الثلاثي الكبير.. بيرم وزكريا وأم كلثوم
خطيب بدلة
موسيقى
زكريا أحمد وبيرم التونسي وأم كلثوم
شارك هذا المقال
حجم الخط
يتحدث الموسيقار العراقي نصير شمة، في حوار تلفزيوني، عن عيارات الذهب التي تبدأ من 12 قيراطًا، وتصل إلى 24، ويعلن بأن زكريا أحمد (1896 ـ 1961)، ورياض السنباطي (1906 ـ 1981)، بوصفهما موسيقيين وملحنين، يقيمان في منطقة الـ 24 قيراط.. والسبب، في رأيه، أنه لم تكن لدى هذين العبقريين تأثيرات جانبية، بل مصرية خالصة.
ويضيف شمة: إن الشيخ زكريا هو الذي بدأ هذا المشوار، والسنباطي هندسَه وبنى له عمارة حقيقية، فلقد أنجز مشروعًا غير مسبوق للقصيدة العربية، وكان يلعب في هذه الساحة بمفرده، على الرغم من وجود عمالقة كبار. وأم كلثوم، بذكائها المعهود، كانت تعامله معاملة خاصة، بسبب مكانته، وموهبته، ومقدرته على استلهام الثقافة المصرية الخالصة.
بداية تشكل الثلاثي
بدأ الشيخ زكريا التلحين سنة 1919، وهو في سن 23، وأنجز في حياته ألفَ لحن، بينها خمسة وستون أوبريتًا غنائيًا.. وكانت أم كلثوم قد انتقلت مع أسرتها من قريتها "طَمَاي الزهايرة" إلى القاهرة، بعدما حققت نجاحًا وشهرةً من خلال عملها مع والدها في الموالد.. وفي القاهرة، دربها الموسيقار محمد القصبجي على عزف العود، وعلمها المطربُ أبو العُلا محمد أصولَ الغناء، ولحن لها الدكتور أحمد صبري النَجْريدي بعض الأغاني.. وفي هذه الأثناء، وتحديدًا في سنة 1931، لحن لها الشيخ زكريا أحمد تسعة أدوار، ما يزال الناس يستمعون إليها بشغف حتى يومنا هذا، منها "غني لي شوية شوية"، و"عن العشاق سألوني"..
معظم الأغنيات الرائعة التي لحنها الشيخ زكريا أحمد لأم كلثوم كانت من كلمات الشاعر بيرم التونسي، وهذا يجعلنا نتحدث عن ثلاثي إبداعي نادر، استمر فترة طويلة من الزمن (بيرم وزكريا وأم كلثوم). ومن أبرز ملامح هذا الثلاثي: الأشعار الرومانسية، والتطريب عالي المستوى، والأداء الاستثنائي لأم كلثوم التي تمتلك مساحات صوتيةً مبهرة.. ويمكننا أن نأخذ أمثلة على ذلك أغنيات: حُلُم، الأوِّلَة في الغرام، الآهات، حبيبي يسعد أوقاته، أهل الهوى.
"في سنة 1931، لحن زكريا أحمد لأم كلثوم تسعة أدوار ما يزال الناس يستمعون إليها بشغف حتى يومنا هذا، منها "غني لي شوية شوية"، و"عن العشاق سألوني"" |
كلمات الأغاني التي يكتبها بيرم التونسي ليست رومانسية وحسب، بل إنها مغرقة في الهيام، والحنان، والطبيعة الخلابة، والنسيم العليل، والأغصان المياسة، والحزن الشفيف الذي يصل إلى حدود البكاء، وأي بكاء؟ إنك لن تعرف عمق البكاء الذي يقوله زكريا، وغزارته، ومرارته، ما لم تتمعن في هذا المقطع من أغنية "الأولة في الغرام":
حطيتْ على القلب إيدي
وأنا بودعْ وحيدي
وأقول يا عينْ أسعفيني
وبالدمعِ جودي.
