نكهة فنلندية في مهرجان برلين الموسيقي
سمير رمان
موسيقى
ملصق المهرجان
شارك هذا المقال
حجم الخط
في السابع والعشرين من شهر أغسطس/ آب الماضي، انطلقت في العاصمة الألمانية برلين أعمال مهرجان ميوزيك فيست/ Berlin Musikfest، أحد أضخم مهرجانات الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية. يستمر المهرجان حتى 19 سبتمبر/ أيلول الحالي، وعادةً ما يشكل بداية الموسم في فيلهارموني برلين، كون برنامجه سلسلةً من عروضٍ تقدّمها أرفع فرق الأوركسترا، إضافة إلى الفرق المتميزة في موسيقى الحجرة.
افتتحت الموسم الأوركسترا الملكية الهولندية/Concertgebouw، بقيادة كلاوس مياكيليا/ klausMyakelya الفنلندي ذي الـ26 ربيعًا، والذي يقال عنه همسًا بأنّه "عبقري". يقود كلاوس حاليًا أوركسترا أوسلو السيمفونية، و"أوركسترا دي باري"، وأصبح اعتبارًا من عام 2022 شريكًا دائمًا في قيادة الأوركسترا الملكية الهولندية. أمّا في عام 2027، فسيكون قائد الأوركسترا الرئيس، ليتابع مسيرة فيلهام كيس، فيليم مينغيلبرغ، فيليكس فينغارتين، إدوارد فان بينوم، برنارد هايتينغ، ماريس يانسونس ودانييل غاتي الذي قادها لفترة قصيرة فقط. وتفتخر الأوركسترا الملكية الهولندية أنّها لم تعرف طيلة وجودها سوى سبعة قادة أوركسترا، جميعهم كانوا من العظماء، وسيكون مياكيليا ثامن هؤلاء القادة.
"افتتحت الموسم الأوركسترا الملكية الهولندية، بقيادة كلاوس مياكيليا الفنلندي ذي الـ26 ربيعًا، والذي يقال عنه همسًا بأنّه "عبقري"" |
يتراءى للمشاهد في أسلوب قيادة الشابّ الهشّ شيء ما من الموسيقار الأميركي ليونارد برنشتاين/ Leonard Bernstein(1918 ـ 1990)، ومن يدري كيف سيكبر مياكيليا بمرور الوقت ليتحول إلى برنشتاين جديد، فهو يفكّر تفكيرًا واسعًا.. حذف نهائيًا من نوتة ماهلر التمجيد الرومانسي، والزخرف العاطفي، ليقدّم للجمهور ماهلر بصورةٍ غير مألوفة، مدمجة في سياق القرن الواحد والعشرين، قرن كلّ ما هو قاسٍ وغير متوقع.
عرفت السيمفونية السادسة بالسيمفونية "التراجيدية"، وهي ليست التسمية الرسمية. ماهلر نفسه لم يطلق عليها مثل هذه التسمية، ولكنّه لم يعترض عندما تداولها أصدقاؤه: بالطبع، تكوّن لديه برنامج داخليّ معيّن للتأليف، ولكنّه لم ير كشفه للعلن أمرًا ضروريًا. كُتبت السيمفونية صيفًا، خلال فترة استجمامه في جبال الألب في منطقة مايرنيغ، عندما كان كلّ شيءٍ في حياة ماهلر وأسرته يبدو على خير ما يرام؛ فقد حالفه النجاح في قيادة أوبرا فيينا، وكان يحقق النجاح في معترك التأليف الموسيقي. ومع ذلك، من الصعوبة بمكان التخلص من الشعور بأنّ موسيقى السيمفونية السادسة كانت تنذر بمستقبلٍ يحمل التعاسة، وفاة كبرى بناته، ومرض ماهلر نفسه غير القابل للشفاء، والحرب. يموت بطل السيمفونية السادسة، وتنسحق روحه تحت ضغط قوى رهيبة. وأخيرًا خاتمة اندمجت وتناغمت فيها موسيقى وترية تصمّ الآذان حلّت فجأةً بعد بضع لحظاتٍ من السكينة الهشّة، بدت وكأنّها تصور انهيار العالم بأسره.
"عند سماع أداء الشابّ الفنلندي الموهوب تشعر وكأنّ إله الفوضى والظلمة يتحرك في الصالة يطارد خطواتك، ليجعلك مجبرًا أن تتخيّل أفواجًا عسكرية مجللة بالسواد تخطر في الصالة، تزحف خلفها دبابات مجنزرة" |
وفي الوقت نفسه، اختار مياكيليا تسلسلًا غير معتاد، ليغيّر مواقع الألحان البطيئة الانسيابية مع مواقع الألحان السريعة التي تقصف كالرعد. بهذه الطريقة، أدّى ماهلر بنفسه السيمفونية السادسة، ولكن من منظور قائد الأوركسترا فقد كان هذا الترتيب منطقيًّا تمامًا، فبعد فترةٍ قصيرة من الموسيقى الشاعرية المترافقة مع أصوات أجراس البقر القادمة من بعيد، جاءت الموسيقى الصاخبة وكأنّها نذير كارثة حتمية.
ومع ذلك، فإنّ افتتاح الحفل الموسيقي لم يتمّ بسيمفونية ماهلر، بل بسيمفونية "أوريون/ Orion" للموسيقية الفنلندية كايا سارياهو/ Kaija Saariaho. لقد كان متوقعًا ظهور الأسماء الفنلندية في ملصق الحفلة الدعائي، لأنّ قادة الأوركسترا الفنلنديين يأخذون على محمل الجدّ الترويج لموسيقى بلادهم، ولا يفوتون أبدًا الفرص التي تتاح لهم كي يعزفوا موسيقى أبناء بلدهم. "أوريون" كتبت بتكليفٍ من أوركسترا كليفلاند عام 2002، مباشرةً بعد النجاح الباهر الذي حققته أوّل أوبرا للمبدعة كايا سارياهو بعنوان "الحبّ من بعيد/ L'Amour de Loin"، التي عرضت في مهرجان سالزبورغ على مسرح (سانتا في). عمليًا، ومن حيث الإيقاع، فإنّ أجزاء الأوبرا الثلاثة "تذكّر الموت/ Memento mori"، "سماء الشتاء/ Winter Sky"، و"الصيّاد/ Hunter" تطورت إلى سلسلة سيمفونية.
"عرفت السيمفونية السادسة بالسيمفونية "التراجيدية"، وهي ليست التسمية الرسمية. ماهلر نفسه لم يطلق عليها مثل هذه التسمية، ولكنّه لم يعترض عندما تداولها أصدقاؤه" |