كنعانيون Canaanites - Cananéens
الكنعانيون
يُعَدُّ الكنعانيون Canaanites قوماً ممن سماهم المستشرقون «ساميين»[ر]، تربطهم علاقة لغوية وثيقة بالأموريين (العموريين)[ر]، وقد تزامنت هجرتهم إلى سورية (بلاد الشام) معهم، ولكنهم اتخذوا الساحل السوري موطناً دائماً لهم، وأقاموا مدناً كثيرة، تمتد من خليج الإسكندرونة شمالاً إلى غزة ورفح جنوباً، صارت من بَعْدُ دويلات مدن مشهورة. وقد يعود اسم «كنعان» إلى اشتقاق من مادة «كنع» السامية التي تعني «انخفض، تواضع». وسميت بلاد كنعان لانخفاض أراضيها بالقياس إلى الجبال والمرتفعات التي تقع إلى الشرق منها، ومنها جبال اللاذقية وجبال لبنان الشاهقة، والجليل في فلسطين. وتسمي التوراة، وأسفار العهد القديم بعامة، فلسطين «أرض كنعان»، وتذكر أن الكنعانيين كانوا يستوطنون السهول والأراضي المنخفضة. ولكن النصوص الحورية تدعو «كنعان» كناجي Knaggi، وتسميها النصوص الأكدية كِناخني Kinakhni وكذلك كِناخّي Kinakhkhi، أي كناعي، وتعني هذه الألفاظ كلها «الصباغ الأحمر الأرجواني». ويبدو أن الكنعانيين اشتهروا بهذا اللون من الصباغ حتى أطلق الآخرون اسمه عليهم، إذ سمّاهم الإغريق (اليونان) أيضاً «فينيقيين» نسبة إلى هذا اللون المشتق من لفظة فوينكس phoinix التي تعني اللون الأحمر الأرجواني باليونانية، وقد عرفوا هؤلاء القادمين إليهم من البحر بأشرعة سفنهم وأقمشتهم الأرجوانية التي كانوا يبيعونهم إياها.
وكانوا يحصلون على هذا اللون المميز من أصداف البحر التي تحتوي بداخلها نوعاً من حيوان البحر القشري (مورِكس murex) الذي يتوافر على شواطئهم بكثرة. ويحتمل كذلك أن تسمية الفينيقيين أطلقها اليونان على البحارة الكنعانيين، لما رأوا من وجوههم المحمرّة من لفح الشمس. وتعود هذه التسمية إلى زمن الشاعر الإغريقي المعروف هوميروس صاحب ملحمة «الإلياذة»[ر].
وطغى هذا الاسم «الفينيقيون»، وشاع في التاريخ على حساب اسم الكنعانيين. وقد ذُكر اسمهم الأصلي «الكنعانيون» منذ القرن الخامس عشر قبل الميلاد، في كتابة مسمارية نقشت على تمثال ملك ألالاخ (موقع تل العطشانة في سهل العمق) المسمى إدريمي، وفي نقش مصري يعود تاريخه إلى عهد الملك أمينوفيس الثاني (1438-1412ق.م)، على مسلة مصرية من مدينة ممفيس، وتردد الاسم في العصر الهلنستي عند فيلون الجبيلي.
أصولهم: يعود أصل الكنعانيين (الفينيقيين)، حسب النظرية السائدة، إلى شبه الجزيرة العربية التي هاجروا منها في هجرة شعوبية كبيرة اشتملت على الأموريين، وشكلوا الهجرة الثانية ممن يُدْعَون «الساميين» في نهاية الألف الثالث قبل الميلاد، فوصلوا إلى البادية السورية، ومنها توجهوا غرباً إلى الساحل السوري، بينما اتجه الأموريون شمالاً وشرقاً وإلى أطراف البادية السورية، حيث جاورهم الكنعانيون في الغرب. ولكن المؤرخ فيلون الجبيلي يدعي أن الكنعانيين أصيلون في موطنهم على الساحل السوري. ويرى المؤرخ اليوناني هيرودوت Herodote، أن أصلهم من الساحل الأرتيري أي البحر الأحمر، ويعتقد الجغرافي استرابون Strabon أن موطنهم الأصلي كان في الخليج العربي، حيث كانت لهم معابد ومدن تحمل أسماء تتطابق وأسماء المدن الكنعانية المعروفة.
