المسرح في سورية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • المسرح في سورية

    المسرح في سورية

    المسرح ظاهرة فنية مركبة، لا تتحقق كنتاج بصري - سمعي إلاّ في عمل جماعي تتضافر عبره جهود مجموعة من البشر، منسجمة أو متقاربة في مشاربها وتوجهاتها الفنية والفكرية، ولا يتخلق العرض المسرحي إلاّ على قاعدة اقتصادية توفر أكلافه قبل أن يلتقي بالجمهور الذي يشكل الطرف الآخر في هذه المعادلة الثنائية. وقد أثبت التاريخ منذ البدايات أن المسرح لا ينهض ويزدهر إلاّ عندما يمر المجتمع بمنعطف حاسم في تطوره، يوطد أركانه وطنياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، مما يتيح للحركة الثقافية بعامة أن تنفتح، ومنها المسرح.
    أما بصدد المسرح العربي الذي بدأ في شكله الحديث المستورد من أوربا مع عرض مسرحية «البخيل» لمارون النقاش [ر] في منزله ببيروت عام 1848، فقد كانت انطلاقته امتداداً لأفكار عصر النهضة العربية، التي حملتها البرجوازية المدينية الناشئة على أكتاف مثقفيها، ممن احتكوا بالغرب وأتقنوا لغاته، أو بالآستانة العثمانية المهيمنة. هذا إلى جانب امتلاك هؤلاء المثقفين معرفة واسعة بتراث ولغة وطنهم, ووعياً كافياً بضرورات المرحلة التي يمر بها على مستوى الثقافة التنويرية. إلا أن مبادرات هؤلاء المثقفين لإيجاد المسرح على مستوى الإعداد والتأليف والترجمة والعرض كانت فردية ومتباعدة لأسباب عدة، منها ظروف الهيمنة العثمانية وسياسة التتريك المعادية لأي توجه عروبي، إلى جانب الرجعية الدينية آنئذ المناهضة لحركة التنوير، وما حدث مع أبي خليل القباني [ر] في دمشق خير دليل على ذلك. وعلى الصعيد العملي المادي, لم تتوافر شروط تضافر أو استمرارية هذه المبادرات، إذ لم تكن هناك دور عرض مسرحي أو ممثلون وفنيون كي يتحقق للعرض المسرحي المبتغى شرطه الفني اللائق الذي كان سيشكل عنصر الجذب نحو هذا الشكل الفني الجديد الطارئ الذي لم يألفه جمهورنا ولم يتقبله آنئذ.
    لقد أبرز النصف الثاني من القرن التاسع عشر في بيروت ودمشق عدداً من المسرحيين الرواد الذين تولعوا بالمسرح وشغفوا بدوره الاجتماعي الفني الفكري، فكرسوا له حيزاً كبيراً من وقتهم، لكنهم لم يحترفوه، لاستحالة ذلك اقتصادياً. من هؤلاء مارون ونقولا وسليم النقاش, وأديب إسحاق, ويوسف خياط, وأحمد أبو خليل القباني, وجورج دخول, وسليمان القرداحي. وإن تمكن أحد هؤلاء من تشكيل فرقة مسرحية أو الانتماء إلى أحدها, فقد كانت عروضهم تقدم لليلة أو اثنتين في الأندية أو الجمعيات أو المدارس أو حتى في الخانات. ونظراً لجملة هذه الظروف الخانقة في بيروت ودمشق، وتوافر جو مختلف اجتماعياً وسياسياً في مصر, في عهد الخديوي إسماعيل, هاجر معظم المسرحيين الشاميين إلى الاسكندرية والقاهرة, وأسسوا مع من لحق بهم فيما بعد, ومع المسرحيين المصريين الحركة المسرحية العربية التي انعكس شعاعها على الوطن العربي في جميع بلدانه من خلال الجولات التي قامت بها الفرق المسرحية المحترفة، مثل فرقة الشيخ سلامة حجازي, وفرقة جورج أبيض, وفرقة فاطمة رشدي، وفرقة رمسيس, وفرقة سليمان القرداحي، معتمدة في عروضها على نصوص مؤلفة أو مقتبسة أو مترجمة. إلاّ أن التأليف كان يشغل الحيز الأكبر من عروض هذه الفرق، كمسرحيات فرح أنطون, وإبراهيم رمزي, ومحمود تيمور, واسكندر فرح، إلى جانب القباني, وإسماعيل عاصم على صعيد المسرح الغنائي أو الأوبريت التي بلغت ذروة ألقها مع موسيقى سيد درويش.
