبيعيات والكون والفساد والنفس، وكان أول من طرح مشكلة «الكليات» Universals (للأنواع والأجناس).
أما سمبلقيوس الصقلي Simplicius (توفي عام 530م) فقد لمع في شروحه على أرسطو: التحليلات الثانية والمقولات والعبارة والكون والفساد وكتاب «في قدم العالم» وآخر «في صنع العالم»، وكانت له مؤلفات نحوية وفلسفية إضافة إلى مؤلفات الإلهيات. ثم معاصره يوحنا النحوي[ر] (نحو 490- 566) المعروف باسم جون فيلوبونوس John Philoponus. الذي وضع شروحاً على الكتب المنطقية الأرسطية وغيرها. وكان بويس بوثيوس Boethius ت(470-524م) آخر الرومانيين الذين قرؤوا أرسطو وأفلاطون بالإغريقية، وكان لترجماته وشروحه لمؤلفات أرسطو أثرها البالغ في الفلسفة والمنطق في العصور الوسطى حتى وصفت الفترة الباكرة منها بالعصر البويسي، فقد قام بترجمة مصنفات أرسطو المنطقية مثل: كتاب المقولات والعبارة والتحليلات الأولى والثانية وكتاب المغالطات والجدل، كما ألف تحفته الرائعة كتاب «عزاء الفلسفة».
وكان أبو إسحق يعقوب الكندي[ر] (184-266هـ/800- 879م) أول علم من أعلام المشائية العربية، وقد عني بقضايا المنطق والمعرفة، وذلك من خلال شروحه على مؤلفات أرسطو، ثم أبو النصر الفارابي[ر] (257-339هـ/870-950م) الرياضي والطبيب والفيلسوف وإمام مناطقة عصره، فلقب بـ«المعلم الثاني» بعد أرسطو «المعلم الأول»، وكان أول شارح بالعربية وخاصة لمؤلفاته الفلسفية والطبيعية، ومن أشهر كتبه «الجمع بين رأي الحكيمين» و«المدينة الفاضلة» و«إحصاء العلوم». ثم خلفه ابن سينا[ر] (370-429هـ/980- 1037م) الذي لقب بـ«الشيخ الرئيس»، برز في مجالي الطب والفلسفة، ومن أشهر كتبه «القانون في الطب» و«الشفاء» و«النجاة» و«منطق المشرقيين» في الفلسفة. وفي المغرب العربي برز من أعلام المشائية أبو بكر بن يحيى الملقب بـابن باجة (أواخر القرن الحادي عشر - 1138م) ومن أشهر آثاره «تدبير المتوحد» و«رسالة الوداع» و«إتصال الإنسان بالعقل الفعّال».
وقد بلغت المشائية العربية والإسلامية قمتها في فلسفة ابن رشد[ر] (520- 595هـ/1126- 1198م) أعظم شارحي أرسطو في العصور الوسطى، إذ قال معاصروه: «لقد فسر أرسطو الطبيعة، أما ابن رشد فقد فسر أرسطو». وكان ابن رشد فيلسوفاً وفقيهاً وطبيباً مشهوراً، لم يكتف بشرح آراء أرسطو، بل تناولها تنقيحاً وتعديلاً وتطويراً، وارتبطت باسمه نظرية «الحقيقتين» أو «الحقيقة المزدوجة». ومن آثاره كتاب «تهافت التهافت» في الرد على الغزالي (450-505هـ/1058- 111م) و«تلخيص كتاب المنطق» و«تلخيص كتاب البرهان» و«فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال».
