الفـنـان جـان ليـون جـيروم ولوحتة المؤذن يدعو إلى الصلاة
بقلم: غـازى انـعـيـم
يعد الفنان الفرنسي ” جان ليون جيروم ” الذى ولد عام ( 1824 ـ 1904 )، أحد أشهر الفنانين فى القرن التاسع عشر الذين جذبتهم الموضوعات الشرقية فى لوحاتهم بعد أن سحرتهم قصص الشرق.. وانطبعت صورته فى وجدان الفنانين الغربيين، منذ أن ترجم الروائى الفرنسي الشهير ” أنطوان جالان ” قصص ألف ليلة وليلة ” لأول مرة فى القرن الثامن عشر إلى الفرنسية، حتى أن القصص، سميت ـ آنذاك ـ بقصص ” جالان “، ذلك لأنه أضاف إليها ـ فضلاً عن غوامض الأجواء، والأسرار المذهلة! ـ حكايات من تأليفه..
وهكذا ألهبت هذه الملاحم الأسطورية إلى جانب حكايات شهر زاد ورحلات السندباد ورباعيات الخيام الزاخرة بكل صنوف الخيال، قرائح الفنانين الأوروبيين، فحثتهم على الرحيل إلى الشرق، بعد أن تمثلت أحداث ألف ليلة فى وجدانهم على أنها حقائق تشكل واقع حياتنا اليومية.
ولم تتوقف الدعوة لزيارة بلادنا على الفنانين، بل إن كثيرًا من مشاهير الكتاب والشعراء الغربيين قد هاموا بحب الشرق، فتحولوا إلى دعاة لنا أمثال الفرنسى ” شاتويريان ” والإنجليزى ” بايرون ” والألمانى ” جوته “… وغيرهم، من الذين تركوا بلادهم وتوجهوا إلى الشرق العربي مستلهمين سحره وأصالته وعاداته وتاريخه، بالإضافة إلى ما فيه من متعة بصرية وثراء شكلى ولونى، فسخّروا أقلامهم لعودة الأصول والرومانسية.
والفنان جيروم أحد أولئك الذين ألهبت هذه الملاحم الأسطورية قريحتهم، وتعززت عندما شاهد لوحات زملائه من الفنانين التى تناولت القصور والنافورات ذات الأعمدة المرمرية، والمشربيات، والحمامات، وأجنحة الحريم، والغلمان، وعبق البخور… وغير ذلك من المظاهر التي لا تبعد كثيرًا عما نقرأه فى قصص ألف ليلة وليلة، فخيل لجان جيروم، بأننا نعيش ـ بالفعل ـ واقعًا رومانسيًا حالمًا مثيرًا كما قرأه فى تلك القصص، أو سمعه عن أجوائنا وطبيعتنا.. لذلك استجاب لتلك النزعة وذلك النداء فقرر أن يطلب إجازة مفتوحة من مدرسة الفنون الجميلة فى باريس، ليطوف مع بعض المصورين والصحفيين بالعديد من بلاد الشرق والسحر فى خيالهم سحر الأعمال الأدبية.
فى عام 1854 م، غادر ” جيروم ” مع أصدقائه مرسيليا متوجهًا إلى الإسكندرية ومنها إلى القاهرة حيث أمضى فيها أكثر من شتاء على النيل يدرس بعناية فنون العمارة الإسلامية ويفتش بعيون الفنان والمؤرخ وعالم الآثار عن تفاصيل الحياة اليومية، والأحداث التاريخية، فصور أثاء إقامته فى القاهرة العديد من اللوحات التى تمثل مختلف جوانب الأنشطة الاجتماعية من خلال فرشاته، مثل البيوت، والشوارع، وتجار السجاد، والرقيق، والسواقي، والأسواق، والخانات، وحياة الحريم، وبائعي السلاح، وجنود الأرناؤط، وأنواع الصناعات والحرف بشكل يثير الدهشة والانبهار، بالإضافة إلى تصوير العمارة القاهرية، وبشكل خاص المساجد، ولا سيما هيئتها الداخلية وزخرفتها، وقد تركت تلك المواضيع علامات مميزة وواضحة فى أعماله، إذ أثارت انتباهه واهتمامه إلى العمارة الإسلامية، وبالتالي أثرت على أسلوبه الفنى من حيث استخدام العناصر اللونية والضوئية، مما أدى إلى تغيير الأنماط اللونية التى كان يستخدمها في مؤثرات القرن التاسع عشر.
