مستوفي اربلي
Ibn al-Mustawfi al-Irbali - Ibn al-Mustawfi al-Irbali
ابن المستوفي الإربلي
(564 ـ 637هـ/1168ـ 1239م)
شرف الدين أبو البركات المبارك بن أحمد بن المبارك بن موهوب بن غنيمة ابن غالب اللخمي الإربلي، الوزير العالم والأديب الشاعر. ولد بقلعة إربل، ونشأ في بيت رياسة وفضل وعلم. بدأ التحصيل العلمي على يد والده وعمه، ودفعه أبوه إلى شيوخ إربل والوافدين عليها، فقرأ القرآن الكريم على قراء عصره، وسمع الحديث الشريف من أعلام المحدثين في أيامه، ودرس علوم الحديث وأسماء رجاله، وأَلَمَّ بكل ما يتعلق به، ومال إلى علوم اللغة والأدب، فاشتغل بالنحو والعروض والبلاغة، وحفظ أشعار العرب وأخبارهم وأمثالهم وأيامهم ووقائعهم، وأتقن علم الديوان وضبط قوانينه على الأوضاع المعتبرة آنذاك، حتى صار إماماً في الحديث وعالماً في اللغة والأدب، وأشهر رجال إربل وفضلائها.
عمل ابن المستوفي في الدولة، فأشرف على دار الضيافة في إربل، ثم خلف والده وعمه صفي الدين في الاستيفاء، والاستيفاء في ممالك تلك الأيام وظيفة جليلة، وصاحبها ذو منزلة عظيمة، يأتي بعد الوزير في المكانة والأهمية، وبهذا العمل اشتهر على الرغم من توليه الوزارة لصاحب إربل مظفر الدين كوكبري، صهر صلاح الدين الأيوبي، وقد أتقن عمله في الاستيفاء والوزارة، وحُمدت سيرته فيهما، فظل في الوزارة إلى أن توفي كوكبري، وصار أمر إربل إلى الخليفة العباسي بوصية من كوكبري، فأرسل الخليفة نائباً عنه إلى إربل، وأبعد ابن المستوفي عن الوزارة، فقعد في بيته يفيد ويؤلف، حتى اجتاح المغول مدينة إربل، فاعتصم ابن المستوفي مع من اعتصم في قلعتها. وبعد رحيل المغول عن إربل ارتحل إلى الموصل، وأقام فيها في حرمة وافرة وتكريم ورعاية من حكامها، منقطعا إلى العلم وشؤونه إلى أن توفي.
كان شرف الدين بن المستوفي من محاسن زمانه، رئيسا معظماً، صاحب همة عالية، كثير التواضع، واسع الكرم ممدحاً، ولم يكن في آخر الوقت بإربل مثله في فضائله، نهض بأعباء الدولة وأمور العلم والأدب، ولم يصل إلى إربل فاضل إلا بادر إلى زيارته وإكرامه، واعتنى بأهل الأدب، فقد كانت سوقهم لديه رائجة، وكان بيته مجمع الفضلاء ومقصد ذوي الحاجات، يذاكرهم في العلم ويطارحهم في الشعر ويسد خلتهم ويجبر كسرهم، وكان إلى جانب علمه أديباً كبيراً، له يد طولى في الشعر والنثر، وبصيرة ثاقبة في نقدهما، واشتغل بالتاريخ، فجمع لإربل تاريخاً، ذكر فيه تاريخ المدينة وأحوالها ومن دخلها من العلماء والأدباء والأعيان، وتخرج به خلق كثير في فنون العلم المختلفة، منهم أعلام كابن خلكان صاحب «وفيات الأعيان»، وابن الشعار صاحب «عقود الجمان».
مال ابن المستوفي في أدبه نحو الصنعة البديعية، وخاصة في رسائله التي أنشأها في موضوعات مختلفة، وتبادلها مع أعلام عصره من العلماء والأدباء، فأكثر فيها من الاقتباس والتضمين والإشارات التراثية، وأثقله بفنون البديع، وخاصة الجناس والسجع والموازنة بين الجمل، وأغرم باستخدام الألفاظ الغريبة التي تظهر معرفته باللغة وأسرارها، فاحتاج فهمهما وإدراك مرامي صاحبها المعنوية والأسلوبية إلى ثقافة لغوية كبيرة ومعرفة بطرائق العرب في بناء عباراتهم، وإلمام بضروب الصنعة البديعية.