وتأثرت الفلسفة في العصور الوسطى[ر] بمذهب أرسطو الواقعي، ونظريته في الكليات Universals والمفاهيم أي علاقة العام بالفردي، واقترح المدرسيون حلولاً عديدة لهذه المسألة، يرى أولها أن «الكليات» موجودة وجوداً واقعياً وعلى نحو مستقل عن الفكر، وقد عرف هذا الاتجاه بـ«الواقعية» Realism، ويرى الاتجاه الآخر أن «الكليات» ماهيات مستقلة عن الإنسان، وهي مجرد أسماء عامة، فالإنسان كمفهوم عن النوع الإنساني عامة، لا يوجد فعلاً، أما الذي يوجد فهو الأفراد، أي إن «الإنسان» اسم عام فقط يرمز إلى أي فرد من النوع الإنساني، وقد عرف هذا الاتجاه بالاسمية Nominalism، وكان معظم المدرسيين ما بين القرن التاسع والقرن الثاني عشر من أنصار «الواقعية»، وفي مقدمتهم الفيلسوف الإيرلندي جون سكوتس أريجينا John Scotus Erigena ت(815-877م) الذي قال بتعارض الفلسفة مع الدين، وإن العقل هو معيار التأويل الصحيح لنصوص الكتاب المقدس، أما التيارات المشائية في شكلها المنطقي فقد شهدت في أوائل القرن الثاني عشر ظهور عدد من المناطقة الكبار، منهم الجدلي الفرنسي روسلان Roscelin ت(1050-1120م) رائد الاسمية، ومؤسس «اللوقيون الجديدة»، فكان يرى - خلافاً للأفلاطونيين - أن الألفاظ التي تدل على الكليات أصوات ليس إلا، فالكليات لا وجود لها قط، لا في الأعيان ولا في الأذهان، وإنما هي ألفاظ يُنطق بها فحسب.
وكان القديس الإيطالي آنسلم[ر] Anselm ت(1033-1109م) من كبار واقعي القرن الحادي عشر، فقد تبنى الحل الأفلاطوني لمسألة الكليات، في حين كان الفيلسوف الفرنسي بيير أبيلار Pierre Abélard ت(1079-1142م) أشهر مناطقة القرن الثاني عشر، ووقف ضد الاسمية المتطرفة، وضد الواقعية على السواء، إذ كان يرى أن الأشياء الفردية «الجواهر» Substances وحدها موجودة فعلاً، وعلى تشابه هذه الجواهر تقوم «الكليات» التي نصل إليها عن طريق التجريد الذهني، فالكليات لا وجود لها إلا في الذهن، وبذلك أسهم أبيلار في إدخال النزعة الواقعية المعتدلة إلى الفلسفة المدرسية.
ثم شهد القرن الثالث عشر تكامل عملية الترجمة لمؤلفات أرسطو وشروح ابن رشد عليها، فأصبحت محور الدراسات الفلسفية في أوربا طوال قرون عدة، وكان أهمها ترجمات مايكل الاسكتلندي Micheal (المتوفى نحو 1236م) لثلاثة من كتب «الحيوان» لأرسطو، ولشروح ابن رشد الكبرى على الطبيعيات، كذلك ترجمة هرمان الألماني Herman (المتوفى عام 1272م) لشروح ابن رشد على كتاب «الأخلاق النيقوماخية»، وكتاب «الشعر»، كذلك ترجمة وليم المربيكي (المتوفى عام 1236م) للأعمال الكاملة لأرسطو عن اليونانية.
