ماذا ترك لي الزلزال الكبير؟
فنغ جي تساي
ترجمات
فنغ جي تساي
شارك هذا المقال
حجم الخط
في هذا النص، يتحدث الكاتب عن الزلزال العنيف الذي حدث في مدينة تانغ شان، في مقاطعة خا بي في الصين، وراح ضحيته أكثر من 242 ألف شخص، ويقال إنه من أكبر 10 كوارث طبيعية في القرن العشرين.
فنغ جي تساي: ولد عام 1942 في مدينة تيان جين، من أبرز كتاب الصين، أديب وفنان، هو الآن عميد معهد فنغ جي تساي للأدب والفنون. ترجمت أعماله إلى عدة لغات، وفاز بعدة جوائز: منها جائزة إنجاز العمر عام 2018، وجائزة "الكاتب المتميز"، وجائزة المائة زهرة الأدبية في دورتها الـ 19، عام 2021.
ترجمت روايته "شكرًا للحياة" إلى العربية.
[الترجمة عن الصينية: مي عاشور]
وسط مقتنياتي الشخصية، وجدت ظرفًا قديمًا قاتمًا اصفرَّ لونه، وبداخله عشرات الصور لما تحول إلى ركام عقب الزلزال الكبير، وكان ذلك "بيتي". كذلك كانت في داخل الظرف ورقة روزنامة لتاريخ ذلك اليوم. وعلى الورقة الرقيقة البيضاء طُبع بخط أسود: 28 يوليو (تموز) 1976. سأحكي لاحقًا كيف جاءت هذه الصور وورقة الروزنامة. أما ما أود قوله الآن، فهو أني في كل مرة أفتح فيها هذا الظرف، يصير قلبي غريبًا.
لكن كيف يتغير ويصير غريبًا؟ كيف أصبح ثقيلًا بشكل لا يطاق؟، هل كان نوعًا من اليأس ينقض مجددًا عليه؟. أتذكر أن هناك صديقًا، عندما علم بأن بيتي قد دُمر في الزلزال سألني: "هل فكرت في الموت، حتى ولو كفكرة ومضت في عقلك فجأة؟". رمقته بنظرة. فمن الواضح أن صديقي هذا لم يعش هذا الزلزال الكبير، ولا يعلم كيف يكون شعور مجابهة كارثة مباغتة.
فلو أقول إنه يأس، كان ذلك فقط في غضون الأربعين ثانية للهزة الأرضية العنيفة. في الواقع، وقت الزلزال الكبير كان طويلًا جدًا. وأخبرني لاحقًا جاري الذي يقطن في الطابق الأسفل، أنني كنت أصرخ طوال مدة الزلزلة، أصرخ بشكل هستيري، وكـأنني أعوي، ولكنني لم أدرك ذلك.
حينها كنت أنام على أرضية الغرفة العلوية للمنزل، بسبب الطقس القائظ الخانق. وفي اللحظة التي قفزت فيها بفعل الانتفاضة العنيفة المفاجئة للأرض، اندفعت- بشكل تلقائي تمامًا- صوب ابني الذي كان ينام في المهد الحديدي. وبمجرد أن سحبته، سحق الطابق المنهار الجزء العلوي للمهد. ولا يمكن تخيل العواقب، لو كانت حركتي أبطأ قليلًا. كنت أضم طفلي، محاولًا الانحناء عليه لتغطيته بجسدي، ولكن لم يكن هذا ممكنًا. ظل المهد يهتز بجنون، كمركب صغير وسط أمواج متلاطمة ورياح عاتية. أحدث الهيكل الخشبي للسقف - والذي عفا عليه الزمن- صريرًا عاليًا مرعبًا، وأخذت الحجارة تنهال من السقف كمطر منهمر في منتصف الغرفة. رأيت أسقف الجَمَلُون في الناحية الشمالية، وكذلك النوافذ، تتطاير متساقطة بداخل الزقاق الخلفي مثل أشرعة ضخمة. أما ضوء الزلزال الذي يشبه البرق، فكان يضيء المباني العتيقة الموجودة خلف بيتي، والتي كانت كلها تهتز بجنون، ويتطاير منها الدخان والغبار، ودويها يصم الآذان. وكأن الأرض جنت ولا يتوقف ارتجاجها، وكأنه لن يتوقف من الأساس، تمامًا مثل "الثورة الثقافية" حينذاك. شعرت بأن بنايتي على وشك الانهيار. في تلك اللحظة، لم أجد زوجتي التي كانت تنام في الردهة، ولم أسمع نداءها. شعرت بيد طفلي متشبثة بكتفي. فراودني في تلك اللحظة شعور بأنها نهاية العالم.
