فلسفة الحب: ما علمنا إياه فلاسفة عن الحب

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • فلسفة الحب: ما علمنا إياه فلاسفة عن الحب

    فلسفة الحب: ما علمنا إياه فلاسفة عن الحب
    جوردن بورك
    ترجمات
    ثلاثة قلوب: برلين وجونز (1865) ـ معهد شيكاغو للفنون
    شارك هذا المقال
    حجم الخط
    ترجمة: سارة حبيب


    الحب في كل مكان؛ حب العائلة، الأصدقاء، الشريك، الأشياء، والقائمة تطول. وستنظر هذه المقالة في ثلاثة أعمال رئيسية تتناول فلسفة الحب.



    الحب ظاهرة متغلغلةٌ في حياة البشر كلّها، وتأتي بأشكال عديدة: حب البشر، الحيوانات، الأشياء، الأفكار، والمزيد غيرها. تسعى فلسفة الحب لشرح طبيعة الحب ومَنطقَتِها. لهذا، سنتناول هنا ثلاثة أعمال لثلاثة فلاسفة يستكشفون مسألة الحب. سننظر، أولًا، في كتاب تروي جوليمور "رؤية الحب" الذي يشرح فيه فكرة الحب بوصفه رؤية. ثم، سيقدم لنا سي. إس. لويس توصيفًا مسيحيًا لطبيعة الحب في كتابه "المحبات الأربع". لننظر بعدها، أخيرًا، في حوار أفلاطون "الندوة" الذي نرى فيه توصيفًا ميتافيزيقيًا للحب ومدى ارتباطه بالجمال.





    1 ــ رؤية الحب: فلسفة الحب عند تروي جوليمور
    تركّز فلسفة الحب عند تروي جوليمور على تقديم توصيف للحب يشرح التناقضات التي تظهر غالبًا عند تفحص طبيعة الحب: "[الحب] عاطفة أخلاقية ومصدر محتمل للاأخلاقية، عاطفة تستحث التبصّر في بعض السياقات والوهم في أخرى، وعاطفةٌ تنطوي، بطرق مؤثرة، على كلٍّ من العقل واللاعقل".



    الحب والأخلاقية
    "الحب هو شيء يقع بين الأخلاقي تمامًا، وغير الأخلاقي بشدّة، وبين العقل واللاعقل المطلق".
    بدايةً، ينظر جوليمور في مفهوم الحب والأخلاقية، ويناقش أن العقل يوجّه الحبَّ إنما، في الوقت ذاته، ليس على نحو كامل. لتوضيح هذه النقطة، يسأل جوليمور في ما إذا كان الحب أخلاقيًا، ويشير إلى الفكرة المثالية القائلة بأن كلًّا من الحبيبين يريد الازدهار للآخر. وبالتالي، يعامل كلّ منهما الآخر أفضل مما يعامل الآخرين الموجودين في حياته. في المقابل، يشير جوليمور إلى أن المحب أحيانًا يريد أن يكون المحبوب له بالكامل، فيبعده عن عائلته، أصدقائه، ومجتمعه.
    بالتالي، وعلى الرغم من أن بعض الأحباء قد يعاملون المحبوب بطريقة إيجابية، من المهم الاعتراف بأن كثيرين يعاملون المحبوب بطريقة غير أخلاقية، ويُنزلون الأذى والعنف بعالم الواقع. كذلك، يؤدي الالتزام طويل الأمد في أغلب الأحيان إلى الامتعاض، العدائية، والمعاملة الفظّة. الأكثر من ذلك، والأكثر إثارة للقلق بالنسبة إلى جوليمور، أن التركيز المفرط على الحبيب، والحنو الزائد عليه، يؤدي إلى إهمال أشياء أخرى مهمة.