وتطور اللاهوت المدرسي الوسيط بتأثير المشائية، واشتهر من أعلام المشائية المسيحية كل من القديس ألبرت الأكبر Albert the Great ت(1206-1280م) وجون دونس سكوتسDuns Scotus ت(1266-1308م) وريمون لول R.LLull ت(1234-1315م)، وأشهرهم على الإطلاق القديس توما الأكويني[ر] St.Thomas Aquinas ت(1225-1274م) أعظم لاهوتي المشائية المسيحية، حيث استند الأكويني إلى براهين أرسطو لدعم آرائه اللاهوتية، وحاول أن يخلص المشائية من الشوائب الأفلاطونية المحدثة، وأسس لمشائية مسيحية لا تعارض بينها وبين المسيحية، فشرح فلسفة أرسطو الطبيعية والإلهية والأخلاقية شرحاً يماثل تأويل ابن رشد لها، باستثناء بعض المسائل المتصلة بالعقيدة المسيحية، ووضع شرحاً متميزاً لكتاب «الأخلاق النيقوماخية» لأرسطو، واستند في مؤلفاته إلى أهم المقولات الأرسطية في تأويل الصيرورة في عالم الكون والفساد وماهية النفس وقواها، ومسألة العقل الفعّال التي اتجه فيها اتجاهاً مغايراً لابن سينا وابن رشد، ورأى أن العقل الفعال قوة من قوى النفس وليس قوة مفارقة لها، ورأى في مسألة خلق الله العالم أن العقل قادر على إقامة الدليل الفلسفي على إيجاد العالم من العدم، وأن للعالم بداية فلم يكن وجوده أزلياً، وبذلك حاول الدفاع عن أرسطو الذي اتهم بقوله عن أزلية العالم، ووضع توما الأكويني كتباً أخرى كثيرة منها «شرح الأحكام» ورسالة «في وحدة العقل» رداً على الرشديين، ورسالة أخرى «في قدم العالم» رداً على المتذمرين، وأنكر الأكويني مسألة الكليات الاسمية والواقعية معاً، وذهب إلى أن الكلي (العام) يوجد في الأفراد، وأن الأفكار لا توجد وجوداً مفارقاً، كما استند في فلسفته السياسية إلى أرسطو وحاول أن يوفق بينها وبين الدين، لكنه كان يؤيد سلطة الكنيسة المطلقة في المسائل الدينية، وغدت آراء الأكويني المرتكز الفكري والسلاح النظري للكاثوليكية في قرون عدة ولتيار التومائية Thomism.
بدأ نفوذ المشائية في الحركات الفلسفية واللاهوتية بالانحسار والتقلص منذ نهاية القرن الثالث عشر، عندما أصبحت الأفلاطونية المحدثة الممتزجة بالأوغسطينية نسبة إلى القديس أوغسطين[ر] Augustine سمة غالبة في معظم تراث التلامذة اللاحقين لأعلام المشائية المسيحية اللاتينية الكبار، على الرغم من ظهور حركات معاصرة حالياً في كل من فرنسا وإنكلترا وكندا وأمريكا اللاتينية تدعى بالتومائية الجديدة New-Thomism.
لكن تراجع نفوذ المشائية الأرسطية في القرون التالية لم يشمل كل جوانبها المختلفة دفعة واحدة، فقد ظل منطق أرسطو سائداً حتى أواخر القرن التاسع عشر حتى ظهور كل من هيغل[ر] Hegel وماركس[ر] Marx.
عدنان شكري يوسف
Peripateticism - Péripatéticisme
المشائية
المشائية Peripatetism لفظة تطلق على الحركة الفلسفية التي أسسها أرسطو[ر] Aristotle ت(384-322ق.م) وحمل لواءها عدد من الفلاسفة: تلامذته وأنصاره وشراحه، ومن أخذوا عنه. والمشائية كلمة أصلها يوناني مشتقة من الفعل peripatein وتعني يطوف، وذلك إشارة إلى الممشى الظليل أو الرواق peripatos الذي كان أرسطو يلقي محاضراته فيه، أو إلى طريقته في التدريس وهو يطوف بالرواق في مدرسة اللوقيين Lycum التي أسسها في أثينا عام 334 ق.م، واستمر وجودها نحو ألف عام حتى 529م حين أمر الامبراطور جستنيان بإقفالها وحظر تدريس الفلسفة، وكان قد غلب عليها حينئذٍ تعاظم أثر الأفلاطونية المحدثة Neo-Platonism.
ومع أن بعض المؤرخين لا يفصل بين الفلسفة الأرسطية Aristotelism والفلسفة المشائية، فإن أغلبهم يؤرخ للفلسفة المشائية في عام 323 ق.م حين تولى ثيوفراسطس Theophrastus (نحو 370- 288 ق.م) تلميذ أرسطو رئاسة اللوقيين بعد وفاة معلمه. ومنذ ذلك الحين تطورت الفلسفة المشائية على يد تلاميذ أرسطو شراحه ومترجميه والمتأثرين بمنهجه في المنطق أو في علم الطبيعة، أو ما بعد الطبيعة (أو الإلهيات)، أو في الفلسفة العملية (الأخلاق والسياسة) أو في الأدب والنقد (الخطابة والشعر)، وإن اختلف كل منهم في مدى تأثره وتبنيه لجانب من هذه الجوانب أو نقده وتطويره له.
