نبلي فاضل: مبدع التزم بعذابات الإنسان
بوعلام رمضاني
موسيقى
نبلي فاضل
شارك هذا المقال
حجم الخط
يحدث أن يتعرض المبدع للتهميش بسبب نهجه الفني في جزائر يرفض الكثير من مسؤوليها الروح الثقافية العربية تمامًا كما فعل الاستعمار. الموسيقار والملحن الكبير والمثقف الأنيق نبلي فاضل الناجح فنيًا في الوطن العربي أكثر مما هو ناجح في بلده الجزائر، أسطع الأمثلة التي تؤكد أن ممارسة الأيديولوجية ليست حكرًا على السياسيين، ويمكن للإداريين كسر موهبة مبدع لا يدخل في خانة معتقدهم الفني الأحادي باسم وطنية شوفينية قاتلة. فاضل المصاب بمرض "الزهايمر" منذ عام 2008، ما زال راسخًا في تاريخ تفوق فني يشهد عليه الراحل اللبناني وديع الصافي، ومثيله التونسي لطفي بوشناق أطال الله في عمره، وعدد كبير من الفنانين والفنانات داخل وخارج الجزائر. في هذا المقام نكشف لمن لا يعرفه عن فنان شامخ لم يعد قادرًا على التحدث والتواصل إلا عبر الحب الخرافي الذي يحظى به في بيت دافئ ومريح يجمعه بشقيقيه عماد وصلاح الدين والأخت الأصغر فريدة في مدينة شرشال الحضارية العريقة.
نبلي فاضل من مواليد الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1951 بمخيم جبل الجلود بتونس العاصمة، وهو الأخ الأكبر لأشقائه التسعة، والتحق بالكشافة الإسلامية في عز الثورة الجزائرية وسنه لا يتجاوز الثامنة. ترعرع في عائلة محافظة ومثقفة، وأطلق عليه والده اسم فاضل تيمنًا بمعلمه الشيخ بن عاشور الذي اشتهر يومها في جامعة الزيتونة. والده عبد الغني من خريجي الجامعة التونسية المعروفة، والتحق بالثورة التحريرية بعد بضعة أشهر من اندلاعها عام 1954. كان مسؤولًا في منطقة غار ديماوو الحدودية مع الشقيقة تونس وممثل الحكومة الجزائرية فيها، وأحد منسقي جيش التحرير بعد ان أوكلت له مسؤولية الإشراف على مدينة تونس العاصمة. كان لوالد فاضل شرف الاجتماع مرارًا مع الشهيدين سي الحواس وعميروش قبل استشهادهما، واعتبر الثاني من كبار أبطال الثورة الجزائرية. رفض والد الموسيقار منصبًا هامًا في أول حكومة الجزائر المستقلة مفضلًا مزاولة التعليم، وعمل مدّرسًا في مدينة عنابة، ومفتشًا للتعليم في مدينتي المشرية وشرشال إلى أن تقاعد وتوفي فيها عام 2006.
ككثير من الفنانين الجزائريين الكبار، خرج فاضل من معطف أناشيد الكشافة الإسلامية والثورة التحريرية التي كان والده أحد قادتها، وربط أول علاقة بالفن في خضم جهاد الجزائريين لتحقيق انعتاقهم من استعمار بغيض. التحق فاضل بأول فرقة موسيقية في مدينة المشرية الواقعة غربي الجزائر، وعمره لا يتجاوز السادسة عشرة، وعمل تحت إشراف المرحوم ميلود ميكي مع عازفين ماهرين مثل محمد بن صالح (العود)، وجيلالي لعموري ولزغب الطيب (الكمان)، وعباس بودو (القانون)، ومال يومها فاضل نحو العود الذي أبدع به في الجزائر، وفي عدد كبير من البلدان العربية. إلى جانب موهبته الفنية، تفوق فاضل في رياضات العدو والجودو والإيكيدو، وحصل على الحزام الأسود في رياضة الجودو. تفوقه الفني والرياضي لم يمنعه من النجاح في الدراسة ظافرًا بشهادة البكالوريا في الآداب من ثانوية عبد المؤمن بمدينة سعيدة عام 1972.