دويلاتهم: نشأ عدد من المدن على الساحل السوري في الشريط المحصور بين البحر المتوسط في الغرب والجبال في الشرق. وقد سمّى الإغريق الساحل الواقع بين تل سوقا (سوكاس إلى الجنوب من جبلة السورية) ومدينة عكا الفلسطينية باسم فينيقية. ويتميز الساحل بغناه بالخلجان والثغور التي تسمح بإنشاء الموانئ البحرية والتي تطورت إلى مدن اعتمدت حياتها على التجارة البحرية وبناء السفن اللازمة لهذا النوع من الاقتصاد. ولم تنجح هذه المدن، التي تحول أهمها إلى دويلات، في جمع شملها، وتوحيد نفسها في دولة واحدة، بل بقيت منفصلة عن بعضها، ولكنها قد تتحالف أحياناً عندما يهددها خطر خارجي مشترك، وقد تتحالف مع أعداء مدينة منها إذا رأت في ذلك سلامتها وأمنها، وأهمها من الشمال إلى الجنوب: أرواد وجبيل وصيدا وصور. ويضيف بعضهم أُغاريت، وبعدها طرابلس التي أنشئت لاحقاً. وعرف تاريخ الكنعانيين أحياناً قيام اتحاد مؤقت بزعامة صيدا أو صور، كان سرعان ما ينفرط عقده بعد أن يؤدي الغاية التي قام من أجلها.
وكان لكل مدينة كيان سياسي مستقل، يشتمل على المدينة وريفها، لها حكومتها الخاصة، ويديرها ملك يصل إلى الحكم عن طريق الوراثة، وقد يكون أصله من الكهنة، ويساعده مجلس للشيوخ يمثل رجالات المدينة الكبار والأثرياء فيها من التجار، ينسجم مع تقاليد المجتمعات التجارية. وقد ذُكرت معاهدة عقدها أحد الملوك الآشوريين[ر] مع ملك صور ومجلس الشيوخ الذي كانت له في صور أيضاً صلاحية اتخاذ القرار في غياب الملك. كما كان يحق لمجلس الشيوخ في صيدا، الذي كان يضم مئة عضو، اتخاذ إجراءات في حق الملك. وكان للكهنة دور مهم في إدارة المدينة، ونفوذ في الحياة العامة.
ومرت المدن الكنعانية بالأحداث السياسية نفسها، ولم تكن بمنأى عما يدور في منطقة شرقي البحر المتوسط، فهي دويلات متجاورة وتشغل مساحات صغيرة حيث تتعرض الواحدة منها لما تتعرض له الأخرى، وما يصيب واحدة منها يصيب الأخريات. ولمّا كانت سورية القديمة مسرحاً لصراع القوى الكبرى على النفوذ في الشرق الأدنى القديم، وهدفاً لأطماع الدول العظمى، فإن فينيقية، أي مجموع الدويلات الكنعانية، كانت تشاطر الدويلات السورية الأخرى مصيرها، فتنضم إليها عندما تقرر مقاومة الغزو الخارجي، أو تعلن استسلامها ورضاها بالنفوذ السياسي الأجنبي، وتدفع الجزية حفاظاً على أمنها وسلامة تجارتها، إذ كان الكنعانيون تجاراً مسالمين ولا يهتمون بالسيطرة العسكرية ولا بالتوسع، وإن كانت أساطيلهم البحرية ومهارتهم الملاحية في البحر المتوسط تقدم لهم الوسيلة اللازمة للقيام بالغزو. وقد اضطروا بسبب ضيق مساحة أراضيهم إلى إنشاء المستعمرات التجارية المسالمة في قبرص القريبة، وفي جزيرة رودُس وغيرها من جزر بحر إيجة وعلى شواطئه، فكانت محطات تجارية، ولم تكن استعماراً وسيادة سياسية، لأن أهل تلك المستعمرات كانوا يخلونها من دون مقاومة عندما يشعرون بروح العداء في تلك الأماكن، كما كانوا رسل حضارة ومدنية، إذ تعلم منهم الإغريق تجارة البحر، كما قلدوا شكل المراكب الفينيقية (الكنعانية) وتأثروا بالعمارة الفينيقية وصناعة الخزف والفنون الأخرى، ونقلوا عنهم الكتابة الألفبائية.
ولم يقتصر نشاط الكنعانيين التجاري على شرقي البحر المتوسط وشماله، بل وصلوا إلى السواحل الغربية والجنوبية، وعبروا من ثم مضيق جبل طارق إلى المحيط الأطلسي، واستطاعوا أن يكونوا سادة البحر المتوسط في المجالين التجاري والبحري، ومحتكري التجارة فيه بفضل أسطولهم التجاري الضخم، واشتهروا بقدرتهم الملاحية، إذ قام ملاحون كنعانيون في بداية القرن السادس قبل الميلاد بالدوران حول إفريقيا بتكليف من الفرعون المصري نخاو الثاني (نحو عام 610 ق.م)، إذ أرسل بعثة بدأت رحلتها من خليج السويس عبر البحر الأحمر، ودارت حول القارة حتى وصلت إلى مضيق جبل طارق، وتابعت منه رحلتها باتجاه الشرق إلى أن وصلت مصر بعد ثلاث سنوات. كما وصل بحارة من أهل قرطاجة في بداية القرن الخامس قبل الميلاد إلى جنوب غربي بريطانيا، وجلبوا القصدير من هناك. وتلقي أسفار كتاب اليهود المقدس بعض الأضواء على قدرة الكنعانيين الملاحية، وعلى علاقة مدن فينيقية بفلسطين.