ولكن تمامًا حينها، هدأت الأرض فجأة، وكأنها قطار كبح سرعته من دون مقدمات. كان شعورًا مدهشًا للغاية، تلاشى كل الفزع بغتة، وساد العالم بأسره ظلام دامس وصمت كتيم. ركلت فورًا الركام الذي كان يغطى قدمي وقفزت تحت السرير، وناديت زوجتي. سمعتها تجيبني. كانت في الأصل، منبطحة أسفل إطار باب الغرفة، فقد حماها. فجأة داهمني شعور بتدفق الدم في كل جسدي، وكأنني أفرّ من الجحيم، كانت هذه المرة الأولى التي تغمرني فيها بقوة سعادة البعث من جديد، وتطلعي للتمسك بالحياة. صحت بصوت عال: "هيا بسرعة... فلنفر إلى الخارج". خفت أن يضرب الزلزال من جديد.
كان قد انهار سقف الممر والسلالم سدت بعوارض وروافد خشبية، وحجارة مبعثرة. قمنا بشق مخرج لنا بشق الأنفس، وكأننا فئران حفرت متسللة إلى الخارج. فررنا مسرعين خارج المبنى القديم، المحتمل انهياره بمجرد حدوث هزة أرضية أخرى. وبخروجنا من الزقاق رأينا الشوارع المعتمة مكتظة بأناس يعانون من هول الصدمة، ويركضون في كل مكان. كان العديد منهم بجسد نصف عار. فكلهم ناجون بالحظ من قبضة إله الموت. كنت أحتضن ابني وزوجتي وأركض، حتى وصلنا إلى مكان واسع بالشارع، تلفتنا حولنا فلم نجد مباني شاهقة، ولا عمدان نور، كان المكان آمنًا نسبيًا، فسحبت قفصًا من عند باب متجر بقالة، وقلبته على وجهه، ثم جعلت زوجتي تجلس عليه، وقلت لها: "لا تتحركا من هنا، سأذهب لرؤية عائلتنا".
ركضت عائدًا إلى البيت للبحث عن الدراجة. وعندما رآني جاري بدون سروال خارجي، أعطاني بنطال عمل بحمالتي كتف. كانت قدماي طويلتين والبنطال قصير جدًا يكشفهما. لم أكترث بأي شيء حينها، فكوني على قيد الحياة كان هو كل شيء. امتطيت الدراجة، متجهًا لرؤية والداي وحمواي، وبانعطافي إلى الشارع الخلفي، أدركت شدة الزلزال هذه المرة. كانت الشوارع الضيقة قد تعرجت وشوهت بفعل الهزة الأرضية العنيفة، صارت كالأمواج، وكذلك بعض الأشجار وعمدان الإنارة كانت ملقاة بعرض الشارع، فبدت وكأنها تعرضت توًا إلى قصف الدبابات. قُطع التيار الكهربائي بأسره، كانت النداءات تنبعث من المباني المظلمة على ضفتي الشارع. من حسن الحظ، أنني لم أخلع ساعة يدي قبل أن أنام، رفعت معصمي لأنظر إلى الوقت، كانت الساعة الرابعة والنصف فجرًا تقريبًا. لحسن الطالع، أن والداي وحمواي كانوا يقطنون بنفس البناية، لم تتضرر بيوتهم، كان الجميع سالمًا، فقد فروا إلى شارع أكثر اتساعًا، بمسافة أمنت لكبار الأسرة مكانًا، وعدت إلى البيت، كان قبل حل البكور. عندما رأيت زوجتي اكتشفت أن السواد لطخ وجهينا وأذرعنا؛ لأنه في أثناء الزلزال تساقط علينا الغبار العالق في السقف لسنوات طوال. أرسلت زوجتي عند بيت صديق. كانت ربة ذلك البيت مُعلمة زوجتي في المدرسة الابتدائية، وتربطنا بها علاقة جيدة. ومن هناك ركبت الدراجة مجددًا على عجالة، وذهبت لرؤية أصدقائي.
