الرجل الأكثر جاذبية في العالم لعدة مرات، صاحب الشراكات الفنية الخاصة مع مخرجين كبار، المسجل في موسوعة غينيس بوصفه الممثل الأعلى أجرًا في العالم، إنه جون كريستوفر ديب، الممثل الأكثر غزارة وتنوعًا في أداء الشخصيات المركبة والغرائبية.
لم تكن حياته العائلية المشوبة بالاضطراب والعنف الأسري عائقًا أمام تحوله إلى واحد من أهم الممثلين في تاريخ السينما، فهذا المراهق الوسيم الذي عانى من أم متسلطة وعنيفة ومتنمرة، حولته إلى شخص كتوم وصبور، وربما هذا ما أزاح الدهشة والحيرة التي انتابت متابعي وقائع المحاكمة التي انفصل على إثرها عن طليقته آمبر هيرد، فقد مثلت له امتدادًا لصورة أمه ومثّل هو امتدادًا لصبر أبيه وتحمله لزوجته العنيفة والمضطربة سلوكيًا.
على العكس من ذلك، صار جوني ديب في بداياته واحدًا من أكثر الشباب جاذبية في أمريكا وتصدرت صوره المجلات مرات عدة، عندما لعب دورًا في المسلسل الأمريكي الشهير آنذاك "جمب ستريت 21"، ونال شهرة واسعة على أثره ففتحت له أبواب السينما على مصراعيها.
بدأ بأخذ دروس في التمثيل في لوس أنجلوس، ومن الواضح أنه أغرم بمدرسة "الغروتسك"، وبدأ بصياغة أسلوبيته في أداء الشخصيات من خلال معالجتها والتنظير لها وحولها، عبر إخضاعها للغروتسك، وهو ما برع فيه أيما براعة حتى صار ينظر إليه كأيقونة لهذا النمط من الأداء، وبوصفه واحدًا من أكثر الممثلين المفضلين لدى مخرجي الفانتازيا، إذ مهما كانت الشخصية خرافية وغرائبية تراها تقترب من جوني ديب وتنسل داخل رداءه، فيتشكل بها وتتشكل به وكأنها لم تصنع إلا له.
على الرغم من تلك الفرادة الطاغية في قدرته على لعب هذا النوع من الشخصيات، إلا أنه لم يحبس نفسه في هذه الأسلوبية بالكامل، وتحرر في أكثر من فيلم من غوايتها، فقدم رجل العصابات والشرطي والجندي ببراعة فائقة في أفلام لا تمحى من الذاكرة، وأكسبته لقبًا استحقه بجدارة وهو "حرباء هوليوود"، في دلالة على قدرته على التنويع.
إليكم خمسة من أهم أفلام جوني ديب الذي يعد واحدًا من أعظم الممثلين على مر العصور.
1- إدوارد ذو الأيدي المقصات
أخرج فيلم "إدوارد ذو الأيدي المقصات" (Edward Scissorhands) جوني ديب من محبسه التلفزيوني بوصفه السلعة الأكثر رواجًا بين المراهقين في ذلك الوقت. يقول ديب: "كنت محشورًا في زاوية الترفيه الاستهلاكي، مجبرًا على إظهار إيماءات واقتباسات مكررة تثير حماسة المراهقين والفتيات إلى أن وصلني هذا السيناريو العبقري، والذي أثار دهشتي؛ كيف يمكن لشخص أن يتخيل على هذا النحو".
كان هذا الفيلم بدايةً لشراكة مستدامة وصداقة عميقة بين جوني ديب والمخرج الغرائبي تيم بيرتون، فكل واحد منهما وجد ضالة في الآخر. وصنعا بعد ذلك أفلامًا شكلت علامات فارقة في السينما المنحازة إلى عوالم الوحشة والغرائبية الكئيبة.
قصة الفيلم هي معالجة مختلفة للقصة الشعبية "بينوكيو"، ورغم تأسيس بيرتون على الحكاية الشعبية لكنه افترق عنها سينمائيًا، واكتفى فقط باستعارة الفرضية وطاقة المخيلة التي تحملها الحكاية. لكنه نسج منها حكايته الخاصة وعوالمه المتفردة.
