موسم العنب
تينيسي وليامز
ترجمات
تينيسي ويليامز في لندن (31/ 7/ 1962/Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
تينيسي ويليامز (1911 ـ 1983): ولد في ولاية ميسسيبي في الجنوب الأميركي لعائلة من أصول إنكليزية. عُرِف ويليامز على وجه الخصوص ككاتب مسرحي، لكنه كتب أيضًا كثيرًا من القصص القصيرة، الشعر، المقالات، وله روايتان، ومجلد مذكرات. من أشهر مسرحياته: "معرض الوحوش الزجاجية" (1944)؛ "عربة اسمها الرغبة" (1947)، التي تعد من أفضل المسرحيات الأميركية في القرن العشرين؛ "قطة على صفيح ساخن" (1955)، وغيرها.
قصة "موسم العنب" المترجمة هنا ستُنشر ضمن مجموعة من قصص ويليامز المبكرة تصدرها دار نشر "نيو دايركشنز" في أبريل/ نيسان الحالي.
ترجمة وتقديم: سارة حبيب
بما أني كنتُ سألتحق بالجامعة ذلك الخريف، شعر والداي بأن عليّ أن أقوّي نفسي في معسكر صيفي ما. فأرسلاني إلى مكان في جبال الأوزارك يطلّ على بحيرة جميلة. كان يدعى معسكرًا، لكنه لم يكن للصبيان فحسب. كان لكلا الجنسين، ولكلّ الأعمار. كان مكانًا ريفيًا مريحًا. لكني أصبتُ بخيبة أمل حين عرفتُ أن معظم الشباب قد ذهبوا إلى معسكر آخر على بعد أميال عدة من البحيرة في اتجاه السد. أمضيتُ كثيرًا من الوقت بمفردي في ذلك الصيف، الأمر الذي ليس جيدًا لصبي في السابعة عشرة.
كان صيفًا جافًا. لم تكن فيه سوى أيام ماطرة قليلة. لكن ريف الأوزارك، بتلاله الخضراء الوادعة، وبحيراته وأنهاره الرائقة، لم يصبح قبيحًا، أو بنيّ اللون، كما يحدث في معظم المناطق في مواسم الجفاف. ظلّ الصفصاف بمحاذاة البحيرة أخضرَ على نحو واضح، في حين بدت الغابات عند سفح التل، قرابة نهاية شهر يوليو، كما لو أنها قد رُشَّت بنبيذ أرجواني، أحمر، وكهرمانيّ. ولم توحِ ألوانها التي صارت أغمق فأغمق باليباس، أو توقف الحياة. لقد بدت، بالأحرى، مثل فائض متوهج، مثل وفرةِ حياة متفجرة. وعندما تقود سيارة مفتوحة عبر الريف، يكون الهواء مُنكّهًا بعض الشيء بالنبيذ، لأن العنب نما بوفرة في ذلك الموسم. ففي حين اصفرّت حقول الذرة وضمرت، اندفع العنب الأرجواني بأعداد كبيرة من عرائشه، كما لو أنه قد وقّع اتفاقية سرّية مع الطبيعة، أو سحبَ من مخزونِ حياةٍ احتياطي مخبأ تحت الأرض، فكوّمه سكان التل النحيلون في سلال بيضاء كبيرة، ووقفوا على طول الدروب والطرقات السريعة المشمسة وهم يصيحون "عنب، عنب، عنب"، حتى إن أذنيك كما عينيك وفتحات أنفك وفمك تمتلئ به، إلى أن يبدو أن كلّ جسد الريف وروحه قد تُرجِما بطريقة ما إلى هذا الإزهار الشاسع للفاكهة الأرجوانية الحلوة.
ربما كان الأثرَ المُسكِر للهواء المنكّه بالنبيذ، أو ربما لم تكن سوى جِدّة بقائي كثيرًا بمفردي، لكني وقعتُ ذلك الصيف في نوع من الافتتان، نوع من الثمالة المزاجية، الأمر الذي أزعجني وأخافني بقدرٍ ليس بالقليل.
لقد عشتُ حياة صبيانية مليئة بالحيوية. وكنتُ على الدوام نموذج الانبساطي الشاب، أتمتعُ بالألعاب ورفقة الصبيان الآخرين، وليس عندي سوى القليل من الوقت للقراءة والتفكيرِ المجرد، القليل من الوقت للنظر نحو الداخل إلى لغز ذاتي. وهكذا، في هذا الصيف الجاف عند البحيرة الجميلة، وبينما انخرطتُ ببطء في عادة الاستبطان العميق، متأمّلًا وحالمًا بنفسي وبالحياة وبمعنى الأشياء، شعرتُ كما لو أني أستيقظ من حلم طويل، أو أغرق في واحد. كنتُ وحيدًا وخائفًا وراضيًا على نحو غريب.
صار من عادتي في ذلك الصيف أن أنزل إلى البحيرة بمفردي بعد الإفطار مباشرة، أفكّ مرسى زورق تجديف، أو قارب كانو، من رصيف القوارب الرمادي المتداعي، وأجدّفَ بالزورق، أو بالكانو، إلى وسط البحيرة، ومن ثم أستلقي في قعر القارب، أخلع ملابسي كلها ما عدا سروال السباحة، وأترك للتيار البطيء أن يحملني تحت الشمس الذهبية الحارقة، بينما يسلّم وعيي نفسه، مثل القارب، لتيار بطيء من الأحلام وأحلام اليقظة.
أحيانًا، كنت أغفو بينما أنجرف. وأستيقظ لأجد نفسي في منطقة غير مألوفة. ربما أكون قد انجرفتُ أميالًا عدة بعيدًا عن المعسكر، والشمس قد بلغت أوجها في أثناء نومي. كانت البحيرة تصير أضيق، أو أوسع، أو ربما أنا الذي كنت أنجرفُ مقتربًا من الضفة ليصير قربي مباشرة جدار رطب من الصخور الرمادية تندفعُ منه سراخس غريبة وزهور، أو يصير فوق رأسي قبة رائعة شبيهة بالريش مكونة من أغصان الصفصاف ذات اللون الذهبي المخضّر، تظلّلني أنا ومركبي الجانح، وليس حولي أية حركة، أية همسة، في الظهيرة الخالية من الريح.
دائمًا خلفي، في آخر البحيرة، كانت هنالك حقول العنب المفتوحة، ومهما بلغ سكون الهواء، كان يحمل دائمًا نكهة نبيذ خفيفة.
كنتُ أستلقي في قاع القارب، وأواصل التحديق إلى ما انفتحت عيناي عليه، من دون أن أدير رأسي، أو أحرك جسدي قط، خوفًا من إبطال السحر. كنت أتخيل أني أثناء نومي انجرفتُ بالفعل إلى مكان مجهول، مملكة خرافية، جزيرة أفالون، أو شيء من هذا القبيل، مكان يمكن أن تحدث فيه كل أنواع الأشياء، وعادة ما تكون قد حدثت بالفعل.
كان من الصعب أن أُخرِج نفسي من تلك الأحلام. كان من الصعب أن أدير عينيّ محدّقًا كما لو كنتُ منومًا مغناطيسيًا إلى جدار الصخور الرمادي الرطب، أو القبة المتلألئة من الصفصاف المضاء بنور الشمس، راجعًا إلى الامتداد الزيتيّ اللون للبحيرة. وعندما أقوم بإيقاظ نفسي في آخر الأمر، كنت أشعر أني متبلدٌ في داخلي على نحو غريب، ومنهَكٌ. لم يكن مجرد الخمول الذي تشعر به بعد نوم طويل منتصف النهار. كان الأمر أشبه بالتأثيرات التالية لتناول دواء قوي. كنت أشعر أحيانًا بضعف شديد حدّ أن يغدو من الصعب عليّ التجديف عائدًا بالزورق، أو بقارب الكانو عكس التيار. مع هذا، لم أعرف أبدًا على وجه التحديد ما الذي حدث في داخلي في أثناء الحلم، أو كم دام من الوقت، أو لماذا، بحق السماء، تصرّفتُ على هذا النحو! هل كنتُ أفقد عقلي؟
مع مرور الصيف، ازداد عدد سكان المعسكر الصغير. ففي كل عطلة نهاية أسبوع، كان حشد جديد، أو اثنان، يأتون بسياراتهم من سانت لويس، أو كانساس سيتي، أو حتى من أماكن أبعد من ذلك. عندما وصلتُ أول الأمر، في بدايات يونيو، كان المكان يبدو مقفرًا، وشعرتُ بوحدة مريرة، وتمنيتُ لو أن بعض الناس، أيّ نوع من الناس، يأتون. لكني تغيرت الآن. لم أعد أشعر بإثارة الترقب عند وصول مجموعة، أو عائلة جديدة إلى المعسكر، متسائلًا في كل مرة كيف ستكون هذه المجموعة، مراقِبًا بمتعة معداتهم الرياضية، إنما خائب الأمل، عادة، لأنهم معظمهم يكونون إمَّا أصغر سنًّا مما يجب، أو أكبر سنًّا. الآن، رؤية سيارة مغبّرة تتمايل على طريق المعسكر مع مضارب التنس وصنارات الصيد، والوجوه المتلهفة وهي تبرز من النوافذ، وجوهٌ تبتسم وتستجدي أن تُقبَل في هذا المكان وفي حياته، لم تعد تمنحني أية متعة، بل ملأتني بانزعاج غامض. كنتُ أتحول إلى عجوز نزق لا يريد شيئًا أكثر من مكان هادئ للنوم، إلا أن النوم لم يكن ما أريده، بل الغرق في الأحلام.
