ما قالوه هم
سعد القاسم
هي آخر دفعة من طلاب التمثيل في المعهد المسرحي تعرفت عليها عن قرب، غادرتهم (مدرساً) قبيل بدء الفصل الثاني من سنتهم الدراسية الأولى بحكم جائحة الكورونا. كان قصيراً الوقت الذي أمضيته معهم - قياساً بزملائهم الذين سبقوهم – لكنه كان كافياً لأمتلك، بفعل حضورهم (الحيوي!) لدروسي النظرية، وحضوري الممتع لمشاريعهم العملية، كان كافياً لأمتلك الانطباع الشخصي عن كل واحد منهم، والمحبة لهم جميعاً.
بالأمس، في عرض تخرجهم (ما لم يكتبه شكسبير)، ملؤوا المسرح الدائري الذي يعتز باسم فواز الساجر طاقة خلاقة، وحيوية مدهشة، وكفاءة عالية. كم استغرق العرض؟ حقيقة لا أعرف فقد مضى الوقت سريعاً ومشوقاً رغم أنه عرض مسرحي يحدث في فضاء افتراضي وحيد. تبنى كل ممثل فيه الشخصية التي تقمصها بخطوطها الأساسية، وتفاصيلها الصغيرة. لم تنل من ثقتي بمهارتهم وكفاءة تدريبهم: المبارزات الصاخبة التي كانت تجري بحرارة مدهشة قريباً للغاية من مكان جلوسي في الصالة (لثقتي بهم وبأساتذتهم الذين دربوهم على المبارزات والقتال المسرحي: علاء زهر الدين وعلي اسماعيل).
نصٌ ذكي كتبه ماكبث العرض (خالد النجار) مستحضراً أشهر شخصيات وليم شكسبير إلى حفل عشاء خيالي في قاعة قصر ملكي متخيلة. وفي ذروة تساؤلهم عن صاحب الدعوة يخرج طيف شكسبير ليخبرهم أنه من دعاهم ليعلمهم أنه مات مقتولاً، وأن روحه لن ترتاح إلا بالاقتصاص من قاتلة المدعو معهم على العشاء، (قد لا يكون بينهم). سرعان ما يكتشف هاملت وماكبث وعطيل وكلاوديوس وياغو والآخرون، ثم ريتشارد الخامس، أن باب القاعة المغلق بإحكام لن يفتح قبل أن الاقتصاص من القاتل فتبدأ رحلة البحث الدامية عنه. لينتقل العرض من محاولة اكتشاف دوافع كل مشتبه لقتل صانعه. إلى بوح داخلي لكل شخصية أشبه ما تكون بالدفاع عن سلوكها، وسرد معاناتها. إلى فعل آخر غير الذي قدمته النصوص التي وصلتنا. برؤية تكاد تقول أن انظروا إلى شخصيات شكسبير بغير التقليدية النمطية التي قدمها بها.
يبلغ ذكاء النص بؤرته – خاصة – في تعرية المجتمع الأوربي الطبقي العنصري، سواء فيما ورد من تعابير عنصرية مقيته على ألسنة رموز الطبقة المهيمنة تجاه عطيل (البربري العربي الأفريقي الأسود)، أو في عرض شخصية شايلوك التي قدمها باقتدار (حسن كحلوس). فخلافاً لما فعل شكسبير في (تاجر البندقية) حين أدان شخصية اليهودي، لكونه يهودي. أدان العرض الاضطهاد العنصري الذي تعرض له اليهود في المجتمعات الأوربية، وهو ما أرادت أوربا محوه من تاريخها الأسود بجريمة أكثر بشاعة حين دفعت يهودها المُضطَهدين لسلب بلاد آخرين وحقوقهم، وممارسة الاضطهاد العنصري ذاته عليهم، دون أن يكون للمضطهدين الفلسطينيين أي ذنب في الاضطهاد الذي تعرض له المُضطهَدين سابقاً، المضطهِدين لاحقاً وآنياً.
خمس عشرة شابة وشاب شغلوا المسرح توهجاً وبراعة، فلم يكن بينهن (بينهم) من لم يكن بحجم الشخصية، ومستوى المسؤولية، فأدوا حواراتهم الطويلة بكفاءة المحترفين، وأخضعوا ليونة أجسادهم وتعابيرها لاحتياجات العرض، فكان أن أمتعوا وأدهشوا: باسل عنيد (حفار القبور)، براء بدوي (ريتشارد)، تيما الفقير (الليدي ما كبث)، جعفر مصطفى (ياغو)، شيراز لوبية (الليدي آن)، عمر نور الدين (روميو)، فارس جنيد (الملك لير)، لانا الحلبي (جولييت)، مازن الحلبي (عطيل)، مراد انطاكية (كلاوديوس)، مرام اسماعيل (أوفيليا) ميرنا المير (ديزدمونة)، ورد عجيب (هاملت).
العرض الرائع فكرة وإشراف عروة العربي، الذي، ومنذ عمله الإخراجي الأول، صار اسمه مرادفاً للإبداع والجودة والتجديد. وهو اليوم يقدم لعالم التمثيل مجموعة من الممثلين البارعين نأمل أن نشاهدهم قريبا على خشبات المسارح، وعلى الشاشات.
على هامش العرض: حين شاهدت الجمع الهائل أمام باب المسرح تنازعني شعوران متعارضان. الأول أن كل هذا العدد الكبير قد جاء في اليوم التاسع ليحضر العرض. والثاني أن قسماً كبيراً منهم لن يتاح له الحضور، بحكم حجم المسرح، وطبيعة العرض التي تستوجب إقامته في هذا المكان تحديداً.
* بوستر العرض – تصميم: حسين صوفان