واصل مفكرو المشائية البحوث الميتافيزيقية والطبيعية والأخلاقية الأرسطية مفسرين وشارحين لفلسفة أرسطو حتى القرون الميلادية الخمسة الأولى، حين بدأ التداخل بين المشائية والأفلاطونية المحدثة، فظهرت المشائية العربية بعد القرن الخامس، وكان لها الفضل في نقل تراث أرسطو إلى أوربا وظهور المشائية اللاتينية بفضل الترجمات العربية واليونانية، ثم ظهور المشائية المسيحية في العصور الوسطى ولاسيما في القرنين الثاني عشر والثالث عشر.
وكان ثيوفراسطس أول من ترأس المدرسة بعد وفاة أرسطو، وقد اهتم بالطبيعيات وعلم النبات والحساب والهندسة وعلم النفس والموسيقى، وألف عدة كتب في المنطق والفلك والسياسة والأخلاق، وبعض المؤلفات في الإلهيات.
وخلفه استراتون Straton (نحو 305- 270 ق.م) الذي طور الاتجاه المادي في فلسفة أرسطو، وعرف باسم «الفيزيائي» لاهتمامه بالجوانب الفيزيائية في فلسفته، وقد عالج إلى جانب الطبيعيات مسائل أخلاقية في الخير والسعادة والملكية، وألف عدة كتب فيها، إضافة إلى اهتمامه بمسائل علم النفس وعلم المنطق.
ثم خلفه لوقون الطروادي Lycon بين عامي 268- 224ق.م فبرز في ميدان الخطابة والتربية، ثم أرسطون الكيوسي Ariston بين عامي 269- 225ق.م الذي مشى بالاتجاه نفسه، وتلاه كريتولاووس الفازيلي Critolaus بين عامي 190- 155ق.م الذي دافع عن نظرية أرسطو في قدم العالم وأزليته وبقاء الجنس البشري رداً على الرواقيين، لكنه خالف أرسطو في مسائل عدة حول النفس، ثم جاء ديودورس الصوري Diodorus عام 140ق.م، وإريمنوس Erymneus نحو عام 110ق.م، ثم عدد من أعلام المدرسة كان أشهرهم أندرونيقوس الرودسي Andronicus of Rhodes نحو عام 40ق.م، الذي أسهم إسهاماً كبيراً في جمع مؤلفات أرسطو ونشرها بشكلها المعروف حالياً، وكان أول من وضع شرحاً لنظرية «المقولات» لأرسطو.
قام أنصار المشائية في القرون الخمسة الأولى بشرح مؤلفات أرسطو ومناقشتها ثم نقدها وتطويرها، وكان من أشهرهم يوديموس الرودس Eudemus الذي شرح مؤلف أرسطو «في السماع الطبيعي»، ثم وضع كتاباً في الأخلاق ذا نزعة دينية، مغايراً لما جاء في كتاب أرسطو «الأخلاق النيقوماخية». أما أرسطوخينوس التارنتومي Aristoxenus فقد تأثر بنظرية «الهارمونيا» التي ناقشها أرسطو في كتابه «النفس»، وتأثر به ديكايرخوس المشيني Dicaearchus الفيثاغوري النزعة، لكنه أنكر مفهوم خلود النفس، وعارض أرسطو في الميدان الأخلاقي، معتبراً أن الحياة العملية أشرف من الحياة النظرية، كما تناول في مؤلفاته موضوع الدساتير اليونانية. واهتم فانياس الأريسوسي Phanias بسير الفلاسفة ولاسيما سقراط، وبميادين التاريخ والعلوم. ثم برز في ميدان السياسة والفكر ديمتريوس الفاليروني Demetrius of Phaleron (توفي 286ق.م) الذي ترك مجموعة من الكتب التاريخية والسياسية والخطب والتقارير الدبلوماسية والشعر، هذا فضلاً عن كتاب في «الحث على الفلسفة». كما لمع ديوكليس الكاريسي Diocles في ميادين الطب والعلوم الطبيعية ودعي بـ«أبو قراط الثاني» و«صاحب العبقرية الشاملة».
