نيتشه والحلقة المفرغة" يكشف تخبط الفيلسوف في فكرة العود الأبدي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • نيتشه والحلقة المفرغة" يكشف تخبط الفيلسوف في فكرة العود الأبدي



    اضغط على الصورة لعرض أكبر. 

الإسم:	IMG_٢٠٢٣٠٦٠٧_١٦٠٢٤٣.jpg 
مشاهدات:	8 
الحجم:	94.1 كيلوبايت 
الهوية:	119687
    مارلين كنعان
    في عام 1969 نشر المفكر والروائي الفرنسي بيار كلوسوفسكي (1905-2001) لدى دار "مركور دو فرانس" في باريس، دراسةً مهداة إلى جيل دولوز تناول فيها فكر الفيلسوف الألماني فريدريش نيتشه (1844-1900) بعنوان "نيتشه والحلقة المفرغة". وبعد أكثر من ثلاثة وخمسين عاماً على نشر الكتاب، أصدرت دار "صفحة سبعة للنشر" ترجمةً عربية لهذه الدراسة القيمة وقعها الكاتب والشاعر التونسي صلاح بن عياد. ولا بد في البداية من الإشارة إلى صعوبة نقل النص الفلسفي إلى لغة الضاد. فهو يتطلب جهداً لغوياً كبيراً لنقل المضمون الفكري، إذ إن المعرب الذي يفهم الكتاب استناداً إلى لغته الأم، يضطر في كثير من الأحيان إلى ابتكار بناءات فلسفية جديدة. وقد حاول صلاح بن عياد قدر الإمكان نقل مضمون هذا الكتاب بأمانة. غير أن بناءاته اللغوية لم تستقم دوماً لصعوبة التعريب ولصعوبة نقل فكر نيتشه وقراءة كلوسوفسكي له. لكنه قام بجهد كبير في فهم فكري الفيلسوفين وإيجاد المرادفات المرتبطة بالبيئة الثقافية التي انتجت الاصطلاحات الخاصة بهما، علماً أن الاصطلاح الفلسفي هو وليد تاريخ طويل، حين ينقله المعرب يفقده، على ما يقول المفكر مشير باسيل عون "المحضن النشوئي الذي يكسبه من الدلالات والإشارات ما يفوق دلالة العديل أو المقابل العربي.

    أضف إلى ذلك مسألة الحقل الدلالي الأوسع الذي ينسلك فيه الاصطلاح الفلسفي وتطور استخداماته المتشعبة". لكن ترجمة صلاح بن عياد جعلتني أعود إلى قراءة الكتاب بلغته الفرنسية الأصلية لفرادته وتأثيره الواضح على عدد من الفلاسفة والمفكرين الفرنسيين الكبار من أمثال ميشال فوكو، علماً أن الأوساط الجامعية الفرنسية والمتخصصة بفكر نيتشه، لم تول هذا الكتاب حين صدوره ما يستحقه من اهتمام. ويبدو لي أن السبب في ذلك يعود إلى افتقاد الكتاب للترابط والاتساق وإلى هيكليات الدراسات الأكاديمية التقليدية، مما جعل قراءته وترجمته عسيرة بالنسبة لكثيرين. ولعل هذا الافتقاد للترابط يعود إلى فكر نيتشه نفسه. فكلوسوفسكي تخلى قصداً، عن سابق تصور وتصميم، عن الاتساق ليلاصق في كتابه أسلوب الفيلسوف الألماني في تموجه وترجرجه ولمعاته الوهاجة.

    قراءة جديدة
    بيار كلوسوفسكي، صديق موريس بلانشو، هو أحد أبرز الوجوه الثقافية التي عرفتها فرنسا في القرن العشرين. أسس بالتعاون مع جورج باتاي وجورج أمبروزينو مجلة "أسِفال" Acéphale، التي كانت لسان حال جمعية سرية حملت الاسم نفسه، عمل من خلالها على مقاومة الأنظمة السياسية من فاشية ونازية، التي سيطرت على الحكم في بعض دول أوروبا. كما شارك مع أندرِه برُوتون ومجموعة من السورياليين من أمثال بول إليوار، وموريس هاينه، في إطلاق مشروعِ تجمعٍ للمثقفين المعادين للفاشية تحت اسم "هجوم مضاد"، مطلقاً أيضاً مع جورج باتاي، وروجِيه كايوا، وميشِال لَيريس "مجمع السوسيولوجيا"، تلك الجمعية الأدبية التي عملت على دراسة الأشكال المختلفة للمقدس.

    في كتابه "نيتشه الحلقة المفرغة" يقترح بيار كلوسوفسكي قراءةً جديدة لفلسفة نيتشه انطلاقاً من مراسلات الفيلسوف والشذرات التي نُشرت بعد وفاته، من وجهة نظر ارتباطها بحياته ورؤاه وأفكاره وامتدادات تأثيرها في أفكار المفكرين والفلاسفة من بعده. تحاول هذه القراءة، على طريقتها، إعادة بناء حياة نيتشه بزخمها الفلسفي منذ عام 1881 حتى آخر أيام حياته عام 1889 قبل أن ينهكه الجنون المبكر، أي منذ أن جاءته فكرة "العود الأبدي" فجأةً أثناء تنزهه في يوم من أيام شهر أغسطس (آب) على ضفاف بحيرة سيلس ماريا السويسرية. وقد أشار نيتشه إلى هذه الرؤيا في القسم الثالث من كتابه "هكذا تكلم زرادشت" وفي شذرة من شذرات "العلم الجزل". وبغية فهم هذه الفلسفة وهذا الاختبار الذي يجعل من الحياة حلقةً مفرغة، يستشهد كلوسوفسكي بمقاطع طويلة واقتباسات عدة من شذرات الفيلسوف الألماني ورسائله من دون أن يشير البتة إلى مصادر استشهاداته، متجاهلاً كما قلت، أبسط قواعد العمل الأكاديمي، هو الذي ترجم أعمال نيتشه، فضلاً عن "إنياذة" فيرجيل وروايات كافكا وأشعار هُولدرلين وتاريخ سيوتون، وغيرهم من الشعراء والروائيين.
    وضع كلوسوفسكي كتابه "نيتشه الحلقة المفرغة" انطلاقاً من محاضرة عنوانها "النسيان والسوابق المرضية في التجربة المعيشة للعود الأبدي" كان قد ألقاها في مؤتمرٍ تناول فكر نيتشه عقد عام 1964 في دير روايومون شمال باريس. وقد صدر هذا الكتاب بعد خمس سنوات من تاريخ انعقاد المؤتمر، وهو عبارة عن توسع في الموضوع الأساسي الذي عالجه في محاضرته.