ارتبطت المدن الكنعانية بمصر تجارياً منذ العصور القديمة. وقد أشارت الأساطير المصرية القديمة التي تحدثت عن أوزيريس Osiris إلى تلك العلاقات، إذ إن الصندوق الذي كان يضم جثمان أوزيريس الذي قتله أخوه ست Seth وصل إلى شاطئ جبيل، إلى أن وجدته إيزيس Isis وأعادت إليه روحه وعادت به إلى مصر. وهي الأسطورة التي تتحدث عن الصراع بين الخير والشر والتي لها ما يشابهها في أسطورة بعل وموت في أُغاريت[ر] الكنعانية. وكان المصريون يستوردون الخشب من المدن الكنعانية منذ أواخر الألف الرابع قبل الميلاد، وكانت مدينة جبيل التي يسميها الإغريق بيبلوس Byblos الميناء المفضل عند المصريين، حيث كانت لهم فيها جالية كبيرة من التجار يقيمون فيها إقامة دائمة. وقد أكدت قصة سنوحي المصرية التي تحكي عن حياة طبيب مصري لجأ إلى فينيقية (نحو عام 1962 ق.م) العلاقات الطيبة بين المصريين والكنعانيين، كما أكد ذلك كثير من اللقى المصرية التي عثر عليها في سورية وفينيقية خاصة، ولاسيما في جبيل وأُغاريت، يعود تاريخها إلى عصر الدولة الوسطى في مصر.
وقد تغيرت هذه العلاقات السلمية بين الطرفين بعد جلاء الهكسوس عن مصر، إذ قرر المصريون السيطرة على سورية بكاملها، بما فيها المدن الكنعانية الساحلية، منذ وصول الملك أحمس إلى عرش مصر (نحو عام 1560ق.م). ونفذ هذه السياسة بكل حزم الفرعون تحوتمس الثالث (1468-1436ق.م). واعترف حكام المدن الكنعانية بالسيادة المصرية حينئذ، ولكنهم كانوا يتمتعون باستقلال ذاتي مقابل دفع الجزية المقررة.
واستمر نفوذ مصر في هذه المنطقة، إلى أن داهم غزاة شعوب البحر القادمة من جهات بحر إيجة وآسيا الصغرى والساحل السوري، ووصلوا إلى مصر التي صدتهم في نحوا عام 1175ق.م تقريباً، وعندما توقف تيار شعوب البحر برزت المدن الفينيقية من جديد. وعاد التجار الكنعانيون (الفينيقيون) بحارة البحر المتوسط، وقد أطلق عليهم المؤرخ اليوناني هيرودوت لقب «شعب الملاحة الشهير». ولكن سورية ومنها الساحل السوري تعرضت لغزو جديد من آشور[ر] منذ بداية القرن الحادي عشر قبل الميلاد، وصار ملوكهم يظهرون مراراً لجبي الجزية من المدن الكنعانية، وللحصول على خشب الأرز من الجبال المجاورة.
كانت جبيل من أشهر المدن الكنعانية وسماها المصريون كوبنا، ودعتها الوثائق الرافدية جوبلا، واليونانية بيبلوس. وللاسم الكنعاني صلة بالجبل من حيث المعنى. واشتهر من حكامها الملك أحيرام صاحب التابوت الحجري المشهور بقدم كتابته الألفبائية التي يعود تاريخها إلى نهاية القرن الحادي عشر، كما اشتهر ابنه أبي بعل (نحو 940ق.م). وبقي حكام جبيل مخلصين للمصريين الذين استمروا يرسلون تجارهم ويحتفظون بجالية لهم في المدينة.
وتزعمت صيدا المدن الأخرى مدة من الزمن، ولاسيما في القرنين الثاني عشر والحادي عشر، ثم خلفتها صور. ويؤكد أهمية صيدا إطلاق الشاعر اليوناني هوميروس تسمية «الصيداويين» على كل الفينيقيين، وكانت تشارك جيرانها في التصدي للهيمنة الآشورية، وتدفع للآشوريين الجزية عندما يفشل التمرد أسوة ببقية المدن الكنعانية.