بعد ذلك، بدأتُ أخاف من نفسي حقًا. توقفتُ عن الخروج بمفردي إلى البحيرة. أقمتُ صداقة مع بروفيسور شاب كان يمضي عطلته في المعسكر. لعبتُ التنس وتعلمتُ أن ألعب لعبة بريدج العقد مع بعض الأزواج الشباب. حاولتُ ألا أفكر بأشعة الشمس على البحيرة، وعلى جلدي العاري، أو بالشذى الخفيف الشهيّ للعنب الأرجواني.
نحو نهاية الصيف، قابلتُ فتاة شابة. لم أرَ فيها أيّ جاذبية خاصة. لم تبدُ جميلة، أو غير جميلة. ربما كانت جميلة بالفعل، لكني كنتُ في حينها أكثر يفاعة من أن أجد الجمال في أي شيء ما عدا خطوط وجه المرأة وقوامها. كانت أكبر سنًّا مني بكثير، كانت في حوالي الخامسة والعشرين، وكان في وسعي ملاحظةُ أنها كانت وحيدة، وحيدة جدًا، وتريد من كل قلبها أن تتقرّب من شخص ما، تمامًا بقدر ما كنتُ أريد أن أنسلّ بعيدًا، أن أطفو وحيدًا على سطح البحيرة.
أعارني البروفيسور الشاب بعض الكتب. أعارني كتابًا لنيتشه وجدتُه على وجه الخصوص مثيرًا للقلق.
هل من الممكن، سألتُ نفسي، أن تكون كلّ الأشياء عديمة الجدوى وغير محدّدة كما جعلها نيتشه تبدو؟ هززتُ كتفيّ لا مباليًا، بعد حين، متذكِّرًا أشعة الشمس على جسدي وعلى البحيرة، والشذى الموحي بالعنب على نحو غامض. إن ذلك الشك الهائل، فكرتُ في نفسي، كان بصورة، أو بأخرى، غير ذي صلة بالحياة في آخر الأمر!
في أحد المساءات، كنتُ أقرأ في هذا الكتاب على شرفة الكوخ الخشبي الرئيسي الذي يطل على البحيرة، شاعرًا على وجه التحديد بالتمرد ضد معتقداته، عندما أتت الفتاة إلى الشرفة وجلست على كرسي من الخيزران قرب كرسيّي. ومن دون أن أرفع عينيّ عن الكتاب، عرفتُ أنها كانت تنظر إليّ، متسائلة ربما فيما إذا كان عليها أن تتكلم. كانت قد نظرت إليّ قبل ذلك. إنها في المعسكر منذ حوالي أسبوعين. ولم أكن مدركًا لوجودها إلا على نحو مبهم، بما أنها لم تكن جذابة لحواسي غير المتيقظة، وكانت أكبر مني على الأقل بسبع أو ثمان سنوات. لكني في ذلك الصيف بدوتُ أكبر من عمري. كنتُ طويل القامة، ونما لي شارب صغير، بالإضافة إلى سلوكي التأملي الجدي على نحو غير مألوف.
عندما أصبح الضوء أضعف من أن يصلح للقراءة، وضعتُ الكتاب على ركبتيّ ونظرتُ بحذر إلى وجه الفتاة الجانبي. شعرتُ فجأة بوخزة من الشفقة. كانت نظرة يأس قد استقرت على وجهها. لم تكن تنظر إلى غروب الشمس، أو إلى البحيرة، أو إلى أي شيء يُرى من شرفة الكوخ، لكن عينيها كانتا مفتوحتين على وسعهما.
كانت كاتبة اختزال صغيرة من سانت لويس، أو من كانساس سيتي، وقد أتت إلى هنا لتقابل أناسًا في سنّ الشباب، وتقضي وقتًا ممتعًا، أو ربما تقع في الحب وتتزوج في النهاية، ولم تعثر إلا على شابين، أنا والبروفيسور جاحظ العينين الذي يكره رؤية التنانير، وها أنا ذا جالسٌ هنا أقرأ نيتشه وأفكر بالمشاكل المجرّدة للحياة، ولا أتمنى إلا أن أُترَك لوحدي...
لم يمرّ أكثر من دقيقة، أو اثنتين، على تركي الكتاب، لكني تأملت الفتاة منذ ذلك الحين بتركيز كبير، وبإحساس تبصّر عالٍ وخاص، حتى بدا لي أني أعرفها بالفعل منذ زمن طويل. بدأتُ بالتحدث إليها. وكنتُ مسرورًا بأن أرى النظرة اليائسة تزول عن وجهها. أصبح وجهها مفعمًا بالحيوية. بدأتْ تتأرجح في كرسيها، ثم جذبتها أقرب إلى كرسيّي، وسرعان ما كنا نثرثر مثل صديقين حميمين.
"ثمة حفلة راقصة في برانسون الليلة"، أشارت الفتاة فجأة، "أترغبُ بأن تأخذني؟".
لو أني فكرت في الأمر مرتين، لكنتُ بالتأكيد قد رفضت. قبل أن أذهب إلى الجامعة، كانت قدماي تصيران مثل سيقان التطويل الخشبية كلما بدأتُ بالرقص ولم تكن عندي أدنى فكرة عن كيفية تحريك نفسي مع الموسيقى.
لكنّ رأسي كان خفيفًا بفعل القراءة لوقت طويل، وكان أسلوب الفتاة ملحاحًا على نحو خاص. وقبل أن أدرك، كنتُ قد قبلت الاقتراح، وكنا منطلقين إلى برانسون. كانت هذه البلدة الصغيرة عند التل موقعًا لمنتجع صيفي ذائع الصيت؛ كانت تبعد ميلًا، أو اثنين، عن معسكرنا في اتجاه البحيرة. مشينا، بمحاذاة البحيرة والتلال، وتحدثنا طوال الطريق بحماس غريب. ربما كنت وحيدًا للغاية، أنا الآخر، من دون أن أعرف، وكنتُ في حاجة إلى من يكسر الجليد وحسب. على أية حال، في ضوء الشفق قريبًا من البحيرة، لم تعد الفتاة تبدو كبيرة في السن بالنسبة إليّ، أو ثقيلة الظل. لاحظتُ شيئًا غجريًا في مظهرها، شيئًا حكيمًا ومؤثرًا في عينيها الداكنتي اللون والكبيرتين، أنفها المعقوف، وشفتيها المكتنزتين شديدتي الحمرة. لاحظتُ البروز الشديد لصدرها، وعندما تقدمتني في المشي قليلًا، القوةَ المتمايلة لوركيها. شعرتُ برغبة مدوِّخة بأن أقترب منها وأُحوّطَ بذلك الدفء الذي بدا أنها تمتلكه.
"هل تحب النبيذ؟"، سألتْني حين بدأنا بقطع الجسر.
اعترفتُ بأني لم أجرّبه قبلًا. في الصيف السابق، عندما أخذني جدي إلى أوروبا، شربتُ قليلًا من مشروب الكحول المُنَعنع ما إن فُتِح البار، على بعد عدة أميال في عرض البحر، وأصبتُ بدوار بحر عنيف بعد ذلك مباشرة. كرهتُ رائحة الكحول منذ ذلك الحين.