أما شعره فقد تضمن موضوعات مختلفة مثل المدح والرثاء والوصف والغزل، وغلبت عليه الإخوانيات، لأنه كان يتبادله مع أقرانه من الأدباء والعلماء، واقترب فيه من شعر العلماء المثقل بثقافتهم، واستخدم فيه فنون الصنعة البديعية، وحرص على إيراد النكت المعنوية والتشبيهات المبتكرة وفق المفهوم السائد للشعر في أيامه.
ترك ابن المستوفي مصنفات مختلفة، أهمها كتابه المعروف بتاريخ إربل، وقد سماه «نباهة البلد الخامل بمن ورد عليه في الأماثل»، قيل: إنه في أربعة مجلدات، وصلنا نصفه، فحُقق وطُبع، وهو مصدر مهم لمعرفة أحوال مدينة إربل وما حولها وأعلامها، لأنه تفرّد بذكر أشياء لم ترد إلا فيه. وله كتاب «إهداء الأمراء في تواريخ الشعراء»، ذكر فيه شعراء إربل والشعراء الذين زاروها، وكتاب «النظام في شرح شعر المتنبي وأبي تمام» في عشرة مجلدات، وكتاب «إثبات المحصل في نسبة أبيات المفصل» في مجلدين، شرح فيه الأبيات التي استشهد فيها الزمخشري في كتابه «المفصل»، وكتاب «سر الصنعة» في الأدب، وكتاب «أبو قماش»، جمع فيه آداباً ونوادر وأخباراً طريفة، وله ديوان شعر، وقد جُمع قسم من رسائله وطُبع.
ومن شعره:
يا مَنْ تَغَيَّرتِ الدُّنيا لِبـُــــعْدهُمُ
فكلُّ رحبٍ فسيحٍ ضيقٌ حـــــرِجُ
أستودعُ اللهَ عَيْشَاً مَرَّ لِيْ بِـــكُـمُ
يرتاحُ قلبي لِذِكْرَاهُ ويَبْتَهِـــــجُ
ما راقَنِي بَعْدَكُمٌ شيءٌ سُــرِرْتُ بِهِ
فكلُّ مُسْتَحْسَنٍ في ناظري سَمِـــجُ
محمود سالم محمد
Ibn al-Mustawfi al-Irbali - Ibn al-Mustawfi al-Irbali
ابن المستوفي الإربلي
(564 ـ 637هـ/1168ـ 1239م)
شرف الدين أبو البركات المبارك بن أحمد بن المبارك بن موهوب بن غنيمة ابن غالب اللخمي الإربلي، الوزير العالم والأديب الشاعر. ولد بقلعة إربل، ونشأ في بيت رياسة وفضل وعلم. بدأ التحصيل العلمي على يد والده وعمه، ودفعه أبوه إلى شيوخ إربل والوافدين عليها، فقرأ القرآن الكريم على قراء عصره، وسمع الحديث الشريف من أعلام المحدثين في أيامه، ودرس علوم الحديث وأسماء رجاله، وأَلَمَّ بكل ما يتعلق به، ومال إلى علوم اللغة والأدب، فاشتغل بالنحو والعروض والبلاغة، وحفظ أشعار العرب وأخبارهم وأمثالهم وأيامهم ووقائعهم، وأتقن علم الديوان وضبط قوانينه على الأوضاع المعتبرة آنذاك، حتى صار إماماً في الحديث وعالماً في اللغة والأدب، وأشهر رجال إربل وفضلائها.
عمل ابن المستوفي في الدولة، فأشرف على دار الضيافة في إربل، ثم خلف والده وعمه صفي الدين في الاستيفاء، والاستيفاء في ممالك تلك الأيام وظيفة جليلة، وصاحبها ذو منزلة عظيمة، يأتي بعد الوزير في المكانة والأهمية، وبهذا العمل اشتهر على الرغم من توليه الوزارة لصاحب إربل مظفر الدين كوكبري، صهر صلاح الدين الأيوبي، وقد أتقن عمله في الاستيفاء والوزارة، وحُمدت سيرته فيهما، فظل في الوزارة إلى أن توفي كوكبري، وصار أمر إربل إلى الخليفة العباسي بوصية من كوكبري، فأرسل الخليفة نائباً عنه إلى إربل، وأبعد ابن المستوفي عن الوزارة، فقعد في بيته يفيد ويؤلف، حتى اجتاح المغول مدينة إربل، فاعتصم ابن المستوفي مع من اعتصم في قلعتها. وبعد رحيل المغول عن إربل ارتحل إلى الموصل، وأقام فيها في حرمة وافرة وتكريم ورعاية من حكامها، منقطعا إلى العلم وشؤونه إلى أن توفي.