فاضل الذي كان بإمكانه الإقامة في العاصمة المصرية أو في بيروت، عاد إلى وطنه الجزائر محملًا بصندوق أحلام تحطمت على صخرة البيروقراطية غير البريئة فكريًا |
كما كان متوقعًا، لم يقاوم فاضل الروح الفنية المزروعة في أعماقه، ودخل في صراع مع الوالد الذي كان يتمنى أن يسلك ابنه دربه المهني، واضطر الوالد لأن يخضع أخيرًا لجنوح ورغبة الابن الذي ترك الجامعة، وراح يخترق أفقًا مهنيًا مؤكدًا موهبته الفذة. رغم تفوقه في علم النفس كطالب جامعي، راح فاضل يشارك في مسابقة فنية أجرتها الإذاعة والتلفزيون الجزائري لاختيار عدد من الطلبة في إطار إرسال بعثة إلى القاهرة بغرض التكوين. قبل سفره إلى العاصمة المصرية، قام بتلحين أول أغنية تحت عنوان "يا حنانا" للمطرب رشيد منير، ولاقت الأغنية نجاحًا باهرًا في غيابه، ويجدر بالذكر أن الفنان اللبناني زياد برجي قام بأدائها قبل أربعة أعوام بتوزيع جديد. ومن دون عناء، حصل فاضل عام 1978 على شهادة البكالوريوس في التأليف الموسيقي من المعهد العالمي للموسيقى العربية بالقاهرة رفقة عدد من الموسيقيين العرب من أمثال محمد الحلو وأحمد فتحي وجورج وديع الصافي وسوزان عطية، وكان له شرف التتلمذ على يد الموسيقار العبقري رياض السنباطي. فاضل الموسيقي الموهوب والمزدوج اللغة، اقتحم في التسعينيات جامعة السوربون لمدة سنة ونصف السنة طالبًا لمزيد من العلم، ومؤكدًا حبه للمعرفة قبل أن يضطر للتوقف لأسباب صحية ومادية، وأتذكر أنني التقيت به يومها بالصدفة، في ضاحية "سان دوني" الواقعة شرقي العاصمة الفرنسية باريس. استأنفت التواصل معه عام 2014، تاريخ زيارتي له في شقة والده رحمه الله، ووقتها لم يكن ممكنًا محاورته بعد إصابته بمرض يحول دون التحدث للناس والتعرف عليهم. حادثة طريفة وقعت لي وأنا أريه مجلة "الوسط" اللندنية التي نشرت فيها مقالًا عنه بعنوان "نبلي فاضل أو عقلنة الصدمة". بحضور شقيقه عماد الذي رتّب لي اللقاء، لم يتفوه فاضل بكلمة واحدة لحظة إلحاحي على مخاطبته بكل ما أوتيت من سبل لاستنطاقه، لكنه ابتسم لما رأى صورته التي تصدرت المقال الذي أرسله لي مؤخرًا شقيقه صلاح الدين بعد أن عثر على المجلة التي نشرته وسط أرشيف صحافي هائل. فاضل الذي كان بإمكانه الإقامة في العاصمة المصرية أو في بيروت، عاد إلى وطنه الجزائر محملًا بصندوق أحلام تحطمت على صخرة البيروقراطية غير البريئة فكريًا كما روى لنا ذلك قبل أن يصدم وينهار نفسيًا وقبل إصابته لاحقًا بالمرض الذي ألزمه الفراش. عمل في الإذاعة والتلفزيون إثر عودته من أرض الكنانة حتى غاية 1993 كمسؤول فني وكملحن، وكأستاذ في المعهد العالي للموسيقى بالقبة الضاحية العاصمية المعروفة، وأدخل علم النفس في تدريس الموسيقى، كما كان أستاذًا في مدرسة الجيش الشعبي ببني مسوس. في وطنه، قام بتلحين أكثر من 300 أغنية، وما يقارب الألف قطعة موسيقية، لم تجد معظمها طريقها نحو التنفيذ، على حد تعبير شقيقه صلاح الدين، المهندس البترولي الذي رافق شقيقه في عدة أسفار شخصية وطبية وفنية في عدد من البلدان العربية. ولأن فاضل فنان موهوب وقوي الشخصية والمزاج وعالي النفس، استطاع رغم الحصار المضروب عليه تلحين عدد كبير من الأغاني لمطربين عرب، وأكثر من ثلاثين أغنية لمطربين جزائريين عانوا هم أيضًا من التهميش والتعتيم. من الفنانين الجزائريين الذين شقوا طريقهم نحو الشهرة بفضل ألحانه، نذكر يوسفي توفيق ومحمد لعراف ورشيد منير وزكية محمد وحسيبة عمروش والمرحومين نوبلي منصف ابن عمه ومحمد راشدي ومحمد الخامس، إضافة إلى دنيا الجزائرية وناديا قرباش وصليحة الصغيرة وندى ريحان وخالد محبوب وعبد الله الكورد وكمال رزوق وعبد الرحمان غزال وكريم تواتي وصبري عزالدين. أنجز فاضل موسيقى مسلسلات وأفلام ومسرحيات وأوبريتات عدة، ونال جوائز كثيرة منها الفنك الذهبي لسنتين متتاليتين، وأحسن موسيقى أفلام في مهرجان فيلم البحر المتوسط. للأسف الشديد، لم يجد وضعه موسيقى أوبريت "من أفراح الجزائر" الاهتمام المطلوب رغم مستواها الفني العالي، وحملها رسالة حضارية وتاريخية في غاية الرمزية. حضر فاضل سينمائيًا بوضعه موسيقى أفلام عدة مخرجين جزائريين معروفين، من بينهم أحمد راشدي وعمار العسكري وجمال فزاز وعمار محسن ومحمد بوعماري ومحمد حازرلي وغيرهم من السينمائيين. رغم تهميش الإدارة في الإذاعة والتلفزيون، حظي بعدة تكريمات من بينها تكريم عبد العزيز بوتفليقة الرئيس الراحل، وعز الدين ميهوبي وزير الثقافة السابق.