تقوم مدينة صور القديمة على جبل صغير لا يبعد كثيراً عن الساحل، ومنه اشتق الكنعانيون اسمها الذي يعني «الجبل، الصخرة الكبيرة»، وقد دعاها اليونان تيروس Tyros، كما دعوا صيدا Sidon. واشتهر من ملوك صور أحيرام الأول (نحو 969-936) الذي استطاع أن يحولها إلى مملكة ذات شأن في تاريخ الكنعانيين والبحر المتوسط، وجعلها قلعة حصينة، صمدت أمام حصار بابلي في عهد الملك نبوخذ نصر الثاني (605-562ق.م) ثلاثة عشر عاماً. ولم يستطع الإسكندر المقدوني[ر] فتحها إلاّ بعد حصار دام سبعة شهور، ويذكر كتاب العهد القديم صلات صور التجارية مع العالم القديم (سفر حزقيال الإصحاح 27)، وعلاقة ملكها أحيرام الوثيقة بالملك سليمان الذي ساعده على بناء الهيكل بتزويده بخشب الأرز وبالبنّائين المهرة، كما وضع تحت تصرفه الملاحين الذين أوصلوا سفنه إلى أوفير (لعلها اليمن) لجلب الذهب وخشب الصندل والحجارة الكريمة. وتروي أسطورة محلية أن أحد خلفاء ملك صور، إتّو بعل، وهو بجماليون، فرت أخته، واسمها إليسار، من صور لأنه طمع بثروة زوجها فقتله، وأبحرت إلى قبرص ومنها إلى المنطقة التي قامت فيها مدينة قرطاجة Cartago (في تونس اليوم)، وأسست بذلك مستعمرة كنعانية في شمالي إفريقيا، ما لبثت أن بزت المدينة الأم صور. وقرطاجة تدعى بالكنعانية «قرت حدش»، أي المدينة الحديثة. ويعتقد أن تأسيسها كان نحو عام 814ق.م، ثم صارت قرطاجة دولة بحرية عظيمة في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، وشمل نفوذها الجزء الغربي من البحر المتوسط، كما احتلت جنوبي شبه جزيرة إيبريا حيث تقوم اليوم إسبانيا والبرتغال. وعندما ظهرت روما وأرادت منافستها على السيادة البحرية نشبت حروب طويلة بينهما انتهت بدمار قرطاجة في الحرب البونية الثالثة (149-146ق.م). وقد استطاع أحد قادة قرطاجة وهو هانيبال المشهور (بالكنعانية: حن بعل) أن يقترب من روما بجيشه الذي انطلق به من شرقي إسبانيا وعبر جبال البيرينه والألب، ثم انحدر به إلى العاصمة الرومانية لتحقيق النصر، إلاّ أن الأقدار لم تحالفه على الرغم من انتصاراته المتتالية على الرومان. وكان لقرطاجة فضل في إنشاء المستوطنات والمحطات التجارية في مناطق نفوذها الواسع على ساحل إيبريا، وكانت قرطاجنة Cartagena أشهرها.
الحضارة الكنعانية: كان لكل مدينة كنعانية إله خاص يسمى «بعل» أو إلهة تدعى «بعلة» فكان يقال «بعل صيدا»، و«بعلة جبيل». وهي آلهة تدل على الخصب وتختص بالمطر وإرواء الأرض الزراعية (البعلية)، وقد سمى اليونان هذا الإله أدونيس اشتقاقاً من كلمة «أدون» الكنعانية التي تعني «الرب، السيد». وأطلق أهل صور على إلههم اسم ملك، ومنه الاسم ملقرت، أي ملك المدينة، كما عبدوا إله الشفاء إشمون، والربة عشتارت.
وكان للكنعانيين لهجة خاصة تمثل أحد فروع اللغات السامية[ر] التي تجمعها واللغة العبرية والأُغاريتية والمؤابية والأدومية قرابة واضحة. وقد كتب الكنعانيون في البداية كتابة تصويرية خاصة بهم، ثم اخترعوا كتابة ألفبائية في أُغاريت[ر]، ذات شكل مسماري، وكتابة ألفبائية أخرى في جبيل، دعيت باسم «الكتابة الفينيقية». وقد صارت هذه أم كتابات العالم المعروفة اليوم جميعها، بعد أن أخذها الإغريق وتبنّوها، وأخذها الرومان عنهم، وظهرت الكتابة اللاتينية عندهم، والتي انتشرت بوساطتهم في أوربا والعالم الغربي.
اعتمد الفينيقيون على التجارة البحرية في معيشتهم، وبنوا السفن بأنفسهم وبرعوا بذلك براعتهم في قيادتها، وكانت أشجار الأرز والصنوبر والسرو التي تغطي الجبال المجاورة توفر لهم المادة الأساسية لذلك. وكانوا كذلك يبنون السفن لغيرهم، ويعملون وسطاء تجاريين، وملاحين لحساب جيرانهم والشعوب المختلفة في حوض البحر المتوسط، ويستغلون موقع بلادهم على طرق المواصلات والتجارة، الواصلة بين مصر وبلاد الأناضول وبين بلاد الرافدين والعالم الإيجي، كما كانوا بارعين في صناعة الزجاج الذي توافرت مادته الأساسية في رمال الساحل، وفي صناعة الأنسجة الصوفية التي كانوا يصبغونها باللون الأرجواني. ولم يهمل الكنعانيون زراعة أراضيهم على ضيق مساحتها، واعتمادها على الأمطار غالباً، وقد ألهمهم هذا في تأليف أساطيرهم، وفي مقدمتها أسطورة «بعل» التي تمثل الصراع بين الخير والشر، والصراع الدائم بين الخصب والقحط، إذ كان موت بعل وهو إله المطر والصواعق، يعني انحباس المطر وانتشار الجفاف، وعودته إلى الحياة تعني عودة الخصب وكثرة الغلال والمحاصيل, والقضاء على قوى الشر وانتصار الخير.