    الحب أعمى
    "بالحديث عن الحب من حيث الرؤية... الحب، على نحو واقعي جدًا، هو نوع من الإدراك، طريقة في رؤية العالم. والإدراك هو دائمًا مسألة محدودة، لأن العامل المُدرِك موجود في زمان، مكان، وحالة محددة".
    ينظر جوليمور في المفهوم القائل: "الحب أعمى"، ويعتقد بأن هذا المفهوم خاطئ. تقود فكرتان عن الحب نظرةَ الحب عند جوليمور القائمة على الرؤية. أولهما: أن تحب شخصًا آخر يعني أن تضعه في مركز عالمك، تمامًا، مثلما أن الأرض تدور حول الشمس. وثانيهما أن الحب يضيء الأشياء التي كنا عميانًا عنها من قبل، فنبدأ بإدراك العالم في هذا الضوء.
    وهذه الفكرة الثانية جوهرية في مناقشة فلسفة الحب عند جوليمور: يعتقد جوليمور أن الحب لا يغيرّ طريقة رؤيتنا للحبيب وللعالم على نحو إيجابي وحسب، بل يجعلنا الحب كذلك لا نرى، أو نلاحظ، أو نتفاعل مع جوانب معينة من العالم.



    الحب والعقل
    "فكرة أن الحب ليس له أي علاقة، أو قليل من العلاقة وحسب، بالعقل مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بفكرة أن الحب لا علاقة له مطلقًا بالأسباب. الأسباب، في سياق الحب، كثيرًا ما تُعد غير ذات صلة ببساطة".
    أخيرًا، ينظر جوليمور في فكرة أن العقل لا يُوجِّه الحب. ويعتقد أن وجهة النظر العقلانية (بإفراط) في فلسفة الحب خاطئة. تقول وجهة النظر العقلانية تلك بأن الحب ليس حالة عقل، أو مسألة عقل، أو عقلانية، بأي معنى من المعاني؛ إن أي قائمة من المواصفات في المحبوب لن تُلزم المحب بحبه.

    "فكرة أن الحب ليس له أي علاقة، أو قليل من العلاقة وحسب، بالعقل مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بفكرة أن الحب لا علاقة له مطلقًا بالأسباب"


    مع هذا، لا يريدنا جوليمور أن نذهب إلى حد الدفاع عن نظرة لاعقلانية للحب تنكر مزعم أن الحب هو استجابة لمميزات الشخص، أو مواصفاته. بالأحرى، يعتقد جوليمور أن الحب هو شيء بين بين، ولتوضيح هذا، يحيل إلى مقطع من ندوة أفلاطون يصحّح فيه سقراط نظرةَ أغاثون عن الحب:
    سيكون أسهل بالنسبة إليّ أن أكمل على طريقة ديوتيما... لقد أظهرتْ لي كيف أن الحب، وفق كلامي ذاته، ليس جميلًا، أو جيدًا.
    لذلك قلت: "ماذا تعنين ديوتيما؟ هل الحب قبيح إذًا، وسيئ؟".
    لكنها قالت: "انتبه لكلماتك! هل تعتقد حقًا أن الشيء إذا لم يكن جميلًا، فلا بدّ أن يكون قبيحًا؟... لا تُرغم أي شيء غير جميل على أن يكون قبيحًا، أو شيء غير جيد على أن يكون سيئًا. ينطبق الأمر ذاته على الحب: عندما توافق على أنه ليس جيدًا، أو جميلًا، لا حاجة بك لأن تعتقد أنه قبيح وسيئ؛ يمكن له أن يكون شيئًا بين بين".



    الحب بوصفه رؤية
    "أقترح أن نستفيد من نهج ديوتيما المجازي، ونستكشف فكرة أن الحب هو، بالفعل، شيء بين بين".
    الحب بوصفه رؤية يعني أن الحب هو إلى حد كبير اهتمام مُوجَّه نحو السمات الإيجابية للمحبوب. وبسبب هذا، غالبًا ما يكون المحب أعمى عن الصفات السلبية. يقودنا الحب إلى خلق معتقدات زائفة عن المحبوب والتمسك بها؛ يقدّر المحب سمات المحبوب الذاتية ويؤمن في قلبه أنها سمات موضوعية. هكذا، يكون الحب لا عقلانيًا بمعنين. من وجهة نظر أخلاقية، يمكن للحب أن يستحث سلوكًا أنانيًا، خاطئًا، وغير أخلاقي. ومن منظور معرفي، يمكن أن يجعلنا الحب نعيش في واقع زائف.