    ثمة وجوه للتشابه وأخرى للاختلاف بين المسرح السوري خلال العقود الستة الأولى من القرن العشرين, وبين المسارح العربية الأخرى، ولاسيما في لبنان. فبسبب قرار السلطان العثماني الذي كاد أن يخنق العمل المسرحي, والذي أدى إلى هجرة فرقة أبي خليل القباني إلى مصر عام 1884، كانت الفرق المسرحية تتشكل في دمشق وتغادر, بعد عرض واحد أو اثنين, إلى مصر ابتغاء لحرية العمل، وكانت تطلق على نفسها تسمية (جوق) من أجل اجتذاب الجمهور إليها. فقد كانت تقدم الهزل والفصول الفكاهية إلى جانب غناء الطرب والرقص الشرقي. وكان معظمها من تلامذة مدرسة القباني، مثل فرقة اسكندر فرح التي انضم إليها الشيخ سلامة حجازي [ر]، والجوق الدمشقي برئاسة نقولا مصابني, والجوق السوري الجديد برئاسة يوسف شكري, وجوق حبيب الياس, وجوق جورج دخول، مما أدى إلى تطوير واتساع رقعة العمل المسرحي في مصر. ولكن سرعان ما انقلبت الآية بين الحربين العالميتين، إذ زار المدن السورية ما يزيد على ثلاثين فرقة مسرحية واستعراضية غنائية قدمت عروضها في مسرح القوتلي, وزهرة دمشق, وقصر البللور, والإصلاح خانة, والعباسية, والروضة, والفرح, والهبرا, والرويال, واللونا بارك, والأزبكية وغيرها، إلى جانب دور العرض السينمائي، مثلما هو الحال حتى الآن. وقد بقي المسرح السوري حتى الثورة السورية الكبرى أسير تقاليد المدرسة الشامية من حيث هيمنة الجانب الموسيقي الغنائي على الجانب الدرامي الضعيف, على صعيد البنية، ولاسيما في مدينة حمص.
    إن البداية الثانية للمسرح السوري بعد القباني ترتبط باسم عبد الوهاب أبو السعود [ر] الذي أسس فرقته في دمشق عام 1912 وكان ممثلاً ومخرجاً وكاتباً في الوقت نفسه. وإلى جانبه برز اسم معروف الأرناؤوط كاتباً ومقتبساً ومترجماً، ومسرحيته الشهيرة «جمال باشا السفاح» (1919) هي التي رفعت أبا السعود إلى مصاف الشهرة، بالدوي الذي أحدثته حين عرضها في دمشق. وهو كغيره من مترجمي المسرح آنذاك, كان يتصرف بالنصوص وفق ذوقه وطبيعة الجمهور. وعلى صعيد التأليف كانت النصوص في تلك المرحلة تستقي موضوعاتها من التراث العربي والإسلامي, ومن الأدب الشعبي، تماماً كما كان الحال في لبنان ومصر. وبين الحربين العالميتين, عادت الفرق المسرحية للظهور بكثرة، على شكل أندية فنية وجمعيات خيرية وفي المدارس، في دمشق وحمص وحلب واللاذقية والقامشلي، ونشطت معها حركة التأليف المسرحي الذي اتخذ طابعاً سياسياً وطنياً ضد الأتراك, ثم ضد الفرنسيين. فبرزت أسماء أمين الكيلاني الحموي, ومحمد خالد الشلبي الحمصي, وعمر أبو ريشة, وسعيد تقي الدين, وداوود قسطنطين الخوري, وعبد الرحمن أبو قوس, ورضا صافي, ووصفي المالح, ومراد السباعي, وبهيج غاتا, وفؤاد سليم, وعبد الرحيم الغزاوي. كان المخرج آنذاك يضطلع بالمهام المرتبطة بتحقيق العرض كافة، من تدريب الممثلين وحتى توجيه الدعوات. ورغم توافر عدد كبير من الممثلين بقيت مشكلة العنصر النسائي قائمة حتى أواخر الخمسينات، إلاّ فيما ندر، ولهذا كان الشباب اليافعون يؤدون الأدوار النسائية من دون أي حرج، إذ كان هذا الوضع رائجاً ومقبولاً اجتماعياً في وسط جمهور المسرح. وغالباً ما كان المؤلفون هم المخرجون ومدراء الفرق في آن معاً.