أحمد هبو
الكنعانيون
يُعَدُّ الكنعانيون Canaanites قوماً ممن سماهم المستشرقون «ساميين»[ر]، تربطهم علاقة لغوية وثيقة بالأموريين (العموريين)[ر]، وقد تزامنت هجرتهم إلى سورية (بلاد الشام) معهم، ولكنهم اتخذوا الساحل السوري موطناً دائماً لهم، وأقاموا مدناً كثيرة، تمتد من خليج الإسكندرونة شمالاً إلى غزة ورفح جنوباً، صارت من بَعْدُ دويلات مدن مشهورة. وقد يعود اسم «كنعان» إلى اشتقاق من مادة «كنع» السامية التي تعني «انخفض، تواضع». وسميت بلاد كنعان لانخفاض أراضيها بالقياس إلى الجبال والمرتفعات التي تقع إلى الشرق منها، ومنها جبال اللاذقية وجبال لبنان الشاهقة، والجليل في فلسطين. وتسمي التوراة، وأسفار العهد القديم بعامة، فلسطين «أرض كنعان»، وتذكر أن الكنعانيين كانوا يستوطنون السهول والأراضي المنخفضة. ولكن النصوص الحورية تدعو «كنعان» كناجي Knaggi، وتسميها النصوص الأكدية كِناخني Kinakhni وكذلك كِناخّي Kinakhkhi، أي كناعي، وتعني هذه الألفاظ كلها «الصباغ الأحمر الأرجواني». ويبدو أن الكنعانيين اشتهروا بهذا اللون من الصباغ حتى أطلق الآخرون اسمه عليهم، إذ سمّاهم الإغريق (اليونان) أيضاً «فينيقيين» نسبة إلى هذا اللون المشتق من لفظة فوينكس phoinix التي تعني اللون الأحمر الأرجواني باليونانية، وقد عرفوا هؤلاء القادمين إليهم من البحر بأشرعة سفنهم وأقمشتهم الأرجوانية التي كانوا يبيعونهم إياها.
وكانوا يحصلون على هذا اللون المميز من أصداف البحر التي تحتوي بداخلها نوعاً من حيوان البحر القشري (مورِكس murex) الذي يتوافر على شواطئهم بكثرة. ويحتمل كذلك أن تسمية الفينيقيين أطلقها اليونان على البحارة الكنعانيين، لما رأوا من وجوههم المحمرّة من لفح الشمس. وتعود هذه التسمية إلى زمن الشاعر الإغريقي المعروف هوميروس صاحب ملحمة «الإلياذة»[ر].
وطغى هذا الاسم «الفينيقيون»، وشاع في التاريخ على حساب اسم الكنعانيين. وقد ذُكر اسمهم الأصلي «الكنعانيون» منذ القرن الخامس عشر قبل الميلاد، في كتابة مسمارية نقشت على تمثال ملك ألالاخ (موقع تل العطشانة في سهل العمق) المسمى إدريمي، وفي نقش مصري يعود تاريخه إلى عهد الملك أمينوفيس الثاني (1438-1412ق.م)، على مسلة مصرية من مدينة ممفيس، وتردد الاسم في العصر الهلنستي عند فيلون الجبيلي.
أصولهم: يعود أصل الكنعانيين (الفينيقيين)، حسب النظرية السائدة، إلى شبه الجزيرة العربية التي هاجروا منها في هجرة شعوبية كبيرة اشتملت على الأموريين، وشكلوا الهجرة الثانية ممن يُدْعَون «الساميين» في نهاية الألف الثالث قبل الميلاد، فوصلوا إلى البادية السورية، ومنها توجهوا غرباً إلى الساحل السوري، بينما اتجه الأموريون شمالاً وشرقاً وإلى أطراف البادية السورية، حيث جاورهم الكنعانيون في الغرب. ولكن المؤرخ فيلون الجبيلي يدعي أن الكنعانيين أصيلون في موطنهم على الساحل السوري. ويرى المؤرخ اليوناني هيرودوت Herodote، أن أصلهم من الساحل الأرتيري أي البحر الأحمر، ويعتقد الجغرافي استرابون Strabon أن موطنهم الأصلي كان في الخليج العربي، حيث كانت لهم معابد ومدن تحمل أسماء تتطابق وأسماء المدن الكنعانية المعروفة.