    "قرّة عينك"
    الحب (توماس رولاندسون/ 1785) ـ متحف المتروبوليتان للفنون في نيويورك
    "حب امرأة ما هو، بدرجة كبيرة، نوع من الاستجابة الإيجابية التقديريّة لها بسبب مواصفاتها الجذابة، المرغوبة، أو القيّمة من نواح أخرى. طريقة رؤية المحبوبة، والعالم الذي تعيش فيه المحبوبة، تضعها في مركز حقل رؤية المحب".
    إن هذه الاستجابة الإيجابية لدى المحب هي استجابة لسمات، أو مواصفات عامة، تُستخدم لتقييم الجميع من حيث المرغوبية؛ جاذبية الشخص الجسدية، ذكاؤه، أخلاقه، حس الفكاهة عنده، إلى آخره. تبدو هذه المواصفات فريدة، كالجمال مثلًا، لكن حتى لو كان شخص آخر جميلًا بالطريقة ذاتها، لن يجعل هذا الشيء المحبَّ يقلّل من قيمة جمال الفرد المحبوب. المسألة، بالأحرى، هي كيفية رؤيتنا لجمال الفرد المهم، ويتبدى ذلك من خلال الاهتمام الخاص الذي نوليه للمحبوب.
    بفعل هذا الاهتمام الخاص، يصبح المحبوب مركز عالمنا. ونرى المحبوب، في النتيجة، على أفضل وجه، وعلى الرغم من أن به عيوبًا، فإن حبنا يجعلها عديمة الأهمية. في دوره، يجعلنا فعل هذا نفتح عيوننا على المحبوب، ما يفتح عيوننا على العالم. وبفعل هذا، نصبح عميانًا عن الجوانب الأخرى الكثيرة للعالم وللمحبوب.



    منظور المحبوب
    "يمكن أن تحفّز الأشياءُ الطبيعية، أيضًا، مثلَ تلك الاستجابات. وبعض تلك الأشياء، المحيط، المنظومة البيئية للأرض، أو 'السماء المرصعة بالنجوم فوقي'... لا يمكن مقارنتها جزئيًا لأنها مفردة حقًا؛ ببساطة ما من شيء يمكن مقارنته بها. لكن، حتى لو كانت هنالك أشياء محتملة للمقارنة، ستظل الحقيقة الأعمق هي أن المقارنة في غير محلها. وأيًّا يكن الأساس الدقيق لاستجابة المرء المليئة بالرهبة على السماء المرصعة بالنجوم، أو المنظومة البيئية، لا يبدو أن مثل تلك الرهبة تنطوي قط على فكرة أن تلك الأشياء هي أفضل...".
    الحب استجابةٌ لمواصفات المحبوب العامة، واستجابة لمواصفاته غير العامة. تتيح لنا الطبيعة البشرية تقدير قيمة الأشياء من منطلق غير حيادي، وترغمنا على ذلك، وهو منطلق يكون فيه التجرد والمعايير الموضوعية ممنوعة. كذلك، لا يقيّم المحب مواصفات المحبوب غير العامة، لكنه، بدلًا عن ذلك، يتماهى مع المحبوب؛ يوحّد هذا منظور المحب مع منظور المحبوب. الحب هو إدراك طبيعةِ المحبوب الفردانية، وتثمين تلك السمات الفردانية من غير أي مجال للمقارنة.
    بالتالي، يتضمن الحب العقلَ، لأنه يستجيب لشيء خارجي؛ مواصفات المحبوب العامة. لكن الحب يتعلق أيضًا بكيفية رؤية المحب للعالم الآن. لا يرى المحب المحبوبَ بطريقة جديدة وحسب، بل هو كذلك ملتزم برؤية المحبوب بتلك الطريقة الجديدة. الحب تعبير عن هوية المحب. عندما نحب شيئًا، يصبح في وسعنا التعبير عمّن نكون. ومن خلال إعطاء المحبوب قيمة أكثر من الآخرين، يعبّر المحب عن هويته.