تفرد بيرم التونسي
من خلال تتبعي مسيرةَ بيرم التونسي، تولدت لدي رغبة في أن أضعه، بوصفه شاعرًا، في مرتبة الذهب عيار 24 التي تحدث عنها الموسيقار نصير شمة.. فقد تحول (بيرم)، خلال عصر النهضة الموسيقية الغنائية، إلى "معلم" غير معلن لعدد من الشعراء الكبار، وهذه "المعلمية" لا تأتي من كونه واحدًا من رواد القصيدة العامية المصرية وحسب، فالرواد قد تكون مواهبهم صغيرة، أو متوسطة؛ ولكن لأنه ـ بيرم ـ كان يتعامل مع الشعر بوصفه قضية حياة، يجري مع الأنفاس، بالإضافة إلى ذلك التنوع في قصائده، والتطور المستمر في أسلوبه، وخفة دمه الفريدة، ومقدرته على تناول أي موضوع يبدو قليل الأهمية، وعلى نحو متألق.
احتفاء بالغنم..
احتفى الشعر العربي، منذ ما عُرف باسم "العصر الجاهلي"، بالحصان، باعتباره الحاملَ الرئيس للفروسية، ومَن يستطيع أن ينسى المحاورة التراجيدية العظيمة التي جرت بين عنترة بن شداد وحصانه:
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى
ولكانَ لو علمَ الكلامَ مُكلِّمي.
وفي موضع آخر، يقول عنترةُ عن الحصان الأدهم:
فازورَّ من وقع القنا بلبانه
وشكى إليَّ بعبرة وتَحَمْحُمِ.
وأنشد شعراؤنا، كذلك، للجِمال والنوق، باعتبار أنها تحمل الحبايب، (يا حاديَ العيس).. وتحدثوا عن حمار الوحش (فخرت صريعًا ذاتُ جحش سمينة)، والكلاب والذئاب، كما في قول الأحيمر السعدي: (عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذ عوى)، وقول الشنفرى موضحًا للبشر أن أهله الحقيقيين هم الذئب والنمر والضبع:
ولي دونكم أهلونَ سِيْدٌ عَمَلَّسٌ
وأرقطُ زُهلول وَعَرفاءُ جيألُ.
ولكن أن يحتفي شاعر بالغنم! والله إن هذه لجديدة، وطريفة، ومدهشة، ويجب علينا أن نسجلها لبيرم وشريكيه في الثلاثي الشهير.. ففي فيلم "سَلّامة" الذي أنتج سنة 1945، تغني أم كلثوم:
رعينا الغنم وسقناها
وكَمْ بالعصا ضربناها
لقينا الغنم، تحب الطرب
ولو تنشتم، ولو تنضرب
فلا فحلها قليل الأدب
ولا كبشها سريع الغضب..
وتنتهي الأغنية بفرض عقوبة مذلة على الرجل الذي أساء للأغنام، وهي أن:
يبوس القدم، ويبدي الندم
على غلطته في حق الغنم..
الفكاهة البيرمية.. لندن وباريز
سؤال آخر يطرح نفسه بقوة: إذا كنتَ، عزيزي القارئ، أمام شاعر رومانسي، يكتب:
الورد جميل، ولُه أوراق
عليها دليل من الأشواق
لو أهدى الورد حبيب لحبيب
يكون معناه وصالُه قريب
شوف الزهور وتعلم
بين الحبايب تعرف تتكلم.
فماذا تقول عندما تقرأ (أو تسمع) للشاعر نفسه قصيدة ساخرة تضاهي في هزلها أجمل اللوحات الكاريكاتيرية؟ أقصد أغنية "هتجن يا ريت يا إخواننا ما رحتش لندن ولا باريز".
"في لندن وباريز، أصيب بيرم التونسي بصدمة فجرتْ لديه السخطَ الهزلي باتجاه المجتمع المصري، فلندن وباريز بلاد تمدين، ونظافة، وذوق، ولطافة، و(حاجة تغيظ)" |
أميلُ إلى الاعتقاد بأن الجانب الهزلي الساخر في شخصية الشاعر بيرم التونسي سابقٌ للجانب الرومانسي، وكان هذا نتيجة للأقدار التي كونته، فالرجل مولود في الإسكندرية من أصل تونسي، وكان يحب مصر، وعاش ردحًا من الزمن محرومًا من جنسيتها، وكانت شخصيته، من أساسها، متمردة، هجومية، والدليل أن أول قصيدة كتبها واشتهر بها هي "بائع الفجل" التي يهجو فيها المجلس البلدي:
يا بائعَ الفجل بالمليم واحدة
كم للعيالِ وكم للمجلس البلدي؟
كأن أمي - بلَّ الله تربتَها - أوصتْ
فقالت: أخوك المجلسُ البلدي
أخشى الزواجَ فإنْ يومُ الزفاف أتى
يبغي عروسي صديقي المجلس البلدي
أو ربما وهب الرحمنُ لي ولدًا
في بطنها يَدَّعيه المجلسُ البلدي.