دويلاتهم: نشأ عدد من المدن على الساحل السوري في الشريط المحصور بين البحر المتوسط في الغرب والجبال في الشرق. وقد سمّى الإغريق الساحل الواقع بين تل سوقا (سوكاس إلى الجنوب من جبلة السورية) ومدينة عكا الفلسطينية باسم فينيقية. ويتميز الساحل بغناه بالخلجان والثغور التي تسمح بإنشاء الموانئ البحرية والتي تطورت إلى مدن اعتمدت حياتها على التجارة البحرية وبناء السفن اللازمة لهذا النوع من الاقتصاد. ولم تنجح هذه المدن، التي تحول أهمها إلى دويلات، في جمع شملها، وتوحيد نفسها في دولة واحدة، بل بقيت منفصلة عن بعضها، ولكنها قد تتحالف أحياناً عندما يهددها خطر خارجي مشترك، وقد تتحالف مع أعداء مدينة منها إذا رأت في ذلك سلامتها وأمنها، وأهمها من الشمال إلى الجنوب: أرواد وجبيل وصيدا وصور. ويضيف بعضهم أُغاريت، وبعدها طرابلس التي أنشئت لاحقاً. وعرف تاريخ الكنعانيين أحياناً قيام اتحاد مؤقت بزعامة صيدا أو صور، كان سرعان ما ينفرط عقده بعد أن يؤدي الغاية التي قام من أجلها.
وكان لكل مدينة كيان سياسي مستقل، يشتمل على المدينة وريفها، لها حكومتها الخاصة، ويديرها ملك يصل إلى الحكم عن طريق الوراثة، وقد يكون أصله من الكهنة، ويساعده مجلس للشيوخ يمثل رجالات المدينة الكبار والأثرياء فيها من التجار، ينسجم مع تقاليد المجتمعات التجارية. وقد ذُكرت معاهدة عقدها أحد الملوك الآشوريين[ر] مع ملك صور ومجلس الشيوخ الذي كانت له في صور أيضاً صلاحية اتخاذ القرار في غياب الملك. كما كان يحق لمجلس الشيوخ في صيدا، الذي كان يضم مئة عضو، اتخاذ إجراءات في حق الملك. وكان للكهنة دور مهم في إدارة المدينة، ونفوذ في الحياة العامة.
ومرت المدن الكنعانية بالأحداث السياسية نفسها، ولم تكن بمنأى عما يدور في منطقة شرقي البحر المتوسط، فهي دويلات متجاورة وتشغل مساحات صغيرة حيث تتعرض الواحدة منها لما تتعرض له الأخرى، وما يصيب واحدة منها يصيب الأخريات. ولمّا كانت سورية القديمة مسرحاً لصراع القوى الكبرى على النفوذ في الشرق الأدنى القديم، وهدفاً لأطماع الدول العظمى، فإن فينيقية، أي مجموع الدويلات الكنعانية، كانت تشاطر الدويلات السورية الأخرى مصيرها، فتنضم إليها عندما تقرر مقاومة الغزو الخارجي، أو تعلن استسلامها ورضاها بالنفوذ السياسي الأجنبي، وتدفع الجزية حفاظاً على أمنها وسلامة تجارتها، إذ كان الكنعانيون تجاراً مسالمين ولا يهتمون بالسيطرة العسكرية ولا بالتوسع، وإن كانت أساطيلهم البحرية ومهارتهم الملاحية في البحر المتوسط تقدم لهم الوسيلة اللازمة للقيام بالغزو. وقد اضطروا بسبب ضيق مساحة أراضيهم إلى إنشاء المستعمرات التجارية المسالمة في قبرص القريبة، وفي جزيرة رودُس وغيرها من جزر بحر إيجة وعلى شواطئه، فكانت محطات تجارية، ولم تكن استعماراً وسيادة سياسية، لأن أهل تلك المستعمرات كانوا يخلونها من دون مقاومة عندما يشعرون بروح العداء في تلك الأماكن، كما كانوا رسل حضارة ومدنية، إذ تعلم منهم الإغريق تجارة البحر، كما قلدوا شكل المراكب الفينيقية (الكنعانية) وتأثروا بالعمارة الفينيقية وصناعة الخزف والفنون الأخرى، ونقلوا عنهم الكتابة الألفبائية.
ولم يقتصر نشاط الكنعانيين التجاري على شرقي البحر المتوسط وشماله، بل وصلوا إلى السواحل الغربية والجنوبية، وعبروا من ثم مضيق جبل طارق إلى المحيط الأطلسي، واستطاعوا أن يكونوا سادة البحر المتوسط في المجالين التجاري والبحري، ومحتكري التجارة فيه بفضل أسطولهم التجاري الضخم، واشتهروا بقدرتهم الملاحية، إذ قام ملاحون كنعانيون في بداية القرن السادس قبل الميلاد بالدوران حول إفريقيا بتكليف من الفرعون المصري نخاو الثاني (نحو عام 610 ق.م)، إذ أرسل بعثة بدأت رحلتها من خليج السويس عبر البحر الأحمر، ودارت حول القارة حتى وصلت إلى مضيق جبل طارق، وتابعت منه رحلتها باتجاه الشرق إلى أن وصلت مصر بعد ثلاث سنوات. كما وصل بحارة من أهل قرطاجة في بداية القرن الخامس قبل الميلاد إلى جنوب غربي بريطانيا، وجلبوا القصدير من هناك. وتلقي أسفار كتاب اليهود المقدس بعض الأضواء على قدرة الكنعانيين الملاحية، وعلى علاقة مدن فينيقية بفلسطين.