    الطبيعة اللاأخلاقية للحب
    "الحب، بكلمات أخرى، هو حقًا ظاهرة أخلاقية تطرح مخاطر أخلاقية حقيقية".
    يصبح الحب خطيرًا في حالتين: عندما يقع الأذى والعنف على المحبوب، وعندما، وهو الأسوأ، يُقصي المحبون البشرَ الآخرين خارج العلاقة. وبما أن الحب يتضمن العمى، تحديدًا إزاء معظم الأشياء خارج المحبوب، لا يستطيع المحب غالبًا أن يرى الأذية الواقعة على الآخرين بسبب ذلك الإبعاد. تتبدى مثل هذه الحالات عندما يصبح الحب تملكيًا، إقصائيًا، مدمّرًا، وفوضويًا.



    الأخلاقية في الحب
    "أن يفتح المرء عيونه على فرد آخر، ويراه على ما هو عليه حقًا، من دون رؤيةٍ غائمةٍ بالافتراضات المسبقة والتحيزات، لهي مهمة شاقة. ومطلب الحب بأن نتولى هذه المهمة في سبيل الكفاح لأجل إدراك تام حقًا وكامل للبشر الآخرين، يشكّل حجةً قوية لمزعم أن الحب هو بمعنى عميق جدًا ظاهرة أخلاقية".
    بالنسبة إلى الفيلسوف جوليمور، الحب أخلاقي، لأنه بطبيعته يجعل المحب يتغلب على "التحيز للذات"، والتحيز للذات هو دافع قوي ومدمِّر غالبًا من دوافع السلوك البشري. الحب وإدراك المحبوب الفرد يجعل المحب يمنح قدرًا سخيًا من الاهتمام للمحبوب، ويتضمن ذلك أشياء مثل الثقة، التواصل، سرعة الاستجابة، والشهية للمعرفة وللفعل. يرى المحب "المحبوبَ باستحقاق، أي، بدقة وبسخاء في الآن ذاته".



    2 ــ الفيلسوف سي. إس. لويس: المحبات الأربع
    يعتقد الفيلسوف المسيحي سي. إس. لويس أنه من الضروري أن يكون قصديًّا، ويشرحَ الأنواع المختلفة للمحبة، لأنها متغلغلة في حياة البشر. يستمد لويس من الإنجيل أربعة أنواع للمحبة، ويسعى إلى تقديم توصيف سهل الاستيعاب لكلّ منها. لكنه، قبل ذلك، يميز بين "محبة الاحتياج" و"محبة المَنْح".
    محبة الاحتياج هي نوع الحب الذي يكنّه الطفل لأمه. تولّد طبيعتنا البشرية محبة الاحتياج هذه؛ شرطنا كبشر هي أننا لا نبلي جيدًا بمفردنا. أما محبة المنح فمماثلة للإلهيّ في الطبيعة، وأحد الأمثلة عنها هو الحب الذي يدفع المرء لأن يكافح لأجل رفاهية عائلته. مع هذا، يعترف لويس بأن هذا التمييز أكثر تعقيدًا في الحقيقة. على سبيل المثال، غالبًا ما تكنّ الأم محبة الاحتياج للطفل، لأنه كان عليها أن تنجبه وإلا ستهلك، لكنها أيضًا تشعر بمحبة المنح.



    اللذات
    يمّيز لويس أيضًا بين لذّات الاحتياج، ولذّات التقدير. ويعترف بأن البشر يستخدمون كلمة "حب" في حالات كثيرة مختلفة؛ أحب التفاح، الكلاب، رقائق البطاطس، أمي، شريكي، إلى آخره. ثمة فارق بين حب التفاح وحب المرء لشريكه، لكن ثمة استمرارية بين استحسان شيء وحبه. هكذا، يبدأ لويس من مجرد الاستحسانات، لأنه أن تستحسن شيئًا هو أن تحصل على اللذة من ذلك الشيء.