    توقف النشاط المسرحي في أثناء الثورة السورية الكبرى، وعاد عقب انتهائها 1928، مع جيل جديد من الشباب يحمل عن المسرح مفاهيم وغايات جديدة، فاختلف عمله وتوجهه عن المسرح السابق، واتسم بالواقعية في الأداء والإلقاء والديكور في أكثر المدن السورية، ولاقى إقبالاً جماهيرياً كبيراً، مما أدى إلى انتشار التمثيل في المدارس الأهلية والرسمية والأجنبية. كما توسعت الجمعيات النسائية في نشاطها الفني فشملت التمثيل المسرحي، كما كانت اللغة العربية الفصحى معتمدةً في جميع عروض المسرح الجاد. إلاّ أن السمة التي طغت على التوجه الجديد هي ابتعاده عن المواجهة السياسية، إلاّ في حلب. وهذا يعني أن التوجه الاجتماعي الناقد طغى على حركة التأليف والترجمة، إلى جانب المسرحيات التاريخية والشعبية. وفي هذه المرحلة أيضاً ظهر المسرح التجاري كنقيض ساخر للمسرح الجاد، وشاع تحديداً في العاصمة كرافد للتسلية الرخيصة، وكثرت فرقه وتنوعت حتى طغت على المسرح الجاد. ومع ذلك فقد استطاع مسرح عبد اللطيف فتحي ومسرح محمود جبر استغلال المسرح التجاري بتقديمه من وراء الكوميديا أعمالاً هادفة مثل مسرحية «صابر أفندي» لحكمت محسن, ومسرحية «مدير بالوكالة» لمحمود جبر.
    بقي المسرح السوري على هذه الحال حتى تأسيس «ندوة الفكر والفن» (1959) بإشراف د. رفيق الصبان العائد حديثاً من فرنسا، والتي ضمت أهم وجوه الفن والثقافة في دمشق وقتذاك. وفي عام 1960 تأسست فرقة المسرح القومي التابعة لوزارة الثقافة، وضمت معظم العاملين في الفرق الخاصة والأندية والجمعيات، ومنهم أهم نجوم الكوميديا مثل عبد اللطيف فتحي [ر] وسعد الدين بقدونس. ثم اندمجت «ندوة الفكر والفن» عام 1963 مع فرقة المسرح القومي الرسمية، فتشكلت بذلك نواة النهوض المسرحي الجديد الموجه ثقافياً والمموّل رسمياً. وفي أثناء الستينات والسبعينات اغتنى المسرح القومي بعدد هام من المخرجين والممثلين والممثلات كذلك، إضافة إلى الفنيين، وقدم في مواسمه عدداً كبيراً من النصوص العالمية والعربية والسورية، بالفصحى، التي دامت لغة المسرح القومي الوحيدة حتى أواخر الثمانينات.
    في البداية, اعتمد المسرح القومي على المخرجين رفيق الصبان, ونهاد قلعي [ر], وهاني صنوبر، ثم قدم إليه علي عقلة عرسان, وأسعد فضة, وخضر الشعار, ومحمد الطيب الذين درسوا المسرح في القاهرة. وتلاهم العائدون من شرق وغرب أوربا، مثل: حسين إدلبي, ويوسف حرب, وفردوس أتاسي, وحسن عويتي, وتوفيق المؤذن, وفواز الساجر, وشريف شاكر وغيرهم، كما انضم إلى العمل الإخراجي كل من سليم صبري, وسليم قطاية, وفيصل الياسري, وشريف خزندار. وبهذا كان المسرح القومي بمثابة البوتقة التي انصهرت فيها خبرات وتيارات المسرح العالمي من الشرق والغرب، إلى جانب التجربة المحلية والعربية، على مستوى الإخراج والتمثيل والتأليف والسينوغرافيا. وبعد سبع سنوات, تأسس مسرح حلب القومي الذي ضم خيرة ممثلي وممثلات حلب مع قلة من المخرجين المتفرغين، مثل: بشار القاضي, وحسين إدلبي, وكريكور كلش, وفواز الساجر الذي أسس بعدئذ في دمشق مع سعد الله ونوس [ر] «المسرح التجريبي» عام 1976، أي في العام نفسه الذي استقبل فيه المعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق أول دفعة من طلبته في قسم التمثيل، وهو نفس العام الذي تأسست فيه مجلة «الحياة المسرحية» في وزارة الثقافة بإشراف الكاتب ونوس والناقد نبيل الحفار.