"لكنَ هذا سيكون مختلفًا"، قالت. "هل تشم رائحة ذلك العنب؟".
توقفنا في منتصف الجسر، ومن المؤكد أن الريح القادمة من البحيرة حملت إلينا أرائج العنب المراوغة.
"إنها لذيذة!". صحت.
"أعرف مكانًا، كوخ هيلبيليّ عجوز قرب البلدة، يمكن لنا أن نتوقف فيه ونحصل على بعض نبيذ العنب الممتاز"، تابعتْ. "وسيجعلنا ذلك نرغب بالرقص حتى تتعب أقدامنا!".
ضاحكةً، أمسكت بذراعي وبدأنا الركض على طول الطريق. شعرها الأسود طار خلف وجهها، وفي قامتها الراكضة، عنقها المقوَّس وصدرها الداكن المتأرجح، كان ثمة شيء وثنيّ على نحو مثير.
"أنتِ جميلة"، سمعتُ نفسي أقول بصوت أجش. "إنك تشبهين إلهة قديمة، أو حورية، أو...".
عصرتْ ذراعي. "أنت ظريف!". قالت.
كان كوخ الهيلبيليّ منزلًا صغيرًا ذا هيكل خشبي على الطريق إلى البلدة. في الفناء، كانت عنزة بيضاء تمضغ العشب. جلست امرأة عجوز على الدرجات الخشبية ويداها مطويتان في حجرها. في أثناء اقترابنا، نهضتْ ببطء. ومن دون أية كلمة، فتحت الباب لنا وانزلقنا إلى الداخل. كان ذلك قبل إلغاء حظر المشروبات الكحولية. شعرتُ بأني مغامر للغاية وأنا أجلس إلى الطاولة القديمة المخلّعة، بمشمّعها المهترئ ذي المربعات الملونة، ومصباح الكيروسين فوقها، في حين كان العجوز الذي يرتدي الأفِرُول والمرأة العجوز الشبيهة بالساحرة يُخرجان القوارير من برميل مخبّأ، يفتحانها مع صوت فرقعة عالٍ، ويصبّان الشراب الأرجواني المتلألئ في أقداح قصدير باردة لكي نشربها.
في البداية، بدا الشراب مرًّا بعض الشيء. لكنه لم يكن المذاق الكحولي الذي خشيتُه. لذلك، طلبتُ قدحًا ثانيًا وثالثًا. الفتاة قبالتي شربتْ ببطء. وظلت تنظر إليّ بطريقة حسابية، كما لو أنها كانت تحاول أن تخمن سنّي، أو إمكانياتي الأخرى، مثلما كانت قد نظرت إليّ على الشرفة، ومرات عدة قبل ذلك، لكني اكتشفتُ أني الآن لم أعد منزعجًا من تلك النظرة. لقد سرّتني، في الحقيقة، بقدرٍ ليس بالقليل. وهكذا كنتُ أشرب النبيذ مع مَن مِن الواضح أنها كانت امرأة متمرسة، فتاة شبيهة بالغجر لم تعد فتية كثيرًا، مع نظرة حكمة غريبة في مؤخرة عينيها.
من يعرف ما قد يحدث الليلة؟ بدأت الاحتمالات تخيفني قليلًا.
استندتُ إلى أقصى مؤخرة كرسييّ، مائلًا في اتجاه مدخنة المدفأة، وبادلتُها الابتسامة بأسلوب من المفترض أن يكون مليئًا بإيحاء محنّك. نظر واحدنا إلى الآخر على ذلك النحو لبعض الوقت، كما لو بتفاهمٍ أكثر عمقًا من الكلمات. رفعتْ الفتاة حاجبيها ببطء، ثم ضيّقت عينيها إلى أن صارتا شقيّن من أسود مضيء. شفتاها السميكتان المطليتان انفتحتا قليلًا، وهي، أيضًا، استرخت في كرسيّها، كما لو أن سؤالًا قد سُئِل وإجابة مرضية قد مُنِحت. بدا أن في وسعي تقريبًا أن أسمعها تخرخر بصوت ضعيف، برضى، مثل قطة.
"لقد كنتُ وحيدة جدًا في المعسكر"، تمتمتْ، "حتى إنها لم تكن تبدو عطلة حقيقية قبل الليلة".
رفعتْ القدح بكلتا يديها، لكنها بدلًا من أن تشرب، استنشقت شذى النبيذ بعمق. ابتسمتْ قليلًا فوق حافة القدح:
"إنه حلو مرّ، أليس كذلك؟". قالت برقّة. "إنه يجعلني دومًا أشعر برغبة في الضحك أو البكاء، أو شيء من ذلك القبيل".
عندما غادرنا الكوخ، بدت لي العنزة البيضاء في الفناء شبيهة بوحش أسطوري مقرّن. الطريق المغبّر اهتز تحت قدميّ. وبدا كل شيء مسليًا على نحو غير منطقي. ضاحكًا بصوت عال، أمسكتُ ذراع الفتاة، وهي، لأكثر من مجرد رد ضغطي، ضحكتْ معي، مع إبقاء نظرتها المُخمِنة على وجهي.
".. هل أنت واثقٌ أنك لست أكثر تشددًا من أن ترقص؟". سألتْ. بدا صوتها جديًا على نحو سخيف.
"تشدّد!" صرختُ. "لماذا، لم أكن سائبًا بهذا القدر في حياتي كلها!".
جفلتُ من الدويّ الهيستيري لصوتي، بدا تقريبًا مثل صوت فتاة. ترنحتُ قبالة الشابة السمراء وهي وضعت ذراعًا مسانِدة حول ظهري. بدا الأمر سخيفًا للغاية. كانت أقصر مني بقدم تقريبًا، وها هي تحملني.
"دعيني وشأني"، قلتُ لها بقسوة. "يمكنني أن أسير لوحدي!".
ضحكتْ قليلًا. "كم عمرك؟" سألتْ فجأة.
"تسع عشرة"، كذبتُ.
"حقًا؟ لم أعرف أنك صغير السنّ بهذا القدر"، قالت. لبعض الوقت بعدها، بدت أهدأ، وأكثر بعُدًا. ثم دخلنا إلى برانسون. كان ثمة مجموعات من المصابيح الزجاجية على طول الشارع. كان ثمة صيدليات، ومطاعم مضاءة، وعرضُ صورٍ مع رواق لامع مطليّ بالقصدير، وإعلانات مبهرجة. وفي كل مكان، كانت هنالك حشود مبتهجة تقضي عطلتها، وترتدي ملابس كتانية وقمصان تحتية بيضاء وكنزات ملونة. وبالقرب من البحيرة، كانت الفرقة تعزف على نحو صاخب، والجميع يندفع أسرابًا في ذلك الاتجاه.
بدا عندئذ أن الفتاة قد عادت إلى الحياة من جديد. أمسكتْ ذراعي.
"أنا متحمسة جدًا للرقص!" قالت. "يبدو كما لو أن عطلتي قد بدأت للتو!".
كانت قاعة الرقص طويلة ومبنية من جذوع الأشجار، مفتوحة ما عدا وجود بعض الستائر، ومضاءة بفوانيس يابانية تتمايل باستمرار مع الريح. غادرني سُكْري الجسديّ حالما وضعنا أقدامنا على أرضية الرقص. لأولّ مرة، اكتشفت أن في وسعي أن أحرّك نفسي مع الموسيقى. انزلقت قدماي من غير عناء على الأرضية الملمّعة بالشمع، وكان جسد الفتاة يستجدي جسدي. بل كان أكثر من مستجدٍ. شددتها أكثر فأكثر نحوي. واندفع دفء جسدها عبر بدلتي الكتانية. كانت أنفاسها على عنقي رطبة. أمسكتْ أصابعها بكتفي. بدا أنها تطلب عناقًا أكثر قربًا مما أستطيع منحه. اختبرتُ عندئذ شيئًا لم أختبره قبلًا مع فتاة. شعرتُ بالخجل، وحاولتُ أن أرخي قبضتي. لكن لدهشتي تشبّثت أكثر. ضغطتْ بشفتيها على رقبتي، وتشبّثتْ كما لو أنها كانت في حالة سُكر، أكثر سكرًا مما كنتُ على الطريق المقمر. صارت قدماها متشابكتين مع قدميّ، تراخى جسدها، وبدا كما لو أني أجرّها على الأرضية. شعوري الدافئ زال. نظرتُ حولي إلى الوجوه الغريبة التي تحيط بأرضية الرقص. بدا أن الجميع يحدّق بنا. توقفتُ فجأة عند طرف الأرضية.