    "لا يقيّم المحب مواصفات المحبوب غير العامة، لكنه، بدلًا عن ذلك، يتماهى مع المحبوب؛ يوحّد هذا منظور المحب مع منظور المحبوب"


    لذَّات الاحتياج هي اللذات التي تكون مسبوقة برغبة، مثل شرب الماء عندما تكون عطشانًا. أما لذات التقدير فهي التي لا تكون مسبوقة برغبة إنما تجلب اللذة، كما هي الحال مع حب المحيط، أو اللذة التي تأتي من رائحة زهرة. أنت لا تسعى إلى أي شيء في الحالة الثانية؛ لقد كانت حالة لذة غير متوقعة وغير مستجداة.
    علاوة على ذلك، أحد الفروق الهامة بين نوعي اللذة هو أن لذة الاحتياج قصيرة الأمد، في حين أن لذّات التقدير "تطالب بتقديرنا باستحقاق". تمهّد لذات الاحتياج غالبًا الطريقَ إلى محبة الاحتياج. ومحبة الاحتياج غير المدعومة تتلاشى تمامًا كما تفعل لذات الاحتياج. أما لذات التقدير فأكثر تعقيدًا من أن نحدّد بدقة ما تنذر به.
    يقول لويس إن اللذة التقديرية تنذر بتجربة الجمال البشرية. من المستحيل القول إن الأفراد لا يحققون بعض الشعور باللذة من الأشياء التي يجدونها جميلة. الجمال التقديري يدعونا لحب ما نجده جميلًا، سواء أكان شخصًا، أم شيئًا؛ نحن لا نحب الشيء فحسب؛ الأمر يتعدى ذلك. نحن نصنّف الأشياء الناجمة عن اللذات التقديرية على أنها "جيدة جدًا" (بكل ما تعنيه كلمة "جيدة"). ومن هنا، يحصل ذلك الشيء على مزيد من الاهتمام، ويكون ذلك النوع من الاهتمام بمثابة فعل مبايعة.
    "تقول محبة الاحتياج عن امرأة 'لا يمكنني العيش من دونها'؛ محبة المنح تصبو لأن تمنحها السعادة، الراحة، الحماية... المحبة التقديرية تحدّق وتحبس أنفاسها وتظلّ صامتة، إنها تبتهج بأن مثل تلك الأعجوبة لا بدّ أن توجد حتى إن لم تكن ملكًا لها، ولن تكون مغتمّة تمامًا بفقدانها؛ ستفضّل أن يحصل هذا على ألا تكون قد قابلتها قط".
    بعد ذلك، يميز لويس بين أربعة أنواع من المحبات مستمدة من اللغة الإغريقية: ستورڠ‍ي storge (العاطفة)، فيليا philia (الصداقة)، إيروس eros (الغرام)، أغابي agape (الحب الإلهي). وهذه الفئات الأربع هي أساس فلسفة الحب عند سي. إس. لويس.



    ستورڠ‍ي
    أولًا، الحب الأكثر اعتدالًا هو ما يدعوه الإغريق "ستورڠ‍ي"، أو ما يدعوه لويس "العاطفة". بالنسبة إلى الإغريق ولويس، المعنى الأكثر مركزية للعاطفة هو المحبة بين الآباء والأبناء. وبمعنى أوسع، العاطفة هي محبة تتولّد من خلال الألفة. يأتينا الشعور بالعاطفة على نحو طبيعي وهي توجد من غير قسر. والعاطفة وديعة بمعنى أنها تحدث على نحو طبيعي، مع هدوء في الشعور. توجد العاطفة، في أغلب الحالات، مترافقة مع أنواع المحبات الأخرى، ومن المهم الاعتراف بها لأجل نظرية في فلسفة الحب.
    بالنسبة إلى لويس، محبة الاحتياج ومحبة المنح هما جزء من العاطفة؛ بالتالي، العاطفة متغلغلة في حيواتنا ومثمرة. إنها ليست شائعة فحسب، بل فيها من القوة ما يجعلها خطرة في حالات معينة. في حالة محبة الاحتياج، يتوقع البشر حدوث العاطفة، لأنها تبدو طبيعية للغاية، لكنهم يفشلون في أخذ سلوكهم، أو طبيعة العاطفة بعين الاعتبار. "يمكن أن تموت العاطفة بالسرعة ذاتها التي تحدث بها؛ بالتالي، الطابع المتأصل، أو غير المستحق، للعاطفة، يستحث سوء تفسير شنيع. وكذلك تفعل سهولتها وعدم التكلف الذي تتسم به". علاوة على ذلك، الغيرة وخنق الآخر يهددان العاطفة.