أما شراح أرسطو المتأخرون فقد برز منهم الإسكندر الأفروديسيAlexander of Aphrodisias الذي اشتهر نحو عام 205م بدراسته النظرية المعرفة ونقده لها، حيث أدخل عليها بعض العناصر الأفلاطونية ومهد بذلك لعدد من شراح أرسطو المتأخرين الذين كانوا ذوي منحىً أفلاطوني واضح، ومنهم ثاميسطيوس Themistius ت(317-388م) من أتباع أفلوطين[ر] Plotinus، الذي لُقب بـ«البليغ» في ميادين السياسة والخطابة والشعر والفلسفة، ومعه بدأ التداخل بين المشائية والأفلاطونية المحدثة، فقد وضع عدداً من الشروح لأرسطو متأثراً بالأفلاطونية المحدثة أهمها تلخيص كتابي «النفس» و«السماع الطبيعي». وكذلك ملخوس السوري الملقب بفرفوريوس الصوري[ر] Porphyry الذي وضع مدخلاً لكتاب أرسطو في «المقولات» عرف بـ «الإيساغوجي» وقد أدى دوراً كبيراً في تطور المنطق العربي واللاتيني، كما وضع كتاباً آخر في «المدخل إلى المعقولات». ثم قام تلميذه يامبليخوس[ر] Iamblichus بتدوين شروح أخرى على أرسطو، وتأليف أخريات، فجاء مذهبه خليطاً يونانياً شرقياً، ثم ظهر في الإسكندرية أمونيوس بن هرمياس Ammonius (نحو سنة 485م) الذي شرح معظم مؤلفات أرسطو في المقولات والتحليلات والطبيعيات والكون والفساد والنفس، وكان أول من طرح مشكلة «الكليات» Universals (للأنواع والأجناس).
أما سمبلقيوس الصقلي Simplicius (توفي عام 530م) فقد لمع في شروحه على أرسطو: التحليلات الثانية والمقولات والعبارة والكون والفساد وكتاب «في قدم العالم» وآخر «في صنع العالم»، وكانت له مؤلفات نحوية وفلسفية إضافة إلى مؤلفات الإلهيات. ثم معاصره يوحنا النحوي[ر] (نحو 490- 566) المعروف باسم جون فيلوبونوس John Philoponus. الذي وضع شروحاً على الكتب المنطقية الأرسطية وغيرها. وكان بويس بوثيوس Boethius ت(470-524م) آخر الرومانيين الذين قرؤوا أرسطو وأفلاطون بالإغريقية، وكان لترجماته وشروحه لمؤلفات أرسطو أثرها البالغ في الفلسفة والمنطق في العصور الوسطى حتى وصفت الفترة الباكرة منها بالعصر البويسي، فقد قام بترجمة مصنفات أرسطو المنطقية مثل: كتاب المقولات والعبارة والتحليلات الأولى والثانية وكتاب المغالطات والجدل، كما ألف تحفته الرائعة كتاب «عزاء الفلسفة».
وكان أبو إسحق يعقوب الكندي[ر] (184-266هـ/800- 879م) أول علم من أعلام المشائية العربية، وقد عني بقضايا المنطق والمعرفة، وذلك من خلال شروحه على مؤلفات أرسطو، ثم أبو النصر الفارابي[ر] (257-339هـ/870-950م) الرياضي والطبيب والفيلسوف وإمام مناطقة عصره، فلقب بـ«المعلم الثاني» بعد أرسطو «المعلم الأول»، وكان أول شارح بالعربية وخاصة لمؤلفاته الفلسفية والطبيعية، ومن أشهر كتبه «الجمع بين رأي الحكيمين» و«المدينة الفاضلة» و«إحصاء العلوم». ثم خلفه ابن سينا[ر] (370-429هـ/980- 1037م) الذي لقب بـ«الشيخ الرئيس»، برز في مجالي الطب والفلسفة، ومن أشهر كتبه «القانون في الطب» و«الشفاء» و«النجاة» و«منطق المشرقيين» في الفلسفة. وفي المغرب العربي برز من أعلام المشائية أبو بكر بن يحيى الملقب بـابن باجة (أواخر القرن الحادي عشر - 1138م) ومن أشهر آثاره «تدبير المتوحد» و«رسالة الوداع» و«إتصال الإنسان بالعقل الفعّال».