ارتبطت المدن الكنعانية بمصر تجارياً منذ العصور القديمة. وقد أشارت الأساطير المصرية القديمة التي تحدثت عن أوزيريس Osiris إلى تلك العلاقات، إذ إن الصندوق الذي كان يضم جثمان أوزيريس الذي قتله أخوه ست Seth وصل إلى شاطئ جبيل، إلى أن وجدته إيزيس Isis وأعادت إليه روحه وعادت به إلى مصر. وهي الأسطورة التي تتحدث عن الصراع بين الخير والشر والتي لها ما يشابهها في أسطورة بعل وموت في أُغاريت[ر] الكنعانية. وكان المصريون يستوردون الخشب من المدن الكنعانية منذ أواخر الألف الرابع قبل الميلاد، وكانت مدينة جبيل التي يسميها الإغريق بيبلوس Byblos الميناء المفضل عند المصريين، حيث كانت لهم فيها جالية كبيرة من التجار يقيمون فيها إقامة دائمة. وقد أكدت قصة سنوحي المصرية التي تحكي عن حياة طبيب مصري لجأ إلى فينيقية (نحو عام 1962 ق.م) العلاقات الطيبة بين المصريين والكنعانيين، كما أكد ذلك كثير من اللقى المصرية التي عثر عليها في سورية وفينيقية خاصة، ولاسيما في جبيل وأُغاريت، يعود تاريخها إلى عصر الدولة الوسطى في مصر.
وقد تغيرت هذه العلاقات السلمية بين الطرفين بعد جلاء الهكسوس عن مصر، إذ قرر المصريون السيطرة على سورية بكاملها، بما فيها المدن الكنعانية الساحلية، منذ وصول الملك أحمس إلى عرش مصر (نحو عام 1560ق.م). ونفذ هذه السياسة بكل حزم الفرعون تحوتمس الثالث (1468-1436ق.م). واعترف حكام المدن الكنعانية بالسيادة المصرية حينئذ، ولكنهم كانوا يتمتعون باستقلال ذاتي مقابل دفع الجزية المقررة.
واستمر نفوذ مصر في هذه المنطقة، إلى أن داهم غزاة شعوب البحر القادمة من جهات بحر إيجة وآسيا الصغرى والساحل السوري، ووصلوا إلى مصر التي صدتهم في نحوا عام 1175ق.م تقريباً، وعندما توقف تيار شعوب البحر برزت المدن الفينيقية من جديد. وعاد التجار الكنعانيون (الفينيقيون) بحارة البحر المتوسط، وقد أطلق عليهم المؤرخ اليوناني هيرودوت لقب «شعب الملاحة الشهير». ولكن سورية ومنها الساحل السوري تعرضت لغزو جديد من آشور[ر] منذ بداية القرن الحادي عشر قبل الميلاد، وصار ملوكهم يظهرون مراراً لجبي الجزية من المدن الكنعانية، وللحصول على خشب الأرز من الجبال المجاورة.
كانت جبيل من أشهر المدن الكنعانية وسماها المصريون كوبنا، ودعتها الوثائق الرافدية جوبلا، واليونانية بيبلوس. وللاسم الكنعاني صلة بالجبل من حيث المعنى. واشتهر من حكامها الملك أحيرام صاحب التابوت الحجري المشهور بقدم كتابته الألفبائية التي يعود تاريخها إلى نهاية القرن الحادي عشر، كما اشتهر ابنه أبي بعل (نحو 940ق.م). وبقي حكام جبيل مخلصين للمصريين الذين استمروا يرسلون تجارهم ويحتفظون بجالية لهم في المدينة.
وتزعمت صيدا المدن الأخرى مدة من الزمن، ولاسيما في القرنين الثاني عشر والحادي عشر، ثم خلفتها صور. ويؤكد أهمية صيدا إطلاق الشاعر اليوناني هوميروس تسمية «الصيداويين» على كل الفينيقيين، وكانت تشارك جيرانها في التصدي للهيمنة الآشورية، وتدفع للآشوريين الجزية عندما يفشل التمرد أسوة ببقية المدن الكنعانية.