من وقت البكور وحتى الرابعة عصرًا، مررت تباعًا على 16 بيتًا. كانت كلها لأصدقائي المقربين. في الأيام الشاحبة الفقيرة "للثورة الثقافية" كان الأصدقاء هم الثروة الروحية الأهم على الإطلاق. كنا نتبادل الزيارات حينذاك، وكان هدفنا غاية في البساطة؛ وهو أن نرى إذا ما كان حل بالمرء مكروه أم لا، وكنا نشكر السماء والأرض، ونلقي التحية ونغادر، بمجرد أن نراه بخير وسالمًا. يعتبر أصدقائي محظوظين، ما عدا صديق رسام أصيب في أسفل ظهره، أما الجميع فقد نجوا من ذلك. على امتداد الطريق، رأيت عددًا ضخمًا من الجثث مغطاة بملايات، وموضوعة على جانب الطريق، كنت لا أستوعب، كيف لا زلت أحيا في هذه الدنيا. في الظهيرة، وبينما أنا في الطريق أقود الدراجة، أوقفني أشخاص يرتدون معاطف بيضاء، كانوا متطوعين من المشفى، ومنشغلين في إنشاء نقطة إسعاف في زاوية الشارع. علمت أن ساقاي صدمتا بشيء وجرحتا، فقط عندما أخبروني بذلك. كانت هناك أماكن لا زالت تنزف. بعدما وضعت لي الممرضة المطهر، قامت بوضع محلول الجنتيانا فصارت قدماي ملونتين. بدوت كجريح أصيب في ميدان المعركة. وهكذا... صادفت مجددًا أصدقائي وأناسًا أعرفهم، وعندما علموا بدمار بيتي، أخرجوا نقودًا من جيوبهم بلا أدنى تردد. كان رفضها مستحيلًا. دسوها بحزم وإصرار في الجيب الصغير الأمامي الموجود على صدر ملابس العمل التي استلفتها. في هذه الأيام، كانت نقود الناس قليلة، بين يوانين، أو ثلاثة أو حتى خمسة يوانات. كان أصدقائي كثيرين، فأخذت النقود التي وضعوها لي في الجيب الأمامي لقميصي تبرز منه شيئًا فشيئًا. اليوم الذي تلا الزلزال كان حارًا للغاية، ركضت طيلة اليوم، فغمر العرق جسدي، وحينما عدت في الظهيرة، كانت النقود الموجودة في جيبي قد التصقت ببعضها بإحكام، وتحولت إلى كرة كبيرة جامدة بحجم القبضة. أخرجتها وقمت بفصلها، وعددتها أنا وزوجتي، فوجئنا بأنها 71 يوانًا، لم يكن لدي دخل كبير بهذا الشكل طيلة السنوات العشر "للثورة الثقافية". تأثرت بشدة!، وحينها حُفر بعقلي من أعطوني النقود، والآن مر على ذلك الأمر 30 عامًا، وتلاشت من ذاكرتي أسماؤهم ومن يكونون، ولكنني أتذكر جيدًا ما هي الثروة الحقيقية في الدنيا، بل وأين تختبئ؟ ومتى تمامًا تظهر؟
طالما كان الرسام ني ما زي رين (*) يقول لي: الحياة شاقة للغاية على أرض التبت. تربتها جدباء، والأكسجين فيها شحيح، وكذلك منعزلة. ولكن على ماذا يعتمد التبتيون في التمسك بالحياة؟، هم يعتمدون على الروح، والإيمان والوجدان. واحترام المرء للإيمان والالتزام به، ومواساة قلوب الناس بعضهم بعضًا.