"لنخرج لبعض الوقت"، قلتُ، من دون أن أنظر إليها.
لا بدّ أنها أساءت فهم وجهي الذي يتحاشى النظر إليها، والطابع المتوتر لصوتي. كرّرتْ الكلمات مثل صدى، "لنخرج لبعض الوقت".
نزلنا الدرجات الخشبية من قاعة الرقص، ونزلنا الممشى الخشبي نحو ضفة البحيرة.
هنا كان المكان كلّه مغطى بالرمل الناعم، فضةٌ باهتة في ضوء القمر تمتد لميل، أو اثنين، أعلى وأسفل البحيرة. كانت الريح تهب حاملة برودة جديدة تبشّر بنزول المطر، على الرغم من أن الغيوم كانت لا تزال متناثرة.
أمسكتْ الفتاة بذراعي، وتوقفت لدقيقة عند نهاية الممشى الخشبي.
"هل تشم رائحة العنب؟" سألت.
ارتجفتُ قليلًا. كنت قد شربتُ كثيرًا من النبيذ. كانت الثمالة تتلاشى، وكان الطعم في فمي حلوًا حد التخمة.
"إلى أين تذهبين؟". صحتُ بالفتاة.
ضاحكةً بجموح، بدأتْ تركض على الرمل.
بعد حين، نظر كلانا حوله. واكتشفنا أن المنتجع الترفيهي، وحتى أضواء البلدة، قد اختفت. لم يكن هنالك سوى القمر والنجوم والصمت الواسع للبحيرة والرمل الذي ينسحق تحت أقدامنا. شعرتُ كما لو أني سباح عديم الخبرة وجد نفسه فجأة في مياه أكثر عمقًا من مقدرته. لكنّ وجه الفتاة كان يضيء قليلًا ببعض العنف الداخلي. ارتمتْ على الرمل، وضغطت بيديها عليه وجرفته مثل سبّاحة، مرة بعد مرة. بدا لي أنها كانت تتأوه قليلًا، في أعماق حنجرتها، أو تخرخر مثل قطة. شعرتُ برغبة في أن أتسلل مبتعدًا عنها. كانت كلّ الخفة والحماس قد اختفيا. لم أرغب في انتظار تطوّرِ ما بدا أنه يستحوذ على الفتاة. لم أعد أشعر بالإغراء، أو الإثارة. وبدا أنها كانت غير مدركة لوجودي، في تلك اللحظة، غير مدركة إلا لشيء في داخلها، شعور مخمور، جعلها تفرك يديها فوق الرمل في إيماءة بدتْ لي بذيئة على نحو مبهم.
ربما كنت مفتونًا، ربما كنت خائفًا، أو نافرًا. كانت مشاعري مغطاة ببلادة جعلتها لزمن طويل بعد ذلك صعبةَ الوصف. على أية حال، وجدتُ أنه من المستحيل أن أترك الفتاة هناك. كانت قدماي متجذرتين في الرمل الفضي. وقفتُ فوقها، مستنشقًا حلاوة العنب المُتخِمة التي تحملها الريح، ومنتظرًا أن تمرّ نشوة الفتاة السرية.
في آخر المطاف، رفعتْ رأسها من حيث كانت منحنية فوق الرمل، أرجعتْ شعرها الأسود إلى الخلف بإحدى يديها ومدّت الأخرى نحوي. ارتميتُ بجانبها دائخًا، وبطريقة أو بأخرى بتنا نتبادل القبل، وانزلق لسانها بين شفتيّ. طوال ذلك الوقت، ورغم أن تصرفاتي كانت تصرفات ذكر استحوذت عليه العاطفة، كان عقلي يقف فوقها بنفور بليد. سمرتها الشبيهة بالغجر، ثقل جسمها، الحكمة السوداء لعينيها كانت الآن كلها تقبع خالية من الأسرار. عرفتُ لماذا كانت وحيدة، لماذا قالت إنها كانت وحيدة للغاية قبل هذه الليلة. وبالرغم من كل تطلعاتي الذكورية، لم أتمكن من كبح خوفي من الفتاة. تهاوتْ على الرمل وهي تمسك بكتفيّ. كانت تتنفس بصعوبة، وكانت أنفاسها تفوح برائحة النبيذ.
"لنعد إلى الحفلة الراقصة"، تمتمتُ.
"لا، أنا متعبة من الرقص"، قالت. "لماذا تتصرف بغرابة هكذا؟ ألا أعجبكَ؟ هل أنا قبيحة، أو شيء من هذا القبيل؟".
يا إلهي، ما خطبي؟ قلتُ لنفسي. أنتَ تعرف ما الذي تريده الفتاة! أنت لم تعد طفلًا!
لكني لم أتمكن من تحمّل الحلاوة النبيذية لأنفاسها. أدرتُ وجهي بعيدًا، ونهضتُ من على الرمل.
"لنذهب للسباحة!". اقترحتُ بجموح.
"حسنٌ!". وافقتْ.
أدركتُ متأخرًا أننا لا نملك ملابس سباحة. كانت الفتاة قد بدأت أساسًا تنتزع ملابسها عن جسدها. غطستْ في البحيرة عارية تمامًا. ولم يكن في وسعي إلا أن أفعل المثل. مخدّرًا، خلعتُ ملابسي وتبعتُها. اخترقتْ برودة البحيرة الخدرَ الشبيه بالحلم لجسدي وعقلي. شعرتُ بالبرودة واليقظة. لبعض الوقت، عاد إليّ حماس المساء الماضي. سبحنا ولعبنا بالماء مثل الأطفال. لم أفكر بعريها، ولا بعريي. سبحتُ مبتعدًا، ومن ثم مقتربًا من جديد. وعندما صعدتُ إلى الرمل، كنتُ مرهقًا، وتمددتُ أرضًا ونظرتُ إلى السماء المرصعة بالنجوم، ناسيًا تقريبًا الفتاة وما حدث بيننا منذ دقائق.
الريح القادمة من البحيرة صارت أبرد. رحتُ أرتجف رغمًا عني. كانت الفتاة لا تزال تطرطش وتسبح في الماء، وتصيح كما لو أنها قد فقدت عقلها تمامًا. نهضتُ من على الشاطئ وبدأتُ ألتقط ملابسي. لكن عندئذ خرجت الفتاة من الماء مسرعةً.
"أنتَ لا تزال مبلّلًا!". صاحتْ. "لماذا تتصرف بهذه الغرابة؟".
شاعرًا بالضعف، سقطتُ على الرمل مرة أخرى. راحت الفتاة تسخر مني. هرعتْ إلى الصفصافة، حيث كانت قد علّقت ملابسها. وعادت مع معطف أبيض صغير كانت قد حملته إلى الحفلة الراقصة.
"خذ!". قالت. "هذا سيبقي كلينا دافئين!".
محدِّقًا إلى هذا الرداء الذي رفرف فوقي مثل شبح أبيض في الريح القادمة من البحيرة، ملاحظًا طوله وعرضه وحتى سماكته، فهمتُ كلماتها ببطء، ما عنته تلك الكلمات، ما لا يمكن أن تعني غيره. رأيتُ أنها كانت تبتسم في ضوء القمر. شعرها الأسود طيرته الريح من على وجهها. وقفتْ بيني وبين الريح واستنشقتُ دفء جسدها ممزوجًا مع حلاوة العنب المُتخِمة. بانفعال مفاجئ، أمسكت بقدميها البيضاوين. سحبتُها للأسفل نحو الرمل. نُسِي المعطف، والريح البادرة والبحيرة، وبالكاد عرفت إن كنتُ قد كرهت، أو أحببت.