كان شرف الدين بن المستوفي من محاسن زمانه، رئيسا معظماً، صاحب همة عالية، كثير التواضع، واسع الكرم ممدحاً، ولم يكن في آخر الوقت بإربل مثله في فضائله، نهض بأعباء الدولة وأمور العلم والأدب، ولم يصل إلى إربل فاضل إلا بادر إلى زيارته وإكرامه، واعتنى بأهل الأدب، فقد كانت سوقهم لديه رائجة، وكان بيته مجمع الفضلاء ومقصد ذوي الحاجات، يذاكرهم في العلم ويطارحهم في الشعر ويسد خلتهم ويجبر كسرهم، وكان إلى جانب علمه أديباً كبيراً، له يد طولى في الشعر والنثر، وبصيرة ثاقبة في نقدهما، واشتغل بالتاريخ، فجمع لإربل تاريخاً، ذكر فيه تاريخ المدينة وأحوالها ومن دخلها من العلماء والأدباء والأعيان، وتخرج به خلق كثير في فنون العلم المختلفة، منهم أعلام كابن خلكان صاحب «وفيات الأعيان»، وابن الشعار صاحب «عقود الجمان».
مال ابن المستوفي في أدبه نحو الصنعة البديعية، وخاصة في رسائله التي أنشأها في موضوعات مختلفة، وتبادلها مع أعلام عصره من العلماء والأدباء، فأكثر فيها من الاقتباس والتضمين والإشارات التراثية، وأثقله بفنون البديع، وخاصة الجناس والسجع والموازنة بين الجمل، وأغرم باستخدام الألفاظ الغريبة التي تظهر معرفته باللغة وأسرارها، فاحتاج فهمهما وإدراك مرامي صاحبها المعنوية والأسلوبية إلى ثقافة لغوية كبيرة ومعرفة بطرائق العرب في بناء عباراتهم، وإلمام بضروب الصنعة البديعية.
أما شعره فقد تضمن موضوعات مختلفة مثل المدح والرثاء والوصف والغزل، وغلبت عليه الإخوانيات، لأنه كان يتبادله مع أقرانه من الأدباء والعلماء، واقترب فيه من شعر العلماء المثقل بثقافتهم، واستخدم فيه فنون الصنعة البديعية، وحرص على إيراد النكت المعنوية والتشبيهات المبتكرة وفق المفهوم السائد للشعر في أيامه.
ترك ابن المستوفي مصنفات مختلفة، أهمها كتابه المعروف بتاريخ إربل، وقد سماه «نباهة البلد الخامل بمن ورد عليه في الأماثل»، قيل: إنه في أربعة مجلدات، وصلنا نصفه، فحُقق وطُبع، وهو مصدر مهم لمعرفة أحوال مدينة إربل وما حولها وأعلامها، لأنه تفرّد بذكر أشياء لم ترد إلا فيه. وله كتاب «إهداء الأمراء في تواريخ الشعراء»، ذكر فيه شعراء إربل والشعراء الذين زاروها، وكتاب «النظام في شرح شعر المتنبي وأبي تمام» في عشرة مجلدات، وكتاب «إثبات المحصل في نسبة أبيات المفصل» في مجلدين، شرح فيه الأبيات التي استشهد فيها الزمخشري في كتابه «المفصل»، وكتاب «سر الصنعة» في الأدب، وكتاب «أبو قماش»، جمع فيه آداباً ونوادر وأخباراً طريفة، وله ديوان شعر، وقد جُمع قسم من رسائله وطُبع.
ومن شعره:
يا مَنْ تَغَيَّرتِ الدُّنيا لِبـُــــعْدهُمُ
فكلُّ رحبٍ فسيحٍ ضيقٌ حـــــرِجُ
أستودعُ اللهَ عَيْشَاً مَرَّ لِيْ بِـــكُـمُ
يرتاحُ قلبي لِذِكْرَاهُ ويَبْتَهِـــــجُ
ما راقَنِي بَعْدَكُمٌ شيءٌ سُــرِرْتُ بِهِ
فكلُّ مُسْتَحْسَنٍ في ناظري سَمِـــجُ
محمود سالم محمد