    فيليا
    النوع الثاني من المحبات هو ما يُدعى فيليا، أو رباط الصداقة. في المجتمع الحديث، نميل إلى تجاهل محبة الصداقة، أو نبخسها قيمتها، على عكس القدماء الذين اعتقدوا أن محبة الصداقة هي الأكثر سعادة بين المحبات؛ نحن نختار محبة الصداقة. كذلك، يحدد لويس فارقًا آخر: محبة الصداقة هي الأقل حاجة لها بين المحبات الأربع؛ في وسعنا العيش من دون صداقة.
    يعتقد لويس أن المجتمع الحديث يتجاهل محبة الصداقة، ويبخس قيمتها، لأننا لم نختبر محبة صداقة حقيقية. تتعلق الصداقة بشيء ما وتشير إلى مكان ما؛ محبة الصداقة هي تقدير عميق لتلك الرفقة القائمة على الاهتمام المشترك. وثمة بالطبع أسباب سقوط للصداقة، كما يحدث مثلًا عندما تصبح المجموعات إقصائية، أو عندما تنشأ الغيرة.
    "تنشأ الصداقة من مجرد الرفقة عندما يكتشف اثنان، أو أكثر، من الرفاق، أنهما يتمتعان برؤية مشتركة، أو اهتمام مشترك، أو حتى ذوق مشترك لا يتشاركه الآخرون معهم، ويعتقد كل منهما، حتى تلك اللحظة، أنه كنزه الفريد من العبء".



    إيروس
    الربيع والحب (فرانشيسكو باولو ميشيتي/ 1878) ـ معهد شيكاغو للفنون
    "في أغلب الأحيان، ما يأتي أولًا هو ببساطة انشغال مبتهج بالمحبوبة؛ انشغالٌ عام، غير محدد بالمحبوبة بكليتها. والرجل في هذه الحالة ليس لديه بالفعل وقت فراغ ليفكر بالجنس؛ إنه مشغول للغاية بالتفكير بالشخص. بالتالي، حقيقة أنها امرأة أقل أهمية بكثير من حقيقة أنها هي. إنه مليء بالرغبة، لكن الرغبة قد لا تكون ذات طابع جنسي. وإذا سألته عمّا يريد، سيكون الرد الحقيقي غالبًا: أن أواصل التفكير بها".
    ثالث المحبات هي الإيروس، أو الحب الرومانسي. وأحد التمييزات الهامة بالنسبة إلى لويس هو أن الرغبة الجنسية تقدم نفسها على نحو مختلف عندما يكون الإيروس متضمنًا. لكن الرغبة الجنسية ليست هي الغاية القصوى بالنسبة إلى الإيروس. يجعلنا الإيروس، في حالة الوقوع في الحب، نريد الشخص المحدد، المحبوب. يرغب المحب بالمحبوب أكثر مما يرغب باللذة الجنسية. بالتالي، يزعم لويس أن الوقوع في الحب لا ينشأ على وجه التحديد من رغبة جنسية طبيعية.
    لا ينجم السعي إلى المحبوب عن غاية جنسية، أو عاطفية، بل بالأحرى عن اهتمام صادق وعميق بماهية ذلك الشخص. لكن، كما أن لكل أنواع المحبات مخاطرها، كذلك هو الإيروس. غالبًا ما يجعل الإيروس الناس يُخضعون أنفسهم كليًا للمحبوب بطريقة مفرطة في الانغماس. كذلك، أحد أسباب السقوط الأخرى هنا هو أن البشر غالبًا ما يخلطون بين الرغبة الجنسية والوقوع في الحب.