أمطرتْ في الصباح التالي، بدءًا من وقت باكر للغاية، قبل الإفطار، وحتى الظهيرة. لم أنهض. استلقيتُ طوال الصباح على سريري في الكوخ الخشبي الصغير، شاعرًا بالإرهاق ومريضًا بعض الشيء. نظرتُ إلى الخارج، إلى المطر الرمادي، واستمعتُ إلى صوته الرمادي على السقف. وعندما خرجتُ في آخر الأمر، وجدتُ أن حافلة سبرينغفيلد قد أتت وذهبت. انتهت عطلة الفتاة، وطوال بضع ساعات كانت في طريق عودتها إلى عملها في مكتب تأمين على الحياة في كانساس سيتي. شعرتُ بالراحة.
بحلول الظهيرة، كان المطر قد تلاشى. هبت الريح مرة أخرى، وتبعثرت الغيوم مثل زبد. كانت البحيرة الرمادية تكتسب اللون الأخضر تحت الشمس المتوهجة. لكن، في الهواء الذي بات منعِشًا بفعل بالمطر كان ثمة سلفًا البرودة المُنشِّطة للخريف الآتي.
بعد العشاء، توقفتُ قبالة البحيرة، أخذتُ نفسًا عميقًا، وهناك داهمني فجأة التوق القديم لأن أهرب من المعسكر، ومن الابتهاج الذي لا يهدأ لسكانه، لأكون وحيدًا على سطح البحيرة. هرعتُ راجعًا إلى الكوخ، وارتديتُ سروال السباحة. أخذتُ زوجًا من المجاديف من مكتب المدير، وعدوت نازلًا نحو رصيف القوارب المتداعي. شعرتُ بعيون متسكعي الشرفة تتبعني وأنا أنزل، عيون شابات جديدات وشبان جدد كانوا قد وصلوا إلى المعسكر في ذلك الصباح، وشعرتُ بأني فخور بنفسي، فخور بجلدي التي اكتسب اللون البرونزي الغامق وجسدي المعافى، إنما قبل كل شيء، فخور بحريتي، بوحدتي التي لم تطلب سوى أن تُترَك وشأنها. بدا لي أني والبحيرة ننتمي إلى هنا؛ أنا والبحيرة والشمس. الآخرون كانوا دخلاء متغطرسين. زوار عطلة نهاية الأسبوع هؤلاء بجلودهم الشاحبة وعضلاتهم البطيئة، وألفتهم المحمومة، ليس في وسعهم أبدًا أن ينتموا إلى هذا الريف، ليس في وسعهم أبدًا أن يشاطروني رفقتي الملغِزة مع البحيرة والتلال والشمس.
الفتاة ذهبت. وهم سيذهبون، أيضًا.
من دون أن أنظر إلى الخلف، فككتُ واحدًا من القوارب من عند الرصيف، وجدّفت نحو وسط البحيرة. استلقيتُ في قعر القارب، وأسلمت نفسي لتيار بطيء من الأحلام.
لكن، كان ثمة خطب ما. ربما كان السبب هو البرودة غير الاعتيادية للريح، خفة الهواء الذي بات منعشًا بفعل المطر، أو الانحسار المحسوس بالكاد للصيف. لكني كنتُ متململًا. استدرتُ من جانب إلى آخر. النتوءات القاسية في قعر القارب ضايقت جلدي. الشمس لم تكن دافئة بما يكفي، الريح كانت كثيرة البرودة.
بسرعة، انحدر القارب بين التلال. الجداول التي ارتفعت بفعل المطر جعلت التيار قويًا ذلك الصباح. الريح كانت ترتفع من على سطح البحيرة. تحرك القارب بسرعة، بسهولة، كما لو كان مدفوعًا بالأشرعة. التلال تضاءلت. الجروف العارية ابتعدت، البحيرة اتسعت واتسعت إلى أن وجدت نفسي آخر الأمر في العراء. في كلا الطرفين كانت حقول العنب الشاسعة؛ عنب، عنب، عنب! وعلى الرغم من أن القارب انجرف الآن تمامًا إلى وسط البحيرة الواسعة، فإن رائحة العنب أتت في اتجاهي أقوى وأكثر حلاوة مع كل لحظة، إلى أن بدا أن فمي قد امتلأ بنبيذها الأرجواني، وجسدي كله انغمر بدفئها.
استلقيتُ في قعر القارب، متلويًّا ومتأوهًا بصوت عالٍ، باكيًا بفعل وحدة الجسد الرهيبة، متذكرًا شفتيّ الفتاة على شفتيّ، متذكرًا دفء جسدها، متذكرًا السمرة الغجرية لوجهها، جموح شعرها وعينيها، وقبل كل شيء، الحلاوة الشغوفة لعناقها، أسمرَ وحلوًا، حلوًا على نحو مُتخِم تقريبًا، مثل الشذى الأرجواني القوي للعنب.
بشيء من الذعر، أمسكتُ المجدافين وبدأت أجدّف بعنف راجعًا إلى المعسكر. لم أعد أريد أن أكون بمفردي. لم أكن قد جدّفتُ بعيدًا حتى حقول العنب من قبل، ولا استنشقتُ بمثل هذا العمق من قبل حلاوتها الأرجوانية التي تعلق في الذاكرة. الآن، أردتُ أن أعود إلى المعسكر وناسه. أردتُ أن أشعر بهم يتحركون قريبًا مني، وبحميمية حولي. أردتُ أن أسمع أصواتهم العالية، وأشعر بالضغط القوي لأيديهم. أردتُ أن أضيّع نفسي بينهم.
رابط النص الأصلي:
https://www.theparisreview.org/blog/...-8#more-163569
تينيسي وليامز
ترجمات
تينيسي ويليامز في لندن (31/ 7/ 1962/Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
تينيسي ويليامز (1911 ـ 1983): ولد في ولاية ميسسيبي في الجنوب الأميركي لعائلة من أصول إنكليزية. عُرِف ويليامز على وجه الخصوص ككاتب مسرحي، لكنه كتب أيضًا كثيرًا من القصص القصيرة، الشعر، المقالات، وله روايتان، ومجلد مذكرات. من أشهر مسرحياته: "معرض الوحوش الزجاجية" (1944)؛ "عربة اسمها الرغبة" (1947)، التي تعد من أفضل المسرحيات الأميركية في القرن العشرين؛ "قطة على صفيح ساخن" (1955)، وغيرها.
قصة "موسم العنب" المترجمة هنا ستُنشر ضمن مجموعة من قصص ويليامز المبكرة تصدرها دار نشر "نيو دايركشنز" في أبريل/ نيسان الحالي.
ترجمة وتقديم: سارة حبيب
بما أني كنتُ سألتحق بالجامعة ذلك الخريف، شعر والداي بأن عليّ أن أقوّي نفسي في معسكر صيفي ما. فأرسلاني إلى مكان في جبال الأوزارك يطلّ على بحيرة جميلة. كان يدعى معسكرًا، لكنه لم يكن للصبيان فحسب. كان لكلا الجنسين، ولكلّ الأعمار. كان مكانًا ريفيًا مريحًا. لكني أصبتُ بخيبة أمل حين عرفتُ أن معظم الشباب قد ذهبوا إلى معسكر آخر على بعد أميال عدة من البحيرة في اتجاه السد. أمضيتُ كثيرًا من الوقت بمفردي في ذلك الصيف، الأمر الذي ليس جيدًا لصبي في السابعة عشرة.
كان صيفًا جافًا. لم تكن فيه سوى أيام ماطرة قليلة. لكن ريف الأوزارك، بتلاله الخضراء الوادعة، وبحيراته وأنهاره الرائقة، لم يصبح قبيحًا، أو بنيّ اللون، كما يحدث في معظم المناطق في مواسم الجفاف. ظلّ الصفصاف بمحاذاة البحيرة أخضرَ على نحو واضح، في حين بدت الغابات عند سفح التل، قرابة نهاية شهر يوليو، كما لو أنها قد رُشَّت بنبيذ أرجواني، أحمر، وكهرمانيّ. ولم توحِ ألوانها التي صارت أغمق فأغمق باليباس، أو توقف الحياة. لقد بدت، بالأحرى، مثل فائض متوهج، مثل وفرةِ حياة متفجرة. وعندما تقود سيارة مفتوحة عبر الريف، يكون الهواء مُنكّهًا بعض الشيء بالنبيذ، لأن العنب نما بوفرة في ذلك الموسم. ففي حين اصفرّت حقول الذرة وضمرت، اندفع العنب الأرجواني بأعداد كبيرة من عرائشه، كما لو أنه قد وقّع اتفاقية سرّية مع الطبيعة، أو سحبَ من مخزونِ حياةٍ احتياطي مخبأ تحت الأرض، فكوّمه سكان التل النحيلون في سلال بيضاء كبيرة، ووقفوا على طول الدروب والطرقات السريعة المشمسة وهم يصيحون "عنب، عنب، عنب"، حتى إن أذنيك كما عينيك وفتحات أنفك وفمك تمتلئ به، إلى أن يبدو أن كلّ جسد الريف وروحه قد تُرجِما بطريقة ما إلى هذا الإزهار الشاسع للفاكهة الأرجوانية الحلوة.