وكان اسمُ أول مجلة أسسها بيرم هو "المسلة"، والثانية "الخازوق"، وقد أُغلقتا بسبب مشاغباته، ثم نفي، بسبب هجومه على صهر الملك فؤاد، وسافر إلى باريز.. وفي سنة 1932 كان يلجأ، في بعض الأحيان، إلى شراء جواز سفر مزور ليعود إلى مصر. المهم أن الغربة القاسية أعطته تجارب عظيمة.
ولاويل ليلية وتقشير خس
المفارقة الكاريكاتورية التي تقوم عليها قصيدة "هتجن يا ريت يا إخواننا" موجودة في لازمتها، وتشير إلى أن الشاعر بيرم، ذهب إلى لندن وباريز، فأصيب بصدمة فجرتْ لديه السخطَ الهزلي باتجاه المجتمع المصري، فلندن وباريز بلاد تمدين، ونظافة، وذوق، ولطافة، و(حاجة تغيظ).
كان مؤرخ حلب العلامة خير الدين الأسدي يرفض السجع بين حرفي الزاي والظاد، وحينما ترد معه جملة من هذا الطرز يكتب: وقد ظنوا أنهم سجعوا، ولكنهم ما سجعوا.
ولكن بيرم التونسي يسجع بالزاي والظاد، ويفتتح هزليته بقوله:
هتجنّ، يا ريت يا إخواننا ما رحتش لندن ولَّا باريزْ
دي بلاد تمدين ونضافة وذوق ولطافة وحاجة تغيظْ.
كلمات الأغنية مغرقة في عاميتها المصرية، وأرى من المفيد ترجمتها إلى الفصيحة بقولنا إن بيرم لم ير في لندن وباريز رجلًا بدينًا ماشيًا في الشارع يقشر الخس، ويمص عود قصب، أو "يقزقز لب أسمر وحُمُّص".. ولم يشهد معركة ليلية، والبوليس يسحب امرأة يمشي أمامها رجل متعوّر، يبدو أنه عريس.. ولم يسمع في تينك المدينتين، عند الفجر، ولاويل امرأة على زوج خالتها أم أحمد التي مات زوج سلفتها (مع أن الموت شيء لذيذ!). ولم يصادقْ رجلًا صائعًا يجري، وصائعًا آخر يتعقبه، فهل نحن في شارع غيط، أم في دارة، أم نحن ماعز؟ في لندن وباريز يستحيل أن تحضر عملية بيع بالحلفان، والمناهدة، والعراك، وضرب الكفوف، والسلعة التي ثمنها قرش تباع بريال، وليسَ هناك رجل يعتمر بلاسة، وآخر بعمامة، وثالث بطربوش، مثلنا نحن الذين ملابسنا، وأزياؤنا، أكثر عددًا من أفراد شعبنا..
"من أبرز ملامح الثلاثي: الأشعار الرومانسية، والتطريب عالي المستوى، والأداء الاستثنائي لأم كلثوم التي تمتلك مساحات صوتيةً مبهرة" |
والدرس الذي يصل إليه بيرم التونسي من وراء هذه المشهديات العجيبة لا يقل سخريةً وهزلًا عن المشهديات ذاتها، وهو: نحن كنا أحسن من هؤلاء الباريزيين واللندنيين، ويمكن أن نعود فنصبح أحسن منهم، ولكن نحن عيب علينا والله أن نتهجى دروسًا على التلاميذ!
(للعلم: الأغنية متوفرة على يوتيوب بنسختين؛ الأولى بصوت زكريا أحمد، والثانية بصوت سيد مكاوي).