    أغابي
    أخيرًا، أغابي هو الحب الإلهي، أو محبة "الله". وهو حب غير مشروط، بمعنى أنه سيكون موجودًا دائمًا بغض النظر عن الظروف. يعتقد لويس أن هذه غاية مسيحية: نيل محبة الله يسمو على المحبات الثلاث الأخرى. علاوة على ذلك، أغابي هو أعلى شكل من أشكال المحبة بسبب طبيعته؛ أغابي هو مسألة عطاء، وهو دائمًا خيّر. ويمكن أن نشعر بالأغابي تجاه الله، الطبيعة، كائن بشري آخر، الحيوانات، الخير، الشر، وكل ما يقع بينهما.



    3 ــ فلسفة الحب الكلاسيكية: "الندوة" لأفلاطون
    "الندوة" كتاب أساسي بالنسبة إلى فلسفة الحب، لأنه واحد من أوائل الأعمال التي تناولت هذا الموضوع، وبسبب العمق الذي يتسم به. يصوّر الحوار ندوة من النوع الذي يحدث عادة في اليونان القديمة، حيث يجتمع الرجال معًا للشرب، والتمتع بالمحادثة، الرقص، الموسيقى، أو إلقاء القصص. كُتبت الندوة على غرار شكل حوارات أفلاطون الأخرى، مع قيام الفيلسوف سقراط بسؤال الآخرين عن الموضوع.

    "يرغب المحب بالمحبوب أكثر مما يرغب باللذة الجنسية. بالتالي، يزعم لويس أن الوقوع في الحب لا ينشأ على وجه التحديد من رغبة جنسية طبيعية"


    تحدث المأدبة في بيت أغاثون، ويبدأها بأن يطلب من الرجال أن يلقوا خطبًا في مديح إله الحب والرغبة، إيروس. يناقش سبعة أشخاص بارزين موضوع الحب في سلسلة من الخطب التي تفضي إلى "سلّم الحب"؛ المفهوم الرئيسي في فلسفة الحب عند أفلاطون. ومن المهم الإشارة هنا إلى وجود ارتباط قوي وجوهري بين الحب، الجمال، والمعرفة عند أفلاطون. بالتالي، تطرح الخطب مشكلة بالنسبة إلى سقراط: بدلًا من تقديم توصيفات عمّا هو جميل، الخطب كلها عبارة عن قصص حب تتضمن ما يجده الرجال كأفراد جميلًا.
    بالنسبة إلى الفيلسوف سقراط، قصص الحب هذه محض أوهام؛ إنها لا تعطينا فكرة واضحة عمّا هو الحب الحقيقي. قصص الحب خاصة بنا، ولا تقدم نظريات حب وافية. بعد الحوارات، يبدأ سقراط بوصف ما علمتّه إياه ديوتيما عن فن الحب، وهو ما يُعرَف أيضًا باسم "سلّم الحب".