ربما كان الأثرَ المُسكِر للهواء المنكّه بالنبيذ، أو ربما لم تكن سوى جِدّة بقائي كثيرًا بمفردي، لكني وقعتُ ذلك الصيف في نوع من الافتتان، نوع من الثمالة المزاجية، الأمر الذي أزعجني وأخافني بقدرٍ ليس بالقليل.
لقد عشتُ حياة صبيانية مليئة بالحيوية. وكنتُ على الدوام نموذج الانبساطي الشاب، أتمتعُ بالألعاب ورفقة الصبيان الآخرين، وليس عندي سوى القليل من الوقت للقراءة والتفكيرِ المجرد، القليل من الوقت للنظر نحو الداخل إلى لغز ذاتي. وهكذا، في هذا الصيف الجاف عند البحيرة الجميلة، وبينما انخرطتُ ببطء في عادة الاستبطان العميق، متأمّلًا وحالمًا بنفسي وبالحياة وبمعنى الأشياء، شعرتُ كما لو أني أستيقظ من حلم طويل، أو أغرق في واحد. كنتُ وحيدًا وخائفًا وراضيًا على نحو غريب.
صار من عادتي في ذلك الصيف أن أنزل إلى البحيرة بمفردي بعد الإفطار مباشرة، أفكّ مرسى زورق تجديف، أو قارب كانو، من رصيف القوارب الرمادي المتداعي، وأجدّفَ بالزورق، أو بالكانو، إلى وسط البحيرة، ومن ثم أستلقي في قعر القارب، أخلع ملابسي كلها ما عدا سروال السباحة، وأترك للتيار البطيء أن يحملني تحت الشمس الذهبية الحارقة، بينما يسلّم وعيي نفسه، مثل القارب، لتيار بطيء من الأحلام وأحلام اليقظة.
أحيانًا، كنت أغفو بينما أنجرف. وأستيقظ لأجد نفسي في منطقة غير مألوفة. ربما أكون قد انجرفتُ أميالًا عدة بعيدًا عن المعسكر، والشمس قد بلغت أوجها في أثناء نومي. كانت البحيرة تصير أضيق، أو أوسع، أو ربما أنا الذي كنت أنجرفُ مقتربًا من الضفة ليصير قربي مباشرة جدار رطب من الصخور الرمادية تندفعُ منه سراخس غريبة وزهور، أو يصير فوق رأسي قبة رائعة شبيهة بالريش مكونة من أغصان الصفصاف ذات اللون الذهبي المخضّر، تظلّلني أنا ومركبي الجانح، وليس حولي أية حركة، أية همسة، في الظهيرة الخالية من الريح.
دائمًا خلفي، في آخر البحيرة، كانت هنالك حقول العنب المفتوحة، ومهما بلغ سكون الهواء، كان يحمل دائمًا نكهة نبيذ خفيفة.
كنتُ أستلقي في قاع القارب، وأواصل التحديق إلى ما انفتحت عيناي عليه، من دون أن أدير رأسي، أو أحرك جسدي قط، خوفًا من إبطال السحر. كنت أتخيل أني أثناء نومي انجرفتُ بالفعل إلى مكان مجهول، مملكة خرافية، جزيرة أفالون، أو شيء من هذا القبيل، مكان يمكن أن تحدث فيه كل أنواع الأشياء، وعادة ما تكون قد حدثت بالفعل.
كان من الصعب أن أُخرِج نفسي من تلك الأحلام. كان من الصعب أن أدير عينيّ محدّقًا كما لو كنتُ منومًا مغناطيسيًا إلى جدار الصخور الرمادي الرطب، أو القبة المتلألئة من الصفصاف المضاء بنور الشمس، راجعًا إلى الامتداد الزيتيّ اللون للبحيرة. وعندما أقوم بإيقاظ نفسي في آخر الأمر، كنت أشعر أني متبلدٌ في داخلي على نحو غريب، ومنهَكٌ. لم يكن مجرد الخمول الذي تشعر به بعد نوم طويل منتصف النهار. كان الأمر أشبه بالتأثيرات التالية لتناول دواء قوي. كنت أشعر أحيانًا بضعف شديد حدّ أن يغدو من الصعب عليّ التجديف عائدًا بالزورق، أو بقارب الكانو عكس التيار. مع هذا، لم أعرف أبدًا على وجه التحديد ما الذي حدث في داخلي في أثناء الحلم، أو كم دام من الوقت، أو لماذا، بحق السماء، تصرّفتُ على هذا النحو! هل كنتُ أفقد عقلي؟
"كانت البحيرة تصير أضيق، أو أوسع، أو ربما أنا الذي كنت أنجرفُ مقتربًا من الضفة ليصير قربي مباشرة جدار رطب من الصخور الرمادية" |
مع مرور الصيف، ازداد عدد سكان المعسكر الصغير. ففي كل عطلة نهاية أسبوع، كان حشد جديد، أو اثنان، يأتون بسياراتهم من سانت لويس، أو كانساس سيتي، أو حتى من أماكن أبعد من ذلك. عندما وصلتُ أول الأمر، في بدايات يونيو، كان المكان يبدو مقفرًا، وشعرتُ بوحدة مريرة، وتمنيتُ لو أن بعض الناس، أيّ نوع من الناس، يأتون. لكني تغيرت الآن. لم أعد أشعر بإثارة الترقب عند وصول مجموعة، أو عائلة جديدة إلى المعسكر، متسائلًا في كل مرة كيف ستكون هذه المجموعة، مراقِبًا بمتعة معداتهم الرياضية، إنما خائب الأمل، عادة، لأنهم معظمهم يكونون إمَّا أصغر سنًّا مما يجب، أو أكبر سنًّا. الآن، رؤية سيارة مغبّرة تتمايل على طريق المعسكر مع مضارب التنس وصنارات الصيد، والوجوه المتلهفة وهي تبرز من النوافذ، وجوهٌ تبتسم وتستجدي أن تُقبَل في هذا المكان وفي حياته، لم تعد تمنحني أية متعة، بل ملأتني بانزعاج غامض. كنتُ أتحول إلى عجوز نزق لا يريد شيئًا أكثر من مكان هادئ للنوم، إلا أن النوم لم يكن ما أريده، بل الغرق في الأحلام.
بعد ذلك، بدأتُ أخاف من نفسي حقًا. توقفتُ عن الخروج بمفردي إلى البحيرة. أقمتُ صداقة مع بروفيسور شاب كان يمضي عطلته في المعسكر. لعبتُ التنس وتعلمتُ أن ألعب لعبة بريدج العقد مع بعض الأزواج الشباب. حاولتُ ألا أفكر بأشعة الشمس على البحيرة، وعلى جلدي العاري، أو بالشذى الخفيف الشهيّ للعنب الأرجواني.
نحو نهاية الصيف، قابلتُ فتاة شابة. لم أرَ فيها أيّ جاذبية خاصة. لم تبدُ جميلة، أو غير جميلة. ربما كانت جميلة بالفعل، لكني كنتُ في حينها أكثر يفاعة من أن أجد الجمال في أي شيء ما عدا خطوط وجه المرأة وقوامها. كانت أكبر سنًّا مني بكثير، كانت في حوالي الخامسة والعشرين، وكان في وسعي ملاحظةُ أنها كانت وحيدة، وحيدة جدًا، وتريد من كل قلبها أن تتقرّب من شخص ما، تمامًا بقدر ما كنتُ أريد أن أنسلّ بعيدًا، أن أطفو وحيدًا على سطح البحيرة.
أعارني البروفيسور الشاب بعض الكتب. أعارني كتابًا لنيتشه وجدتُه على وجه الخصوص مثيرًا للقلق.