    كان لهزيمة حزيران 1967 أكبر الأثر في توجه وتطور المسرح السوري. فالأسئلة المقلقة التي طرحتها الهزيمة على الصعد كافة، كان لا بد للمثقفين من إيجاد أجوبة لها. ولما كان المسرح المكان الأنسب لطرح الأسئلة وتلقي ردود الأفعال من خلال اللقاء المباشر بين الخشبة والصالة، فقد تحول خلال مدة قصيرة إلى بؤرة للعمل السياسي الثقافي، رفده شعراء وقصاصون، فبرزت آنذاك مسرحيات سعد الله ونوس, ومحمد الماغوط, وعلي عقلة عرسان, وفرحان بلبل, ووليد إخلاصي, ومصطفى الحلاج, ورياض عصمت, وممدوح عدوان وغيرهم، إلى جانب المسرحيات العربية الصادرة عن الأجواء والقضايا نفسها. وقد تجلى هذا التفاعل منذ الدورة الأولى «لمهرجان دمشق المسرحي» عام 1969، سواء على مستوى العروض ومناقشاتها الحارة مع الجمهور الذي تبدى من وراء مسرح الشوك لعمر حجو ودريد لحام ونهاد قلعي, أو على مستوى الندوات الفكرية المرافقة، لا سيما منها ما طرح قضية «المسرح السياسي ومسرح التسييس» و «هوية المسرح العربي» و «العلاقة مع الجمهور». وظهرت منذ مطلع سبعينات القرن العشرين حركة المسرح العمالي والجامعي والشبيبي التي تشكلت من الهواة المندفعين إلى العمل المسرحي للتعبير عن مواقفهم الفنية والفكرية التي جاءت في أحيان كثيرة أشد جرأة ومصداقية من عروض المسرح القومي، لا سيما وأن كثيراً من المخرجين المحترفين قد تعاونوا مع هؤلاء الهواة ووجّهوهم.
    وكان منذ سبعينات القرن العشرين بحث دائب عن سبل تعبير فنية وفكرية تتلاءم مع القضايا الجديدة المؤرقة، ومن هنا جاء استلهام وتجريب كل ما عرفه الكتّاب والمخرجون على الساحة المسرحية شرقاً وغرباً، بدءاً بمايرخولد, وبرشت وانتهاء بغروتوفسكي, ومنوشكين، إلى جانب محاولات استلهام الظواهر المسرحية في التراث العربي بغية الوصول إلى هوية مميزة للمسرح العربي، مما أدى إلى تخبط وعشوائية في العمل المسرحي أبعده عن أهدافه الاجتماعية الحقيقية، أي بناء وعي جديد لدى المتلقي بشرطه التاريخي، لكي يتمكن من استيعاب ظروف واقعه سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وتجاوزها عبر العمل على تغييرها بما ينسجم مع المستقبل المنشود.
    وفي خلال هذه المرحلة عاد المسرح التجاري المحترف إلى نشاطه السابق, واستقطب فئات معينة من الجمهور المحلي والطارىء بزعمه معالجة قضايا اجتماعية وسياسية بحدة لا يجرؤ عليها المسرح الرسمي مثل مسرح (دبابيس) للأخوة قنوع، إلا أن دبابيسه النقدية لم تكن في واقع الأمر أكثر من وخزات تنفيسية. أما الوجه الآخر للمسرح الخاص فقد تجلى في تجربة «فرقة تشرين» التي جمعت الشاعر والمسرحي محمد الماغوط مع النجم الكوميدي دريد لحام والتي امتدت من منتصف السبعينات وحتى مطلع التسعينات من القرن العشرين.
    ونتيجة للتحولات السياسية الاجتماعية والضائقة الاقتصادية التي حلت بالمنطقة منذ منتصف الثمانينات، ومع صعود الدراما التلفزيونية السورية، تراجع دور المسرح، وانكمش جمهوره، وتحول عدد كبير من الممثلين والمخرجين والكتاب عن المسرح إلى التلفزيون الذي جلب الرخاء المادي السريع, والشهرة الواسعة على المستوى العربي. غير أن الدور الذي ظل يلعبه المسرح القومي والمعهد العالي للفنون المسرحية, التابعان لوزارة الثقافة, استطاعا أن يعيدا من خلال ما قدماه من عروض مسرحية عالمية وعربية ومحلية على مسارح دار الأسد للثقافة وقصر المؤتمرات ومسرح الحمراء الحياة المسرحية التي كبت بعض الشيء في ثمانينات القرن العشرين إلى سابق عهدها وبعض تألقها الذي عرفته في ستينات وسبعينات القرن العشرين منذ أواخر القرن المذكور. وكذلك قامت دار النشر ومجلة الحياة المسرحية التابعتان لوزارة الثقافة بدور مماثل في تنشيط حركة التأليف المسرحي وتنشيط الحركة المسرحية الدؤوبة ثقافياً وفكرياً.
    نبيل الحفار

يعمل...
X