وقد بلغت المشائية العربية والإسلامية قمتها في فلسفة ابن رشد[ر] (520- 595هـ/1126- 1198م) أعظم شارحي أرسطو في العصور الوسطى، إذ قال معاصروه: «لقد فسر أرسطو الطبيعة، أما ابن رشد فقد فسر أرسطو». وكان ابن رشد فيلسوفاً وفقيهاً وطبيباً مشهوراً، لم يكتف بشرح آراء أرسطو، بل تناولها تنقيحاً وتعديلاً وتطويراً، وارتبطت باسمه نظرية «الحقيقتين» أو «الحقيقة المزدوجة». ومن آثاره كتاب «تهافت التهافت» في الرد على الغزالي (450-505هـ/1058- 111م) و«تلخيص كتاب المنطق» و«تلخيص كتاب البرهان» و«فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال».
وتأثرت الفلسفة في العصور الوسطى[ر] بمذهب أرسطو الواقعي، ونظريته في الكليات Universals والمفاهيم أي علاقة العام بالفردي، واقترح المدرسيون حلولاً عديدة لهذه المسألة، يرى أولها أن «الكليات» موجودة وجوداً واقعياً وعلى نحو مستقل عن الفكر، وقد عرف هذا الاتجاه بـ«الواقعية» Realism، ويرى الاتجاه الآخر أن «الكليات» ماهيات مستقلة عن الإنسان، وهي مجرد أسماء عامة، فالإنسان كمفهوم عن النوع الإنساني عامة، لا يوجد فعلاً، أما الذي يوجد فهو الأفراد، أي إن «الإنسان» اسم عام فقط يرمز إلى أي فرد من النوع الإنساني، وقد عرف هذا الاتجاه بالاسمية Nominalism، وكان معظم المدرسيين ما بين القرن التاسع والقرن الثاني عشر من أنصار «الواقعية»، وفي مقدمتهم الفيلسوف الإيرلندي جون سكوتس أريجينا John Scotus Erigena ت(815-877م) الذي قال بتعارض الفلسفة مع الدين، وإن العقل هو معيار التأويل الصحيح لنصوص الكتاب المقدس، أما التيارات المشائية في شكلها المنطقي فقد شهدت في أوائل القرن الثاني عشر ظهور عدد من المناطقة الكبار، منهم الجدلي الفرنسي روسلان Roscelin ت(1050-1120م) رائد الاسمية، ومؤسس «اللوقيون الجديدة»، فكان يرى - خلافاً للأفلاطونيين - أن الألفاظ التي تدل على الكليات أصوات ليس إلا، فالكليات لا وجود لها قط، لا في الأعيان ولا في الأذهان، وإنما هي ألفاظ يُنطق بها فحسب.
وكان القديس الإيطالي آنسلم[ر] Anselm ت(1033-1109م) من كبار واقعي القرن الحادي عشر، فقد تبنى الحل الأفلاطوني لمسألة الكليات، في حين كان الفيلسوف الفرنسي بيير أبيلار Pierre Abélard ت(1079-1142م) أشهر مناطقة القرن الثاني عشر، ووقف ضد الاسمية المتطرفة، وضد الواقعية على السواء، إذ كان يرى أن الأشياء الفردية «الجواهر» Substances وحدها موجودة فعلاً، وعلى تشابه هذه الجواهر تقوم «الكليات» التي نصل إليها عن طريق التجريد الذهني، فالكليات لا وجود لها إلا في الذهن، وبذلك أسهم أبيلار في إدخال النزعة الواقعية المعتدلة إلى الفلسفة المدرسية.