هل من الممكن، سألتُ نفسي، أن تكون كلّ الأشياء عديمة الجدوى وغير محدّدة كما جعلها نيتشه تبدو؟ هززتُ كتفيّ لا مباليًا، بعد حين، متذكِّرًا أشعة الشمس على جسدي وعلى البحيرة، والشذى الموحي بالعنب على نحو غامض. إن ذلك الشك الهائل، فكرتُ في نفسي، كان بصورة، أو بأخرى، غير ذي صلة بالحياة في آخر الأمر!
في أحد المساءات، كنتُ أقرأ في هذا الكتاب على شرفة الكوخ الخشبي الرئيسي الذي يطل على البحيرة، شاعرًا على وجه التحديد بالتمرد ضد معتقداته، عندما أتت الفتاة إلى الشرفة وجلست على كرسي من الخيزران قرب كرسيّي. ومن دون أن أرفع عينيّ عن الكتاب، عرفتُ أنها كانت تنظر إليّ، متسائلة ربما فيما إذا كان عليها أن تتكلم. كانت قد نظرت إليّ قبل ذلك. إنها في المعسكر منذ حوالي أسبوعين. ولم أكن مدركًا لوجودها إلا على نحو مبهم، بما أنها لم تكن جذابة لحواسي غير المتيقظة، وكانت أكبر مني على الأقل بسبع أو ثمان سنوات. لكني في ذلك الصيف بدوتُ أكبر من عمري. كنتُ طويل القامة، ونما لي شارب صغير، بالإضافة إلى سلوكي التأملي الجدي على نحو غير مألوف.
عندما أصبح الضوء أضعف من أن يصلح للقراءة، وضعتُ الكتاب على ركبتيّ ونظرتُ بحذر إلى وجه الفتاة الجانبي. شعرتُ فجأة بوخزة من الشفقة. كانت نظرة يأس قد استقرت على وجهها. لم تكن تنظر إلى غروب الشمس، أو إلى البحيرة، أو إلى أي شيء يُرى من شرفة الكوخ، لكن عينيها كانتا مفتوحتين على وسعهما.
كانت كاتبة اختزال صغيرة من سانت لويس، أو من كانساس سيتي، وقد أتت إلى هنا لتقابل أناسًا في سنّ الشباب، وتقضي وقتًا ممتعًا، أو ربما تقع في الحب وتتزوج في النهاية، ولم تعثر إلا على شابين، أنا والبروفيسور جاحظ العينين الذي يكره رؤية التنانير، وها أنا ذا جالسٌ هنا أقرأ نيتشه وأفكر بالمشاكل المجرّدة للحياة، ولا أتمنى إلا أن أُترَك لوحدي...
لم يمرّ أكثر من دقيقة، أو اثنتين، على تركي الكتاب، لكني تأملت الفتاة منذ ذلك الحين بتركيز كبير، وبإحساس تبصّر عالٍ وخاص، حتى بدا لي أني أعرفها بالفعل منذ زمن طويل. بدأتُ بالتحدث إليها. وكنتُ مسرورًا بأن أرى النظرة اليائسة تزول عن وجهها. أصبح وجهها مفعمًا بالحيوية. بدأتْ تتأرجح في كرسيها، ثم جذبتها أقرب إلى كرسيّي، وسرعان ما كنا نثرثر مثل صديقين حميمين.
"ثمة حفلة راقصة في برانسون الليلة"، أشارت الفتاة فجأة، "أترغبُ بأن تأخذني؟".
لو أني فكرت في الأمر مرتين، لكنتُ بالتأكيد قد رفضت. قبل أن أذهب إلى الجامعة، كانت قدماي تصيران مثل سيقان التطويل الخشبية كلما بدأتُ بالرقص ولم تكن عندي أدنى فكرة عن كيفية تحريك نفسي مع الموسيقى.
لكنّ رأسي كان خفيفًا بفعل القراءة لوقت طويل، وكان أسلوب الفتاة ملحاحًا على نحو خاص. وقبل أن أدرك، كنتُ قد قبلت الاقتراح، وكنا منطلقين إلى برانسون. كانت هذه البلدة الصغيرة عند التل موقعًا لمنتجع صيفي ذائع الصيت؛ كانت تبعد ميلًا، أو اثنين، عن معسكرنا في اتجاه البحيرة. مشينا، بمحاذاة البحيرة والتلال، وتحدثنا طوال الطريق بحماس غريب. ربما كنت وحيدًا للغاية، أنا الآخر، من دون أن أعرف، وكنتُ في حاجة إلى من يكسر الجليد وحسب. على أية حال، في ضوء الشفق قريبًا من البحيرة، لم تعد الفتاة تبدو كبيرة في السن بالنسبة إليّ، أو ثقيلة الظل. لاحظتُ شيئًا غجريًا في مظهرها، شيئًا حكيمًا ومؤثرًا في عينيها الداكنتي اللون والكبيرتين، أنفها المعقوف، وشفتيها المكتنزتين شديدتي الحمرة. لاحظتُ البروز الشديد لصدرها، وعندما تقدمتني في المشي قليلًا، القوةَ المتمايلة لوركيها. شعرتُ برغبة مدوِّخة بأن أقترب منها وأُحوّطَ بذلك الدفء الذي بدا أنها تمتلكه.
"هل تحب النبيذ؟"، سألتْني حين بدأنا بقطع الجسر.
اعترفتُ بأني لم أجرّبه قبلًا. في الصيف السابق، عندما أخذني جدي إلى أوروبا، شربتُ قليلًا من مشروب الكحول المُنَعنع ما إن فُتِح البار، على بعد عدة أميال في عرض البحر، وأصبتُ بدوار بحر عنيف بعد ذلك مباشرة. كرهتُ رائحة الكحول منذ ذلك الحين.
"لكنَ هذا سيكون مختلفًا"، قالت. "هل تشم رائحة ذلك العنب؟".
توقفنا في منتصف الجسر، ومن المؤكد أن الريح القادمة من البحيرة حملت إلينا أرائج العنب المراوغة.
"إنها لذيذة!". صحت.
"أعرف مكانًا، كوخ هيلبيليّ عجوز قرب البلدة، يمكن لنا أن نتوقف فيه ونحصل على بعض نبيذ العنب الممتاز"، تابعتْ. "وسيجعلنا ذلك نرغب بالرقص حتى تتعب أقدامنا!".
ضاحكةً، أمسكت بذراعي وبدأنا الركض على طول الطريق. شعرها الأسود طار خلف وجهها، وفي قامتها الراكضة، عنقها المقوَّس وصدرها الداكن المتأرجح، كان ثمة شيء وثنيّ على نحو مثير.
"أنتِ جميلة"، سمعتُ نفسي أقول بصوت أجش. "إنك تشبهين إلهة قديمة، أو حورية، أو...".
عصرتْ ذراعي. "أنت ظريف!". قالت.
كان كوخ الهيلبيليّ منزلًا صغيرًا ذا هيكل خشبي على الطريق إلى البلدة. في الفناء، كانت عنزة بيضاء تمضغ العشب. جلست امرأة عجوز على الدرجات الخشبية ويداها مطويتان في حجرها. في أثناء اقترابنا، نهضتْ ببطء. ومن دون أية كلمة، فتحت الباب لنا وانزلقنا إلى الداخل. كان ذلك قبل إلغاء حظر المشروبات الكحولية. شعرتُ بأني مغامر للغاية وأنا أجلس إلى الطاولة القديمة المخلّعة، بمشمّعها المهترئ ذي المربعات الملونة، ومصباح الكيروسين فوقها، في حين كان العجوز الذي يرتدي الأفِرُول والمرأة العجوز الشبيهة بالساحرة يُخرجان القوارير من برميل مخبّأ، يفتحانها مع صوت فرقعة عالٍ، ويصبّان الشراب الأرجواني المتلألئ في أقداح قصدير باردة لكي نشربها.
في البداية، بدا الشراب مرًّا بعض الشيء. لكنه لم يكن المذاق الكحولي الذي خشيتُه. لذلك، طلبتُ قدحًا ثانيًا وثالثًا. الفتاة قبالتي شربتْ ببطء. وظلت تنظر إليّ بطريقة حسابية، كما لو أنها كانت تحاول أن تخمن سنّي، أو إمكانياتي الأخرى، مثلما كانت قد نظرت إليّ على الشرفة، ومرات عدة قبل ذلك، لكني اكتشفتُ أني الآن لم أعد منزعجًا من تلك النظرة. لقد سرّتني، في الحقيقة، بقدرٍ ليس بالقليل. وهكذا كنتُ أشرب النبيذ مع مَن مِن الواضح أنها كانت امرأة متمرسة، فتاة شبيهة بالغجر لم تعد فتية كثيرًا، مع نظرة حكمة غريبة في مؤخرة عينيها.