الزلزال الكبير كان آخر كارثة قبل انتهاء "الثورة الثقافية"، فقد أضاف كارثة طبيعية إلى تلك البشرية، ودفع الناس بلا هوادة إلى حافة الهاوية. ولكن أليس ما كان يشد أزرنا لنستمر في العيش، هو تطلعنا إلى عودة الربيع، وغريزة الحياة، ودعم الناس ومواساتهم لبعضهم البعض؟ ألم تمتد دائمًا أمام عيني، وبشكل غير متوقع، يد قوية ودافئة في أوج صعوبات وقسوة عشرات السنوات التي عشتها؟
أؤمن أن البرودة الحقيقية في هذا العالم، ولكن الدفء الحقيقي في دنيا البشر.
اليوم الثالث بعد الزلزال الكبير، استجمعت شجاعتي، وخاطرت بالتوابع المستمرة، وصعدت إلى بيتي الموجود في ذلك المبنى الخطر. ذُهلت عندما وجدت المدخنة الضخمة والثقيلة للبيت المجاور تتوسط حجرتي، كيف طارت إلى هنا؟، ومع ذلك لم يكن أول ما أردت فعله، هو العثور على ملابس. فقد مررت بتجربتين جردت فيهما من كل شيء. مرة أثناء "الثورة الثقافية"، عندما طردت من بيتي، والثانية في الزلزال الكبير.
لدي شعور بازدراء الثروة. حينها، كل ما فعلته أنني حملت كاميرا "سي جال" كنت قد استعرتها، وقمت بتوثيق كل المشاهد الحقيقية. في تلك اللحظة، لمحت فجأة على الجدار المتهالك، تلك الروزنامة المعلقة. كان تاريخها متوقفًا عند يوم الزلزال. قمت بانتزاع الورقة، واحتفظت بها إلى اليوم.
أريد الاحتفاظ بهذا اليوم. ثمة أيام في هذه الحياة علينا أن نبذل جهدًا لإبقائها لأننا نخسر العديد من الأشياء فيها، ولكن في نفس الوقت، يظل ما كسبناه أكثر بكثير. فمربط الفرس، هو إذا ما كنا نستطيع رؤيته أم لا. فلو رأيناه، سيغير نظرتنا للحياة، ومن ثم سيكون مكسبًا لنا طيلة العمر.
[كتب هذا النصّ في تموز/ يوليو 2006، في الذكرى الثلاثين للزلزال الكبير]
(*) ني ما زي رين (1949-): فنان صينيّ من قومية التبت.
فنغ جي تساي
ترجمات
فنغ جي تساي
شارك هذا المقال
حجم الخط
في هذا النص، يتحدث الكاتب عن الزلزال العنيف الذي حدث في مدينة تانغ شان، في مقاطعة خا بي في الصين، وراح ضحيته أكثر من 242 ألف شخص، ويقال إنه من أكبر 10 كوارث طبيعية في القرن العشرين.
فنغ جي تساي: ولد عام 1942 في مدينة تيان جين، من أبرز كتاب الصين، أديب وفنان، هو الآن عميد معهد فنغ جي تساي للأدب والفنون. ترجمت أعماله إلى عدة لغات، وفاز بعدة جوائز: منها جائزة إنجاز العمر عام 2018، وجائزة "الكاتب المتميز"، وجائزة المائة زهرة الأدبية في دورتها الـ 19، عام 2021.
ترجمت روايته "شكرًا للحياة" إلى العربية.
[الترجمة عن الصينية: مي عاشور]
وسط مقتنياتي الشخصية، وجدت ظرفًا قديمًا قاتمًا اصفرَّ لونه، وبداخله عشرات الصور لما تحول إلى ركام عقب الزلزال الكبير، وكان ذلك "بيتي". كذلك كانت في داخل الظرف ورقة روزنامة لتاريخ ذلك اليوم. وعلى الورقة الرقيقة البيضاء طُبع بخط أسود: 28 يوليو (تموز) 1976. سأحكي لاحقًا كيف جاءت هذه الصور وورقة الروزنامة. أما ما أود قوله الآن، فهو أني في كل مرة أفتح فيها هذا الظرف، يصير قلبي غريبًا.