يصنع مخترع مجتهد شابًا صغيرًا ويقرر أن يصنع له عقلًا كي يفكر، وقلبًا لكي يشعر، ويضع محل يديه مقصات لكنه يموت قبل أن يتم عمله. تتوه الدمية الآدمية في عالم من العزلة وانعدام التواصل، لتصبح المقصات تعبيرًا عن التردد والخوف والفشل في التعبير عن الذات. إدوارد ذو عالم داخلي ناقص مسلح من الخارج بمقصات يمكنها أن تجرح أو تقتل إن لم يحاول الآخر الإصغاء إلى صوت عالمه الداخلي وإكمال نقصه بالتقبل والحب.
يقع إدوارد في حب شابة، ثم يصبح طريدًا من سكان البلدة، ثم يختفي ولا يُسمع عنه شيء بعد ذلك، وكأنه أسطورة اندثرت بعد أن انتصرت العادية وحكمت العالم.
2- إد وود
لا عجب أن تلفت سيرة حياة إدوارد ديفيس الشهير بــ إد وود، أفشل مخرج في تاريخ السينما، انتباه تيم بورتون، ليشرع في صناعة تحفة سينمائية، تتناول سيرة هذا الرجل غريب الأطوار في فيلم "إد وود" (Ed Wood).
اشتهر اد وود بعدم اكتراثه واستسهاله لصناعة السينما، كان من أفشل المخرجين الذين عرفتهم هذه المهنة على الإطلاق. أخطاء فادحة في التصوير والإضاءة والصوت، وعدم اهتمام يشك أنه صار يتقصده لاحقًا، خاصة في طريقة سرد الحكاية عبر السينما، فهو لم يكن يهتم للوقت والزمن فربما يكون الحدث في المشهد نهارًا وفجأة يصبح في الليل، فضلًا عن عدد المشاهد التي تصل حتى 30 مشهد في اليوم وهذا ما يعتبر خارج منطق الصناعة السينمائية بالكامل.
أراد بروتون عبر فيلمه أن يفهم هذا الارتباك الذي كان يخلفه هذا المخرج المعتز بفشله. أراد أن يفهم عبثه وعبثيته، ربما رأى فيه شخصًا ساخرًا يهزأ بفشله من كل هذه الجدية والالتزام، فكان خيار إسناد الدور لجوني ديب لا مفر منه.
قام الثنائي الغرائبي بروتون وديب بتكريم وود والاحتفاء بفشله، واعتبار هذا الفشل هو طريقته في التعبير عن ذاته، ليكون هذا الفيلم واحدًا من أروع أفلام السيرة الذاتية بجائزتي اوسكار وترشيح للسعفة الذهبية، فضلًا عن سيل عارم من الثناء من قبل أعظم نقاد السينما.
3- دون براسكو
يقدم جوني ديب في فيلم "دون براسكو" (Donnie Brasco) أداء رفيع المستوى ارتقى به إلى مصاف عظماء الشاشة الفضية. كانت مواجهته في هذا الفيلم لآل باتشينو تحديًا لأدواته وتحفيزًا لقدرته على أداء شخصيات مصنوعة بعناية فائقة، تحتاج إلى الذوبان فيها لا تمثيلها وهذا ما فعله جوني ديب. كان عليه أن يعمل على تقنين الانفعالات قدر المستطاع أمام ممثل مدجج بالتاريخ والخبرة والبراعة مثل آل باتشينو، والذي لعب هو الآخر دورًا لا يمكن نسيانه. كان التناغم بينهما بسيطًا وثقيلًا ذو وزن شكسبيري. ليفتي رجل العصابات العجوز المستكين، دمية السكاكر التي تتلقى عصي التنمر من كل رجال العصابة، قدمه آل باتشينو بطريقة غاية في الجمال، كان يشعرك في كل لحظة أن هذا العجوز لم ينتم يومًا لهذا العالم الإجرامي، وكان يمكن بطيبته وصدقه أن يكون أي شيء؛ سائق حافة ربما أو خبازًا، أو مزارعًا يزرع الكرمة ويصنع النبيذ. لكن ليس رجل عصابات.
