من دفتر الأيام / حيدر حيدر في المغرب
**********************
كان ذلك في شباط ( فبراير ) من سنة 1980 ، أخبرني الصديق الروائي والناقد نبيل سليمان ان الروائي حيدر حيدر سيرافقه في زيارته آنئذ إلى المغرب ( إقامتي كانت في الدار البيضاء ، وكنت إلى جانب التدريس اراسل صحفاً بيروتية وأتابع تحصيلي الجامعي العالي ) . كانت علاقتي بالاديب حيدر قد اقتصرت على بضع لقاءات بيروتية في بيت الصديق سليمان صبح صاحب دار ابن رشد وفي بيته أيضاً . استقبلتهما في مطار الدار البيضاء وبرفقتي الصديق اليومي الاديب شغموم الميلودي رئيس فرع اتحاد كتاب المغرب بالمدينة . تمنى علي الصديق المزمن نبيل سليمان ان أخص حيدر حيدر ( اسمحوا لي ان أتخفف من السوابق واللواحق مع حفظ الألقاب ) بحفاوة زائدة حتى تتوطد الألفة وتزهر المودة .
في بيتي بالبيضاء شربنا ..غنينا..دبكنا ، عدل حيدر عن فكرة "الفندق" لنبقى معاً وهو المطلوب .
في اليوم التالي هيأت لهما لقاء بالصديق الروائي محمد زفزاف ، ثم بالصديقة الروائية خناتة بنونه ، وفي يوم آخر هيأ لهما شغموم لقاء بالقاص أحمد بوزفور وأخبرهما ان الأديب الدكتور محمد برادة رئيس اتحاد كتاب المغرب قرر ان تأخذ الجولة التي ستشمل -- بعد تداول الرأي --( الرباط/فاس /مراكش) طابع " دعوة رسمية"من الاتحاد ( للإنصاف والتاريخ : كانت رواية حيدر حيدر " وليمة لأعشاب البحر" في رأس قائمة الروايات التي يحتفي بها د.برادة و
" طلبته " في قسم الدراسات العليا ) .
في الرباط كان اللقاء الاول للضيفين بالدكتور برادة وعلى مائدته وفي منزله وبكياسته المعهودة ، وبحضور زوجته السيدة ليلى ( سفيرة فلسطين في باريس -- فيما بعد -- ) ، أما بالنسبة لي فكنت أعرف د. برادة جيداً ، وقد سبق لي ان أجريت معه لقاء مطولاً نشر في مجلة " المصباح" البيروتية قبل ذلك بزمن .
في اليوم التالي كنا في فاس ، زرنا معالم المدينة نهاراً ، وكانت السهرة في بيت الروائي عز الدين التازي ( رئيس فرع اتحاد كتاب المغرب بالمدينة ) . تشعب الحديث وتفرع ، مر على علاقة الأدب بالأيديولوجيا ( وكان الاديب نبيل سليمان مع الناقد والمفكر بوعلي ياسين قد أصدرا كتابهما المشترك حول ذلك ، والكتاب كما يرى البعض تضمن أحكاماً تصنيفية جائرة شملت بعض المبدعين ومن هؤلاء الروائي حيدر نفسه) . احتدم النقاش بين الأديبين الضيفين حيدر ونبيل ، وكان شغموم الميلودي " محراك التنور " يقلب الجمر أدبياً كلما حاولت أن استعين بالجو البارد لإطفائه .
في اليوم التالي كانت وجهتنا مراكش ، وقد استطاع ندف الثلج وبياض ماحولنا في منطقة إفران (لملك المغرب قصر شهير هناك ) ، والبحيرة التي يشاطئها السحر ، وغابات الصنوبر والأرز في مرتفعات الاطلس الاوسط أن تكلل النفوس بالبياض على الرغم من "حرب " الثلج التي اتت على غيرها ، وربما بسببها أيضاً .
كانت منعطفات جرود الأطلس تنحدر بنا نزولاً بالقرب من مدينة خنيفرة ( منتصف المسافة نحو مراكش ) ؛ على يسارنا تخوم المرتفعات وعلى يميننا الوديان . في منعطف من تلك المنعطفات كانت شاحنة كبيرة " تحتل" الطريق لتستطيع الالتفاف صعوداً. حدث ماحدث . كنت أقود السيارة وبجانبي حيدر حيدر وكان نبيل سليمان وشغموم الميلودي في المقعد الخلفي . الانزلاق فالاصطدام... جروح ورضوض وزجاج مكسر أصاب وجه حيدر كما أصاب جبيني ، وانهمر الأحمر ليغطي فرحنا وضحكاتنا "والقفشات " الأدبية التي رافقتنا . نبيل انكسرت رجله وكفه ، شغموم نالته بعض الرضوض ؛ في مشفى خنيفرة لقينا عناية جيدة ( كان د. برادة يتصل يومياً ) ، على انهم وضعونا في قسم النساء / جناح التوليد ، وقد أخبرنا طبيب وممرض -- من المعارضة -- بضرورة الحذر لأننا تحت مراقبة وحضور فروع الأمن ( سوريان ، نبيل وأنا ، -- وسورية عند المخزن بلد انقلابات -- .
أما حيدر " السوري " فقد دخل المغرب بجواز سفر من حكومة اليمن الجنوبي ، والمغرب لايعترف بها ، لكن السفير المغربي ببيروت ، عبر منظمة التحرير ، أعطاه الموافقة -- واليمن بلد احمر آنئذ -- . وشغموم " المغربي" من حزب معارض : يالها من " خلية " خطيرة ! وأين ؟. في جبال الأطلس ! . على أن الأمن هو الأمن ، هنا وهناك وهنالك ، ومن مهامه ، إرضاء للسلطة ، مراقبة الثقافة والتضييق عليها ) .
الوضع التراجيدي الذي آلت إليه أمورنا ( رضوض ، جروح ، كسور ، رحلة مبتورة ، سيارة
محطمة ... الخ ) صمد في تلك الليلة ، لكننا بعد الاطمئنان على سلامة أوضاعنا وبإسهام أساسي من "المكسور" نبيل أخذنا نتحرر من الحالة المأساوية لتحل محلها حالة درامية حيناً وكوميدية غالباً . ولعل جناح التوليد وأصوات الولادات قد فتح الباب على النكتة والقفشات التي استمرت بلا انقطاع طيلة الأيام التي قضيناها هناك حتى ليخيل للمرء أننا نسينا مانحن فيه او كدنا ننساه .
عدنا الى الدارالبيضاء بعد ذلك ، وجاء لزيارة المجاريح والمكاسير اصدقاء وصديقات، أدباء ومعارف ، تشكيليون ومسرحيون ، صحفيون وشخصيات عامة . وكانت سيارة الأمن لاتفارق
" زنقتنا" او حركتنا ابداً . وقد سميناها " مفرزة الحراسة" . وللحق لم يبدر منهم مايسئ .
بعد أيام ودعنا الصديق حيدر حيدر عائداً إلى بيروت ، وبقي الصديق نبيل سليمان حتى استطاعت ساقه أن تحمله الى باريس .
ثمة تفاصيل كثيرة تجاوزتها ، وقد حضرتني إلى جانب مارويته عندما بلغني نبأ رحيل الكبير
حيدر حيدر ، وأخيراً :
لئن غادرنا الكبير بجسده قبل أسابيع فإن سيل الذكريات لاينقطع ، والأهم القول إن أدبه الخالد نافذة مفتوحة الآفاق على العالم والكون والغد الإنساني . لقد ترجل الفارس ، لكن أدبه امتطى براقه نحو الأعالي التي لاتفنى .
تعليق