    خطبة ديوتيما
    من أجل فهم سلّم الحب عند ديوتيما، علينا أن نفهم ميتافيزيقيا أفلاطون ونظريته المعرفية، أي نظرية المُثُل. ونظرية المُثُل مبدأ أساسي يرد بصورة متكررة في كتابات أفلاطون. يعتقد أفلاطون أن ثمة حيزين للواقع: العالم المادي الذي ندركه من خلال حواسنا، وحيز مليء بكينونات يدعوها مُثُلًا. المُثُل هي الجوهر الأزلي، غير المتغير، وغير المادي للأشياء كلها، وأشياء عالمنا المادي هي محاكاة غير كاملة لمثالها.
    على سبيل المثال، عندما يرسم شخص دائرة، فإنه يتمكن من فعل ذلك بسبب وضوح المثال "دائرة". وتلك الدائرة، وكل الدوائر الأخرى الموجودة في العالم المادي، هي محاكاة غير كاملة للمثال الذي هو بمثابة طبعة زرقاء (أو مخطط أصلي) كاملة، وغير متغيرة. يوضّح أفلاطون هذه الفكرة في حوارات عديدة، لكن على وجه الخصوص في استعارة الكهف.
    يسعى أفلاطون في حواراته إلى التمييز بين الأشياء القابلة للمشاهدة، ومثال الأشياء. ويركّز، على وجه التحديد، على الأشياء التي تبدو جميلة، وعلى مثال الجمال الذي يتيح للأشياء الجميلة أن تحوز مواصفاتها. في سلّم الحب، سنرى الصعود من الشيء الجميل في العالم المادي إلى مثال الجمال.
    تبدأ ديوتيما، وهي كاهنة وفيلسوفة، بالإشارة إلى أنه من طبيعة البشر أن يحبوا الخير، ويرغبوا بأن تكون الأشياء الخيّرة لهم إلى الأبد. الجمال يلهم البشر أن "يعيدوا إنتاج" هذه الرغبة، ويخففوا من حدتها، من أجل تجاوز فنائهم نوعًا ما. بالنسبة إلى ديوتيما، يمكن فهم إعادة الإنتاج هذه على أنها "ولادة شيء جديد"؛ ولادة الحكمة والفضيلة. بالتالي، لمعرفة مثال الجمال، الجمال ذاته، على المرء أن يصعد سلّم الحب.
    بداية، الجمال المادي الذي يتمتع به شخص ما يجذب المحب، ويمثّل المحبوب الجمالَ ذاته في عيون المحبين. يتيح لنا هذا، في دوره، أن نخوض نقاشات عمّا هو جميل حسب اعتقادنا، وأن نعطي توصيفات شخصية له. وإحدى نتائج هذا هو أن يجد المحب الجمالَ ذاته الذي يحمله المحب عند كثيرين آخرين؛ إذا كان شيء ما جميلًا، فيجب أن تكون هنالك مزيد من التوصيفات له.
    على سبيل المثال، قد أجد زهرة عباد الشمس هذه جميلة بسبب بتلاتها الصفراء الزاهية وقامتها الطويلة. لكن، عندما أرفع بصري، أرى حقلًا من زهور عباد الشمس التي هي جميلة بالطريقة ذاتها، كالزهرة التي أحبها. هنا يبدأ المحب بإدراك أن الجمال المادي ليس دائمًا. وعندما يدرك ذلك، يصبح على المحبوب أن يُحبَّ بطريقة أخرى.
    أن تحب المحبوب بطريقة أخرى هو أن تحب الأجزاء غير المادية من ذلك الفرد؛ الروح. وعندما يتجاوز المحب الاستجابة للجمال المادي، يبدأ المحب بحب الأرواح الجميلة والعقول الجميلة. من هنا، يأخذ الفرد بحب الأشياء التي تخلقها الأرواح والعقول الجميلة؛ المنظومات. وهذا يتيح للمحب أن يقبل جمال المعرفة، ويحب كل أنواع المعرفة.
    "... الرجل الذي كان حتى الآن مُوجَّهًا في شؤون الحب، الذي رأى أشياء جميلة بالترتيب الصحيح، وعلى نحو صحيح، يصل الآن إلى غاية الحب؛ فجأة، سوف يبصر شيئًا جميلًا بطبيعته، جميلًا على نحو مدهش؛ ذلك، يا سقراط، هو سبب كل جهوده السابقة...".
    الدرجة الأخيرة في السلّم هي الحب لأجل الحب ذاته؛ الحب لأجل جمال الجمال ذاته. يرى الشخص أن كل شيء مُحدّد هو جميل بسبب مثاله؛ كل الأشياء الجميلة تشترك في مثال الجمال. وإدراك مثال الجمال يتيح للشخص أن يفهم معنى أن يكون الشيء جميلًا، وفي النتيجة، أن يحبّ جمال الحب. بالتالي، فلسفة الحب عند أفلاطون هي أن تكون على معرفة بمثال الجمال.



    *****

    جوردن بورك: تحمل إجازة في الفلسفة من جامعة سان دييغو. وبعد التخرج فيها، تابعت دراستها في الجامعة ذاتها كطالبة في قسم الحقوق. تحضّر رسالة لنيل درجة الدكتوراة تركز فيها على الأخلاقيات العصبية، فلسفة القانون، والفلسفة السياسية. تسعى بورك لمشاركة عالم الفلسفة مع الآخرين، وتوسيع معرفتها من خلال ذلك.

    رابط النص الأصلي:
    https://www.thecollector.com/philoso...ee-major-works
    • المترجم: سارة حبيب
يعمل...
X