وقد روى ” لينوار ” تفاصيل زياراته المتعددة للجوامع الأثرية مع جيروم، وسجل انبهاره بروعة العمارة الإسلامية، ودرس ورسم كل ما وقعت عليه عيناه، كما التقطوا صورًا فوتوغرافية، وكان لجيروم لقاء بالخديوى إسماعيل، الذى تحدث عن أهمية عمل الرسام ورسالة الفن.
وقد كتب جيروم يوميات رحلته الأولى فى ثلاثين صفحة، تولى نشرها ” مورو فوتييه ” الذى كتب يقول:
” … لقد قام الفنان الرحالة بعمل العديد من الدراسات بالصور الشخصية بقلم الرصاص وفقًا لنماذج متميزة: الفلاحين، والأعراب، وزنوج مختلطى الدماء، أناس لو وضعوا تحت ملاحظة جيدة، لأمكن الاستفادة منهم فى الأبحاث عن أصل الإنسان، أو علم الأجناس وتطورها وسماتها وتقاليدها فعلى سبيل المثال، وما زال الحديث لفوتييه… لن ننتهي من ذلك إذا أردنا أن نذكر تفصيلات لا نهائية، والمسجلة على هذه الأوراق المنفصلة، ودراسة نخيل الدوم، والسواقى التى ترتفع مع عجلتيها أوان صغيرة مربوطة إلى بعضها كالمسبحة، ومقاهى، ووكالات وأماكن للاستراحة، وزوايا الأهرامات، وصورة جانبية لأبى الهول وفازات ذات خطوط ونقوش قديمة، وأبواب جوامع، كل ما تقدمه الصدفة للمسافر من جديد وغريب، إلى عين خبيرة تعرف كيف تنتقى، ويد متمرسة تعرف كيف تعبر وتبدع “.
ويذكر فريدريك ماسون الذى اصطحبه مرة على الأقل، أن جيروم كان يعمل كل مساء وهو على المركب يرسم اسكتشات، ولا ينقطع عن الرسم حتى يحل المساء.
ثم تابع رحلته إلى الجيزة في 20 شباط 1868 ومنها اتجه مع رفاقه جنوبًا حتى وصلوا إلى ” قنوات يوسف ” الأسطورية المؤدية إلى واحات الفيوم، ثم واصل رحلته بعد ذلك إلى الفيوم، ومنها غادر إلى النيل عن طريق السكة الحديدية الجديدة، وطوال ترحاله لم يتوقف جيروم عن التصوير الفوتوغرافى والرسم.
بعد عودته إلى الجيزة، استقل القطار إلى السويس ومنها واصل رحلته مع مجموعة من أصدقاءه إلى دير سانت كاترين، وأثناء الرحلة ضاعف جيروم من اسكتشاته، فكانت ساحرة فى كثير من الأحيان، وبعضها ساذج، وقال صديقه جورنو إن جيروم كان يشعر بأن هذا آخر عبور له للصحراء، فرسم احتياطيًا كبيرًا كان كافيًا لتغذية لوحاته لسنوات طويلة، بعد ذلك صعد جبل سيناء، حيث قام برسم اسكتش لمعركة ” علميك “، ومن هناك واصل رحلته إلى خليج العقبة، ثم إلى مدينة البتراء، حيث وقعوا فريسة لعصابة من قطاع الطرق لمدة أربعة أيام، يفرضون عليهم إتاوة يومية باهظة على ما يحملون من مؤن، ويزعجونهم أثناء جلساتهم للعمل والرسم أو التصوير الفوتوغرافى، ويطوفون حول خيامهم ليلا، ثم واصل رحلته الشاقة إلى القدس وبعد ذلك إلى يافا.
خلال تلك الرحلة رسم جيروم أعداد لا تحصى من الأعمال الفنية والاسكتشات لمختلف المناطق التى مر فيها، كما قام بتصوير العديد من الشخصيات ذات الشهرة، بعد ذلك استقل مركبًا من يافا عائدًا إلى مرسيليا، بعد أن جعلت منه هذه الرحلة فنانًا ذا شهرة شعبية واسعة بين الناس، ولم يكن جيروم فقط تقنيًا عظيمًا، بل كان أحد أهم فنانى حركة الاستشراق.
وقد أنتج جيروم الذي رحل فى عام 1904 م، حوالي ستمائة لوحة، مائتان وخمسون منها كانت تصور الشرق، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر بائع السجاد بالقاهرة، الاستماع إلى الوعظ، عوالم يلعبن الشطرنج بالمقهى، بائع السروج، الحَمَام، مغنى البوزق، الخروج من المسجد، حارس الحريم، الحارس التركى، ولوحة المؤذن التى سنتناولها بالقراءة والتحليل.