تقوم مدينة صور القديمة على جبل صغير لا يبعد كثيراً عن الساحل، ومنه اشتق الكنعانيون اسمها الذي يعني «الجبل، الصخرة الكبيرة»، وقد دعاها اليونان تيروس Tyros، كما دعوا صيدا Sidon. واشتهر من ملوك صور أحيرام الأول (نحو 969-936) الذي استطاع أن يحولها إلى مملكة ذات شأن في تاريخ الكنعانيين والبحر المتوسط، وجعلها قلعة حصينة، صمدت أمام حصار بابلي في عهد الملك نبوخذ نصر الثاني (605-562ق.م) ثلاثة عشر عاماً. ولم يستطع الإسكندر المقدوني[ر] فتحها إلاّ بعد حصار دام سبعة شهور، ويذكر كتاب العهد القديم صلات صور التجارية مع العالم القديم (سفر حزقيال الإصحاح 27)، وعلاقة ملكها أحيرام الوثيقة بالملك سليمان الذي ساعده على بناء الهيكل بتزويده بخشب الأرز وبالبنّائين المهرة، كما وضع تحت تصرفه الملاحين الذين أوصلوا سفنه إلى أوفير (لعلها اليمن) لجلب الذهب وخشب الصندل والحجارة الكريمة. وتروي أسطورة محلية أن أحد خلفاء ملك صور، إتّو بعل، وهو بجماليون، فرت أخته، واسمها إليسار، من صور لأنه طمع بثروة زوجها فقتله، وأبحرت إلى قبرص ومنها إلى المنطقة التي قامت فيها مدينة قرطاجة Cartago (في تونس اليوم)، وأسست بذلك مستعمرة كنعانية في شمالي إفريقيا، ما لبثت أن بزت المدينة الأم صور. وقرطاجة تدعى بالكنعانية «قرت حدش»، أي المدينة الحديثة. ويعتقد أن تأسيسها كان نحو عام 814ق.م، ثم صارت قرطاجة دولة بحرية عظيمة في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، وشمل نفوذها الجزء الغربي من البحر المتوسط، كما احتلت جنوبي شبه جزيرة إيبريا حيث تقوم اليوم إسبانيا والبرتغال. وعندما ظهرت روما وأرادت منافستها على السيادة البحرية نشبت حروب طويلة بينهما انتهت بدمار قرطاجة في الحرب البونية الثالثة (149-146ق.م). وقد استطاع أحد قادة قرطاجة وهو هانيبال المشهور (بالكنعانية: حن بعل) أن يقترب من روما بجيشه الذي انطلق به من شرقي إسبانيا وعبر جبال البيرينه والألب، ثم انحدر به إلى العاصمة الرومانية لتحقيق النصر، إلاّ أن الأقدار لم تحالفه على الرغم من انتصاراته المتتالية على الرومان. وكان لقرطاجة فضل في إنشاء المستوطنات والمحطات التجارية في مناطق نفوذها الواسع على ساحل إيبريا، وكانت قرطاجنة Cartagena أشهرها.
الحضارة الكنعانية: كان لكل مدينة كنعانية إله خاص يسمى «بعل» أو إلهة تدعى «بعلة» فكان يقال «بعل صيدا»، و«بعلة جبيل». وهي آلهة تدل على الخصب وتختص بالمطر وإرواء الأرض الزراعية (البعلية)، وقد سمى اليونان هذا الإله أدونيس اشتقاقاً من كلمة «أدون» الكنعانية التي تعني «الرب، السيد». وأطلق أهل صور على إلههم اسم ملك، ومنه الاسم ملقرت، أي ملك المدينة، كما عبدوا إله الشفاء إشمون، والربة عشتارت.
وكان للكنعانيين لهجة خاصة تمثل أحد فروع اللغات السامية[ر] التي تجمعها واللغة العبرية والأُغاريتية والمؤابية والأدومية قرابة واضحة. وقد كتب الكنعانيون في البداية كتابة تصويرية خاصة بهم، ثم اخترعوا كتابة ألفبائية في أُغاريت[ر]، ذات شكل مسماري، وكتابة ألفبائية أخرى في جبيل، دعيت باسم «الكتابة الفينيقية». وقد صارت هذه أم كتابات العالم المعروفة اليوم جميعها، بعد أن أخذها الإغريق وتبنّوها، وأخذها الرومان عنهم، وظهرت الكتابة اللاتينية عندهم، والتي انتشرت بوساطتهم في أوربا والعالم الغربي.
اعتمد الفينيقيون على التجارة البحرية في معيشتهم، وبنوا السفن بأنفسهم وبرعوا بذلك براعتهم في قيادتها، وكانت أشجار الأرز والصنوبر والسرو التي تغطي الجبال المجاورة توفر لهم المادة الأساسية لذلك. وكانوا كذلك يبنون السفن لغيرهم، ويعملون وسطاء تجاريين، وملاحين لحساب جيرانهم والشعوب المختلفة في حوض البحر المتوسط، ويستغلون موقع بلادهم على طرق المواصلات والتجارة، الواصلة بين مصر وبلاد الأناضول وبين بلاد الرافدين والعالم الإيجي، كما كانوا بارعين في صناعة الزجاج الذي توافرت مادته الأساسية في رمال الساحل، وفي صناعة الأنسجة الصوفية التي كانوا يصبغونها باللون الأرجواني. ولم يهمل الكنعانيون زراعة أراضيهم على ضيق مساحتها، واعتمادها على الأمطار غالباً، وقد ألهمهم هذا في تأليف أساطيرهم، وفي مقدمتها أسطورة «بعل» التي تمثل الصراع بين الخير والشر، والصراع الدائم بين الخصب والقحط، إذ كان موت بعل وهو إله المطر والصواعق، يعني انحباس المطر وانتشار الجفاف، وعودته إلى الحياة تعني عودة الخصب وكثرة الغلال والمحاصيل, والقضاء على قوى الشر وانتصار الخير.
أحمد هبو