ثم شهد القرن الثالث عشر تكامل عملية الترجمة لمؤلفات أرسطو وشروح ابن رشد عليها، فأصبحت محور الدراسات الفلسفية في أوربا طوال قرون عدة، وكان أهمها ترجمات مايكل الاسكتلندي Micheal (المتوفى نحو 1236م) لثلاثة من كتب «الحيوان» لأرسطو، ولشروح ابن رشد الكبرى على الطبيعيات، كذلك ترجمة هرمان الألماني Herman (المتوفى عام 1272م) لشروح ابن رشد على كتاب «الأخلاق النيقوماخية»، وكتاب «الشعر»، كذلك ترجمة وليم المربيكي (المتوفى عام 1236م) للأعمال الكاملة لأرسطو عن اليونانية.
وتطور اللاهوت المدرسي الوسيط بتأثير المشائية، واشتهر من أعلام المشائية المسيحية كل من القديس ألبرت الأكبر Albert the Great ت(1206-1280م) وجون دونس سكوتسDuns Scotus ت(1266-1308م) وريمون لول R.LLull ت(1234-1315م)، وأشهرهم على الإطلاق القديس توما الأكويني[ر] St.Thomas Aquinas ت(1225-1274م) أعظم لاهوتي المشائية المسيحية، حيث استند الأكويني إلى براهين أرسطو لدعم آرائه اللاهوتية، وحاول أن يخلص المشائية من الشوائب الأفلاطونية المحدثة، وأسس لمشائية مسيحية لا تعارض بينها وبين المسيحية، فشرح فلسفة أرسطو الطبيعية والإلهية والأخلاقية شرحاً يماثل تأويل ابن رشد لها، باستثناء بعض المسائل المتصلة بالعقيدة المسيحية، ووضع شرحاً متميزاً لكتاب «الأخلاق النيقوماخية» لأرسطو، واستند في مؤلفاته إلى أهم المقولات الأرسطية في تأويل الصيرورة في عالم الكون والفساد وماهية النفس وقواها، ومسألة العقل الفعّال التي اتجه فيها اتجاهاً مغايراً لابن سينا وابن رشد، ورأى أن العقل الفعال قوة من قوى النفس وليس قوة مفارقة لها، ورأى في مسألة خلق الله العالم أن العقل قادر على إقامة الدليل الفلسفي على إيجاد العالم من العدم، وأن للعالم بداية فلم يكن وجوده أزلياً، وبذلك حاول الدفاع عن أرسطو الذي اتهم بقوله عن أزلية العالم، ووضع توما الأكويني كتباً أخرى كثيرة منها «شرح الأحكام» ورسالة «في وحدة العقل» رداً على الرشديين، ورسالة أخرى «في قدم العالم» رداً على المتذمرين، وأنكر الأكويني مسألة الكليات الاسمية والواقعية معاً، وذهب إلى أن الكلي (العام) يوجد في الأفراد، وأن الأفكار لا توجد وجوداً مفارقاً، كما استند في فلسفته السياسية إلى أرسطو وحاول أن يوفق بينها وبين الدين، لكنه كان يؤيد سلطة الكنيسة المطلقة في المسائل الدينية، وغدت آراء الأكويني المرتكز الفكري والسلاح النظري للكاثوليكية في قرون عدة ولتيار التومائية Thomism.
بدأ نفوذ المشائية في الحركات الفلسفية واللاهوتية بالانحسار والتقلص منذ نهاية القرن الثالث عشر، عندما أصبحت الأفلاطونية المحدثة الممتزجة بالأوغسطينية نسبة إلى القديس أوغسطين[ر] Augustine سمة غالبة في معظم تراث التلامذة اللاحقين لأعلام المشائية المسيحية اللاتينية الكبار، على الرغم من ظهور حركات معاصرة حالياً في كل من فرنسا وإنكلترا وكندا وأمريكا اللاتينية تدعى بالتومائية الجديدة New-Thomism.
لكن تراجع نفوذ المشائية الأرسطية في القرون التالية لم يشمل كل جوانبها المختلفة دفعة واحدة، فقد ظل منطق أرسطو سائداً حتى أواخر القرن التاسع عشر حتى ظهور كل من هيغل[ر] Hegel وماركس[ر] Marx.
عدنان شكري يوسف