شهرة عربية
مقارنة بالأعمال الموسيقية التي قام بها في الجزائر، يمكن القول إن فاضل كان أكثر حضورًا نوعيًا في عدد كبير من البلدان العربية بحكم التناغم الذي تم بينه وبين نجوم كبار تصدرهم الراحل وديع الصافي وميادة الحناوي وهيام يونس ولطفي بوشناق ونهاد طربيه ومحمد الحلو. آخرون كثر حظوا بألحان فاضل، ومن بينهم وبينهن صوفيا صادق وحياة الإدريسي وصفوان العابد وفؤاد الزبادي ويوسف هناد وهدى سعد ومحمد الجبالي وأنوشكا وديانا كرزون وزياد برجي وعلاء زلزلي ومروى ناجي وهشام الحج وهالة القصير وكارول عون وعبد المنعم العامري وسارة فرح وفؤاد ظاهر وشادي جميل وزياد غرسة وفادي طلبة. كان للشعراء نصيبهم مع فاضل، ومن بين الذين تعامل معهم في الجزائر وفي العالم العربي، نذكر طوني أبي كرم من لبنان، وعماد الورغي وآدم فتحي من تونس، وكاظم السعدي من العراق، وشوقي حجاب من مصر، وبلقسام خمار ومحمد الأخضر السائحي وعز الدين ميهوبي وبلقاسم زيطوط من الجزائر، وصفوح شغالة وسمير سطوف من سورية.
لم يكن نبلي صاحب ألحان عاطفية محضة، وصاغ بعضها ملتزمًا بعذابات الإنسان رفقة الفنان لطفي بوشناق الذي اعتنق إبداعه وعانقه في صورة تاريخية تقطر محبة وتقديرًا. من أشهر أعماله أغنية "سراييفو" التي أداها بوشناق باقتدار لافت مثل ما أدى أغنيتي "متى يعود السلام" و"سهول فلسطين". أبدع لحنيا مجددا في أغاني "بالزاف" (كثيرا) مع علاء زلزلي، و"لمحوني" مع أنوشكا، و"ورحال" مع زياد غرسة، و"يا ساحر العينين" مع هيام يونس، و"ولو عاد " مع حسيبة عمروش"، و"قلوب حائرة" مع رشيد منير، و"أيش لزّني" و"أمشي بالسلامة " مع يوسف هناد. من أهم الأغاني الهامة والخاصة في مشوار نبلي "من أجل عيونك" مع وديع الصافي، و"عيني" مع ميادة الحناوي، و"إذا جئت بعدي" مع محمد الحلو، و"ذابت الشمعة" مع سارة فرح. تكلل تألقه في عدد كبير من البلدان العربية بتكريمات أثلجت صدره، وتم ذلك في مهرجان الزمن الجميل في لبنان، وفي دبي حينما حظي بتكريم مجلس رجال الأعمال الفلسطيني، ووزارة الإعلام للسلطة الفلسطينية على مسرح الجامعة الأميركية أمام جمهور عربي غفير وحضور إعلامي كبير الأمر الذي لم يلفت انتباه صحافة وطنه على حد تعبير شقيقه صلاح الدين الذي تحدث لـ"ضفة ثالثة" بمرارة عن التهميش الذي راح ضحيته فاضل بعد طرده من الإذاعة والتلفزيون عام 1993. فاضل الذي اعترف به وكرمّه كبار الفنانين العرب، ومن بينهم صديقه لطفي بوشناق، وزياد غرسة وحياة الإدريسي وفؤاد الزبادي من المغرب، كاد أن يواجه مصير الفنانة حسيبة عمروش. وبحسب شقيقه صلاح الدين توقفت عمروش عن الغناء باللغة العربية، واتجهت نحو ما أراده إداريون حتى لا تموت من الجوع، على حدّ ما أكدت.