لكن كيف يتغير ويصير غريبًا؟ كيف أصبح ثقيلًا بشكل لا يطاق؟، هل كان نوعًا من اليأس ينقض مجددًا عليه؟. أتذكر أن هناك صديقًا، عندما علم بأن بيتي قد دُمر في الزلزال سألني: "هل فكرت في الموت، حتى ولو كفكرة ومضت في عقلك فجأة؟". رمقته بنظرة. فمن الواضح أن صديقي هذا لم يعش هذا الزلزال الكبير، ولا يعلم كيف يكون شعور مجابهة كارثة مباغتة.
فلو أقول إنه يأس، كان ذلك فقط في غضون الأربعين ثانية للهزة الأرضية العنيفة. في الواقع، وقت الزلزال الكبير كان طويلًا جدًا. وأخبرني لاحقًا جاري الذي يقطن في الطابق الأسفل، أنني كنت أصرخ طوال مدة الزلزلة، أصرخ بشكل هستيري، وكـأنني أعوي، ولكنني لم أدرك ذلك.
حينها كنت أنام على أرضية الغرفة العلوية للمنزل، بسبب الطقس القائظ الخانق. وفي اللحظة التي قفزت فيها بفعل الانتفاضة العنيفة المفاجئة للأرض، اندفعت- بشكل تلقائي تمامًا- صوب ابني الذي كان ينام في المهد الحديدي. وبمجرد أن سحبته، سحق الطابق المنهار الجزء العلوي للمهد. ولا يمكن تخيل العواقب، لو كانت حركتي أبطأ قليلًا. كنت أضم طفلي، محاولًا الانحناء عليه لتغطيته بجسدي، ولكن لم يكن هذا ممكنًا. ظل المهد يهتز بجنون، كمركب صغير وسط أمواج متلاطمة ورياح عاتية. أحدث الهيكل الخشبي للسقف - والذي عفا عليه الزمن- صريرًا عاليًا مرعبًا، وأخذت الحجارة تنهال من السقف كمطر منهمر في منتصف الغرفة. رأيت أسقف الجَمَلُون في الناحية الشمالية، وكذلك النوافذ، تتطاير متساقطة بداخل الزقاق الخلفي مثل أشرعة ضخمة. أما ضوء الزلزال الذي يشبه البرق، فكان يضيء المباني العتيقة الموجودة خلف بيتي، والتي كانت كلها تهتز بجنون، ويتطاير منها الدخان والغبار، ودويها يصم الآذان. وكأن الأرض جنت ولا يتوقف ارتجاجها، وكأنه لن يتوقف من الأساس، تمامًا مثل "الثورة الثقافية" حينذاك. شعرت بأن بنايتي على وشك الانهيار. في تلك اللحظة، لم أجد زوجتي التي كانت تنام في الردهة، ولم أسمع نداءها. شعرت بيد طفلي متشبثة بكتفي. فراودني في تلك اللحظة شعور بأنها نهاية العالم.
ولكن تمامًا حينها، هدأت الأرض فجأة، وكأنها قطار كبح سرعته من دون مقدمات. كان شعورًا مدهشًا للغاية، تلاشى كل الفزع بغتة، وساد العالم بأسره ظلام دامس وصمت كتيم. ركلت فورًا الركام الذي كان يغطى قدمي وقفزت تحت السرير، وناديت زوجتي. سمعتها تجيبني. كانت في الأصل، منبطحة أسفل إطار باب الغرفة، فقد حماها. فجأة داهمني شعور بتدفق الدم في كل جسدي، وكأنني أفرّ من الجحيم، كانت هذه المرة الأولى التي تغمرني فيها بقوة سعادة البعث من جديد، وتطلعي للتمسك بالحياة. صحت بصوت عال: "هيا بسرعة... فلنفر إلى الخارج". خفت أن يضرب الزلزال من جديد.