يقابل جوزيف بستون (جوني ديب) الذي واجه هذه العبقرية بأداء شديد العمق والتقنين الانفعالي، يعمل جوزيف بستون كوكيل لمكتب التحقيقات الفيدرالي، وتقضي مهمته بالاندساس بصفوف العصابة للإيقاع بها، لكن تنشأ بينه وبين ليفي (آل باتشينو) صداقة عميقة ومودة، تدفعه إلى المماطلة في الإيقاع بهم رغم امتلاكه الكثير من الوثائق التي تدينهم، لكن معنى هذا أن صديقه ليفي سيردى لأنه هو من قدمه إلى رجال العصابة.
فيلم لهواة أفلام المافيا والباحثين عن نشوة الأداء التمثيلي، لأن ما قدمه كل من جوني ديب وآل باتشينو لا يمكن اختصاره بل تجب مشاهدته.
4- ضربة
يقوم جوني ديب بأداء أسطوري في فيلم "ضربة" (Blow)، المستند إلى شخصية حقيقية وهي تاجر المخدرات الشهير جورج جونغ، الذي كانت شخصيته عاملًا حاسمًا في صعوده السريع في عالم المخدرات إلى الحد الذي جعله أول شخص يدخل ثقافة الكوكائين، بفضل شخصيته المرحة والممتعة والمخيفة معًا. يعرض الفيلم سيرة حياة هذا الرجل حتى الإيقاع به وسجنه.
أما الاستثنائي في أداء جوني ديب في هذا الفيلم فهو قدرته على لعب الشخصية في كل مراحها من المراهقة حتى الشيخوخة. إذ نجح في تقديمها ببراعة وصدق في كل مراحلها.
الفيلم من إخراج تيم ديم وشاركت جوني ديب في البطولة بينلوبي كروز.
5- قراصنة الكاريبي: لعنة اللؤلوة السوداء
لم يكن متوقعًا لفيلم "قراصنة الكاريبي: لعنة اللؤلوة السوداء" (Pirates of the Caribbean: The Curse of the Black Pearl)، أحد أهم أفلام جوني ديب، أي نجاح يذكر من قبل النقاد، إذ رأوا أن استثمار شركة ديزني في قسم من أقسام ديزني لاند المصاغ وفق عالم القراصنة لن يوفق، ولا يمكن أن يحمل شيئًا جديدًا سوى ما يعرفه الجميع عن عالم القراصنة فقير العناصر الدرامية. لكن المفاجأة كانت كبيرة جدًا عندما عرض الفيلم والنجاح الذي حصده الفيلم كان كاسحًا. ويرجع النقاد إلى أن أهم عامل من عوامل نجاح الفيلم، هو الطريقة غير المألوفة التي عالج فيها ديب شخصية القرصان جاك سبارو، وهذا اللعب المسرحي الآخاذ للشخصية.
عاد جوني ديب في هذه الشخصية إلى شغفه "الغروتسكي" في تفسير الشخصيات ولعبها، فكان إضافة طغت على كل مناخ الفيلم ومنحته هذه الخصوصية.
تدور أحداث الفيلم حول لعنة سفينة القراصنة اللؤلؤة السوداء التي يبحث قراصنتها على قطعة ذهبية واحدة فقدت من الكنز الذي استحوذوا عليه، لكن هذا الكنز ملعون وكل من يمسه يصاب بتلك اللعنة ويصبح معلقًا بين عالم الأحياء وعالم الأموات، والقراصنة في هذا الفيلم، وهنا الفرادة، يبحثون عن قطعة واحدة ليتخلصوا من الكنز ويحظوا بسكينة الحياة لا أن يبحثوا عن الكنز كما هو معتاد.
الفيلم رشح للعديد من جوائز الأوسكار، من بينها أوسكار أفضل ممثل لجوني ديب كشخصية رئيسية.