    قراءة حرة

    يلفتنا الكتاب أولاً على المستوى الشكلي. ليس فقط على مستوى غياب الهيكلة والمنهجية الأكاديمية كما سبق وأشرت، بل أيضاً على مستوى انتقال كاتبه ما بين مادة المقدمة وفصول الكتاب المختلفة بطريقة مفاجئة تعكس إلى حد بعيد أسلوبه المبهر الذي يحافظ على الوتيرة نفسها على مدى 360 صفحة التي يؤلف مجموعها متن الكتاب. و"نيتشه الحلقة المفرغة" كتابٌ لا يمكن رده إلى مجموعة من التفاسير أو التعليقات التي تتناول فلسفة نيتشه. لعل مساره ومعناه يتبديان منذ جملته الأولى. نقرأ في فاتحته بحسب ترجمتي: "سيكون هذا الكتاب شاهداً على جهل في غاية الندرة: إذ كيف سنتحدث عن "فكر نيتشه" من دون استعراض أو تقييم كل ما قيل عن هذا الفكر منذ تشكله؟ أليس الأمر شبيهاً بأن نجازف بوضع خطواتنا في مسارات قُطِعت قبلاً أكثر من مرة، مقتفين آثاراً محددة سلفاً، ستقودنا بتهورٍ إلى طرح أسئلةٍ سبق لها أن طُرحت، فعفا عليها الزمن؟ أليس هكذا تتجلى لا مبالاتنا بكل التأويلات التي تفحصت وما زالت تتفحص، هذا الفكر بدقة متناهية لتفسيره، كأنها إشارات، تحاول التقاط ومضات الحرارة، التي لم يكف القدر في هذا العصر عن دفعها إلينا؟".

    والسؤال الذي يثير انتباه بيار كلوسوفسكي في مقاربته لفلسفة نيتشه والذي يعود إليه مراراً وتكراراً، هو سؤال العود الأبدي بوصفه تجربة واختباراً معيشاً. والعود الأبدي هو في عرف نيتشه هذه التجربة التي تقول إن كل ما حدث لنا في حياتنا من قبل، وما يحدث الآن، سوف يحدث مرةً أخرى أيضاً، بالطريقة نفسها وإلى الأبد. أي أن نيتشه يشعر بوجود دورات من الحياة المتعاقبة حيث الكون والإنسان يُعاد خلقهما من جديد، وأن الأحداث كلها ستعاود الحدوث تماماً كما حدثت قبلاً، وأن هذه الدورات المتكررة مستمرةٌ إلى الأبد. وهذا يعني أن كل واحدٍ منا سيعيش من جديد الحياة نفسها التي عاشها، وأن الزمن يسير بشكل دائري وليس إلى الأمام. لأن "كل اتجاه على خط مستقيم هو اتجاه كذوب. والحقيقة منحرفة، والزمان نفسه خط مستدير".
    يؤكد بيار كلوسوفسكي أن هذه الفكرة المهمة جداً بالنسبة لنيتشه، هي قبل كل شيء تجربة شخصية معيشة تتأصل في اختبار رؤيوي على غرار اختبار الوحي. فالعود الأبدي لا يأخذ عند الفيلسوف الألماني شكل العقيدة أو الفكرة كما عند الرواقيين. هو أولاً وقبل كل شيء، نشوة شخصية وإحساس نبيل. إنه هذه "النبرة العالية للروح" التي يتحدث عنها نيتشه في كتابه "العلم الجذل" والتي تلمح وفق العبارة الألمانية إلى العود الأبدي. ويقول كلوسوفسكي إن السؤال الذي يُطرح في هذا السياق هو كيف يمكن للمرء جعل هذه "النبرة" والاختبار الرؤيوي الشخصي، قابلين للمشاركة مع الآخر؟ تلك هي المهمة الصعبة التي تحدد بحسبه علاقة نيتشه بمحيطه والآخرين. ويتابع قائلاً إن هذا الاختبار الرؤيوي، بوصفه تجربة فردية معيشة، هو اختبار متناقض للغاية، يعرض هوية الشخص الذي عاشه للخطر. إذ كيف يمكن للفيلسوف الممتلئ كيانياً بهذا الشعورُ بالانتشاء، لكونه سيعود إلى الحياة نفسها دوماً، أن يُخضع ما يشعر به إلى الأداة الكلامية ليكون هذا الاختبار أو الشعور قولاً مقولاً، يترجم هذه الخبرة وفق قواعد المنطق، بغية التعبير عنها والنفاذ من خلالها نحو الآخرين؟
يعمل...
X