الزلزال الكبير كان آخر كارثة قبل انتهاء "الثورة الثقافية" أضاف كارثة طبيعية إلى تلك البشرية، ودفع الناس بلا هوادة إلى حافة الهاوية |
ركضت عائدًا إلى البيت للبحث عن الدراجة. وعندما رآني جاري بدون سروال خارجي، أعطاني بنطال عمل بحمالتي كتف. كانت قدماي طويلتين والبنطال قصير جدًا يكشفهما. لم أكترث بأي شيء حينها، فكوني على قيد الحياة كان هو كل شيء. امتطيت الدراجة، متجهًا لرؤية والداي وحمواي، وبانعطافي إلى الشارع الخلفي، أدركت شدة الزلزال هذه المرة. كانت الشوارع الضيقة قد تعرجت وشوهت بفعل الهزة الأرضية العنيفة، صارت كالأمواج، وكذلك بعض الأشجار وعمدان الإنارة كانت ملقاة بعرض الشارع، فبدت وكأنها تعرضت توًا إلى قصف الدبابات. قُطع التيار الكهربائي بأسره، كانت النداءات تنبعث من المباني المظلمة على ضفتي الشارع. من حسن الحظ، أنني لم أخلع ساعة يدي قبل أن أنام، رفعت معصمي لأنظر إلى الوقت، كانت الساعة الرابعة والنصف فجرًا تقريبًا. لحسن الطالع، أن والداي وحمواي كانوا يقطنون بنفس البناية، لم تتضرر بيوتهم، كان الجميع سالمًا، فقد فروا إلى شارع أكثر اتساعًا، بمسافة أمنت لكبار الأسرة مكانًا، وعدت إلى البيت، كان قبل حل البكور. عندما رأيت زوجتي اكتشفت أن السواد لطخ وجهينا وأذرعنا؛ لأنه في أثناء الزلزال تساقط علينا الغبار العالق في السقف لسنوات طوال. أرسلت زوجتي عند بيت صديق. كانت ربة ذلك البيت مُعلمة زوجتي في المدرسة الابتدائية، وتربطنا بها علاقة جيدة. ومن هناك ركبت الدراجة مجددًا على عجالة، وذهبت لرؤية أصدقائي.
من وقت البكور وحتى الرابعة عصرًا، مررت تباعًا على 16 بيتًا. كانت كلها لأصدقائي المقربين. في الأيام الشاحبة الفقيرة "للثورة الثقافية" كان الأصدقاء هم الثروة الروحية الأهم على الإطلاق. كنا نتبادل الزيارات حينذاك، وكان هدفنا غاية في البساطة؛ وهو أن نرى إذا ما كان حل بالمرء مكروه أم لا، وكنا نشكر السماء والأرض، ونلقي التحية ونغادر، بمجرد أن نراه بخير وسالمًا. يعتبر أصدقائي محظوظين، ما عدا صديق رسام أصيب في أسفل ظهره، أما الجميع فقد نجوا من ذلك. على امتداد الطريق، رأيت عددًا ضخمًا من الجثث مغطاة بملايات، وموضوعة على جانب الطريق، كنت لا أستوعب، كيف لا زلت أحيا في هذه الدنيا. في الظهيرة، وبينما أنا في الطريق أقود الدراجة، أوقفني أشخاص يرتدون معاطف بيضاء، كانوا متطوعين من المشفى، ومنشغلين في إنشاء نقطة إسعاف في زاوية الشارع. علمت أن ساقاي صدمتا بشيء وجرحتا، فقط عندما أخبروني بذلك. كانت هناك أماكن لا زالت تنزف. بعدما وضعت لي الممرضة المطهر، قامت بوضع محلول الجنتيانا فصارت قدماي ملونتين. بدوت كجريح أصيب في ميدان المعركة. وهكذا... صادفت مجددًا أصدقائي وأناسًا أعرفهم، وعندما علموا بدمار بيتي، أخرجوا نقودًا من جيوبهم بلا أدنى تردد. كان رفضها مستحيلًا. دسوها بحزم وإصرار