ـ اللوحة: المؤذن يدعو إلى الصلاة ـ 1880 م.
ـ القياس: 0, 90 × 65 سم.
ـ يصور الفنان جيروم مشهدًا من المشاهد التى يتميز بها العالم العربى والإسلامى، وهو من ملامح حياة العبادة والصلاة، والعلاقة ما بين الإنسان وربه، هذا المشهد يتضمن شخصية ” المؤذن ” لحظة الأذان، وهو يقف على المئذنة ـ حيث كانت فى تلك الأيام ـ يدعو المصلين للصلاة، أى أن الموضوع فى اللوحة هو تصوير لحظة الأذان فى مدينة القاهرة التى كانت تلقب بمدينة الألف مئذنة.
ـ ثبت الفنان الزمن لحظة ليسجل مشهد الأذان، وهي لحظة الصباح الباكر وبوادر بزوغ شمس الصباح، وبذلك يخبرنا الفنان بأن هذا الأذان هو أذان صلاة الفجر، وقد عبّر عن تلك اللحظة من خلال استخدامه للون الأزرق الفاتح المشرب بالأحمر المندى فى خلفية اللوحة، وفى هذه اللحظة يدعونا الفنان لتأمل التعبيرات المرتسمة على وجه المؤذن الدالة على انفعالاته وأحاسيسه ومشاعره الصادقة، المعبرة عن روحانية النداء للصلاة.. ويتخذ الفنان طيور الحمام رمزًا للتعبير عن الطمأنينة والجانب الإنسانى.
ـ يتضح من اللوحة مفهوم الفنان للفن وهو أن الفنون يجب أن تستمد جذورها وعناصرها من واقعها المكانى والزمانى، لذلك سجّل الفنان البيئة عن طريق إبراز الطراز المعمارى الإسلامى فى البيوت، والمساجد، وقد صاغ تلك العناصر فى صيغة تشكيلية تتضح من كيفية تناوله لعناصر العمل الفنى من كتلة وفراغ وخط ولون.
ـ أكد الفنان على العلاقة بين بيوت الله والناس، مع الاحتفاظ بالمسحة الرومانسية لتلك المبانى والمآذن العتيقة التى تتكرر بشكل رأسى، والمدقق فى اللوحة أيضًا يلاحظ اهتمام الفنان الشديد بالتفاصيل الدقيقة لدرجة المبالغة، وهذا واضح من خلال رسمه للزخارف النباتية التى تظهر فى جزء من قبة مسجد الأمير أيبك فى بداية اللوحة، لذا خرج أسلوب الفنان فى اللوحة بشكل متجانس ومتفاعل مع الواقع.
ـ استخدم الفنان الأسلوب الكلاسيكي فى تصوير موضوعه، لهذا اهتم بالمنظور وبمراعاة النسب التشريحية فى مشخصه، كما اهتم بالدقة فى الرسم وإبراز التفاصيل سواء فى وجه وجسد المشخص أو العمامة والجلباب والعباءة، أو الدقة فى تصوير ثنايا ملابسه وتسجيلها كنموذج لطراز تلك الأيام.
ـ كما نجد أن الفنان اهتم بإبراز التنوع فى ملامس السطوح المختلفة ليعطي الإحساس بها كالخشب الذى يلف المئذنة الواضح أمام وخلف المؤذن، ونوعية الطين والحجارة والأعمدة المستخدمة في البناء، وبشرة وجسد المؤذن، وكذلك القماش والتباين بين أنواعها في كل من العمامة والجلباب والعباءة.
ـ يتسم التكوين فى اللوحة بالبنائية والرصانة ومراعاة قواعد الاتزان بين الكتل ( المساحات ) وبين الكتلة والفراغ المحيط بها، إضافة إلى تحقيق الهارمونى اللونى المستمد من الواقع والذى يتناسب وإبراز الجانب التعبيرى.
بقي أن نشير وبشكل مختصر بأن اللوحة تم استنساخها، وكثيرًا ما نشاهدها على صدر بعض الصحف والمجلات العربية، وما يميز الأصل عن التقليد هو أن اللوحة المستنسخة تبدو وكأنها مرسومة فى وضح النهار، بالإضافة إلى أن المؤذن فى اللوحة المستنسخة يلبس على رأسه برنيطة ( طاقية ) ووجهه إلى الأسفل، بعكس المؤذن فى اللوحة الأصلية حيث يقف ورأسه مرفوعًا نحو السماء.