في الجيب الصغير الأمامي الموجود على صدر ملابس العمل التي استلفتها. في هذه الأيام، كانت نقود الناس قليلة، بين يوانين، أو ثلاثة أو حتى خمسة يوانات. كان أصدقائي كثيرين، فأخذت النقود التي وضعوها لي في الجيب الأمامي لقميصي تبرز منه شيئًا فشيئًا. اليوم الذي تلا الزلزال كان حارًا للغاية، ركضت طيلة اليوم، فغمر العرق جسدي، وحينما عدت في الظهيرة، كانت النقود الموجودة في جيبي قد التصقت ببعضها بإحكام، وتحولت إلى كرة كبيرة جامدة بحجم القبضة. أخرجتها وقمت بفصلها، وعددتها أنا وزوجتي، فوجئنا بأنها 71 يوانًا، لم يكن لدي دخل كبير بهذا الشكل طيلة السنوات العشر "للثورة الثقافية". تأثرت بشدة!، وحينها حُفر بعقلي من أعطوني النقود، والآن مر على ذلك الأمر 30 عامًا، وتلاشت من ذاكرتي أسماؤهم ومن يكونون، ولكنني أتذكر جيدًا ما هي الثروة الحقيقية في الدنيا، بل وأين تختبئ؟ ومتى تمامًا تظهر؟
أريد الاحتفاظ بهذا اليوم. ثمة أيام في هذه الحياة علينا أن نبذل جهدًا لإبقائها لأننا نخسر العديد من الأشياء فيها |
الزلزال الكبير كان آخر كارثة قبل انتهاء "الثورة الثقافية"، فقد أضاف كارثة طبيعية إلى تلك البشرية، ودفع الناس بلا هوادة إلى حافة الهاوية. ولكن أليس ما كان يشد أزرنا لنستمر في العيش، هو تطلعنا إلى عودة الربيع، وغريزة الحياة، ودعم الناس ومواساتهم لبعضهم البعض؟ ألم تمتد دائمًا أمام عيني، وبشكل غير متوقع، يد قوية ودافئة في أوج صعوبات وقسوة عشرات السنوات التي عشتها؟
أؤمن أن البرودة الحقيقية في هذا العالم، ولكن الدفء الحقيقي في دنيا البشر.
اليوم الثالث بعد الزلزال الكبير، استجمعت شجاعتي، وخاطرت بالتوابع المستمرة، وصعدت إلى بيتي الموجود في ذلك المبنى الخطر. ذُهلت عندما وجدت المدخنة الضخمة والثقيلة للبيت المجاور تتوسط حجرتي، كيف طارت إلى هنا؟، ومع ذلك لم يكن أول ما أردت فعله، هو العثور على ملابس. فقد مررت بتجربتين جردت فيهما من كل شيء. مرة أثناء "الثورة الثقافية"، عندما طردت من بيتي، والثانية في الزلزال الكبير.
لدي شعور بازدراء الثروة. حينها، كل ما فعلته أنني حملت كاميرا "سي جال" كنت قد استعرتها، وقمت بتوثيق كل المشاهد الحقيقية. في تلك اللحظة، لمحت فجأة على الجدار المتهالك، تلك الروزنامة المعلقة. كان تاريخها متوقفًا عند يوم الزلزال. قمت بانتزاع الورقة، واحتفظت بها إلى اليوم.
أريد الاحتفاظ بهذا اليوم. ثمة أيام في هذه الحياة علينا أن نبذل جهدًا لإبقائها لأننا نخسر العديد من الأشياء فيها، ولكن في نفس الوقت، يظل ما كسبناه أكثر بكثير. فمربط الفرس، هو إذا ما كنا نستطيع رؤيته أم لا. فلو رأيناه، سيغير نظرتنا للحياة، ومن ثم سيكون مكسبًا لنا طيلة العمر.
[كتب هذا النصّ في تموز/ يوليو 2006، في الذكرى الثلاثين للزلزال الكبير]
(*) ني ما زي رين (1949-): فنان صينيّ من قومية التبت.
- المترجم: مي عاشور