من يعرف ما قد يحدث الليلة؟ بدأت الاحتمالات تخيفني قليلًا.
استندتُ إلى أقصى مؤخرة كرسييّ، مائلًا في اتجاه مدخنة المدفأة، وبادلتُها الابتسامة بأسلوب من المفترض أن يكون مليئًا بإيحاء محنّك. نظر واحدنا إلى الآخر على ذلك النحو لبعض الوقت، كما لو بتفاهمٍ أكثر عمقًا من الكلمات. رفعتْ الفتاة حاجبيها ببطء، ثم ضيّقت عينيها إلى أن صارتا شقيّن من أسود مضيء. شفتاها السميكتان المطليتان انفتحتا قليلًا، وهي، أيضًا، استرخت في كرسيّها، كما لو أن سؤالًا قد سُئِل وإجابة مرضية قد مُنِحت. بدا أن في وسعي تقريبًا أن أسمعها تخرخر بصوت ضعيف، برضى، مثل قطة.
"عندما غادرنا الكوخ، بدت لي العنزة البيضاء في الفناء شبيهة بوحش أسطوري مقرّن" |
رفعتْ القدح بكلتا يديها، لكنها بدلًا من أن تشرب، استنشقت شذى النبيذ بعمق. ابتسمتْ قليلًا فوق حافة القدح:
"إنه حلو مرّ، أليس كذلك؟". قالت برقّة. "إنه يجعلني دومًا أشعر برغبة في الضحك أو البكاء، أو شيء من ذلك القبيل".
عندما غادرنا الكوخ، بدت لي العنزة البيضاء في الفناء شبيهة بوحش أسطوري مقرّن. الطريق المغبّر اهتز تحت قدميّ. وبدا كل شيء مسليًا على نحو غير منطقي. ضاحكًا بصوت عال، أمسكتُ ذراع الفتاة، وهي، لأكثر من مجرد رد ضغطي، ضحكتْ معي، مع إبقاء نظرتها المُخمِنة على وجهي.
".. هل أنت واثقٌ أنك لست أكثر تشددًا من أن ترقص؟". سألتْ. بدا صوتها جديًا على نحو سخيف.
"تشدّد!" صرختُ. "لماذا، لم أكن سائبًا بهذا القدر في حياتي كلها!".
جفلتُ من الدويّ الهيستيري لصوتي، بدا تقريبًا مثل صوت فتاة. ترنحتُ قبالة الشابة السمراء وهي وضعت ذراعًا مسانِدة حول ظهري. بدا الأمر سخيفًا للغاية. كانت أقصر مني بقدم تقريبًا، وها هي تحملني.
"دعيني وشأني"، قلتُ لها بقسوة. "يمكنني أن أسير لوحدي!".
ضحكتْ قليلًا. "كم عمرك؟" سألتْ فجأة.
"تسع عشرة"، كذبتُ.
"حقًا؟ لم أعرف أنك صغير السنّ بهذا القدر"، قالت. لبعض الوقت بعدها، بدت أهدأ، وأكثر بعُدًا. ثم دخلنا إلى برانسون. كان ثمة مجموعات من المصابيح الزجاجية على طول الشارع. كان ثمة صيدليات، ومطاعم مضاءة، وعرضُ صورٍ مع رواق لامع مطليّ بالقصدير، وإعلانات مبهرجة. وفي كل مكان، كانت هنالك حشود مبتهجة تقضي عطلتها، وترتدي ملابس كتانية وقمصان تحتية بيضاء وكنزات ملونة. وبالقرب من البحيرة، كانت الفرقة تعزف على نحو صاخب، والجميع يندفع أسرابًا في ذلك الاتجاه.
بدا عندئذ أن الفتاة قد عادت إلى الحياة من جديد. أمسكتْ ذراعي.
"أنا متحمسة جدًا للرقص!" قالت. "يبدو كما لو أن عطلتي قد بدأت للتو!".
كانت قاعة الرقص طويلة ومبنية من جذوع الأشجار، مفتوحة ما عدا وجود بعض الستائر، ومضاءة بفوانيس يابانية تتمايل باستمرار مع الريح. غادرني سُكْري الجسديّ حالما وضعنا أقدامنا على أرضية الرقص. لأولّ مرة، اكتشفت أن في وسعي أن أحرّك نفسي مع الموسيقى. انزلقت قدماي من غير عناء على الأرضية الملمّعة بالشمع، وكان جسد الفتاة يستجدي جسدي. بل كان أكثر من مستجدٍ. شددتها أكثر فأكثر نحوي. واندفع دفء جسدها عبر بدلتي الكتانية. كانت أنفاسها على عنقي رطبة. أمسكتْ أصابعها بكتفي. بدا أنها تطلب عناقًا أكثر قربًا مما أستطيع منحه. اختبرتُ عندئذ شيئًا لم أختبره قبلًا مع فتاة. شعرتُ بالخجل، وحاولتُ أن أرخي قبضتي. لكن لدهشتي تشبّثت أكثر. ضغطتْ بشفتيها على رقبتي، وتشبّثتْ كما لو أنها كانت في حالة سُكر، أكثر سكرًا مما كنتُ على الطريق المقمر. صارت قدماها متشابكتين مع قدميّ، تراخى جسدها، وبدا كما لو أني أجرّها على الأرضية. شعوري الدافئ زال. نظرتُ حولي إلى الوجوه الغريبة التي تحيط بأرضية الرقص. بدا أن الجميع يحدّق بنا. توقفتُ فجأة عند طرف الأرضية.
"لنخرج لبعض الوقت"، قلتُ، من دون أن أنظر إليها.
لا بدّ أنها أساءت فهم وجهي الذي يتحاشى النظر إليها، والطابع المتوتر لصوتي. كرّرتْ الكلمات مثل صدى، "لنخرج لبعض الوقت".
نزلنا الدرجات الخشبية من قاعة الرقص، ونزلنا الممشى الخشبي نحو ضفة البحيرة.
هنا كان المكان كلّه مغطى بالرمل الناعم، فضةٌ باهتة في ضوء القمر تمتد لميل، أو اثنين، أعلى وأسفل البحيرة. كانت الريح تهب حاملة برودة جديدة تبشّر بنزول المطر، على الرغم من أن الغيوم كانت لا تزال متناثرة.
أمسكتْ الفتاة بذراعي، وتوقفت لدقيقة عند نهاية الممشى الخشبي.
"هل تشم رائحة العنب؟" سألت.
ارتجفتُ قليلًا. كنت قد شربتُ كثيرًا من النبيذ. كانت الثمالة تتلاشى، وكان الطعم في فمي حلوًا حد التخمة.
"إلى أين تذهبين؟". صحتُ بالفتاة.
ضاحكةً بجموح، بدأتْ تركض على الرمل.
بعد حين، نظر كلانا حوله. واكتشفنا أن المنتجع الترفيهي، وحتى أضواء البلدة، قد اختفت. لم يكن هنالك سوى القمر والنجوم والصمت الواسع للبحيرة والرمل الذي ينسحق تحت أقدامنا. شعرتُ كما لو أني سباح عديم الخبرة وجد نفسه فجأة في مياه أكثر عمقًا من مقدرته. لكنّ وجه الفتاة كان يضيء قليلًا ببعض العنف الداخلي. ارتمتْ على الرمل، وضغطت بيديها عليه وجرفته مثل سبّاحة، مرة بعد مرة. بدا لي أنها كانت تتأوه قليلًا، في أعماق حنجرتها، أو تخرخر مثل قطة. شعرتُ برغبة في أن أتسلل مبتعدًا عنها. كانت كلّ الخفة والحماس قد اختفيا. لم أرغب في انتظار تطوّرِ ما بدا أنه يستحوذ على الفتاة. لم أعد أشعر بالإغراء، أو الإثارة. وبدا أنها كانت غير مدركة لوجودي، في تلك اللحظة، غير مدركة إلا لشيء في داخلها، شعور مخمور، جعلها تفرك يديها فوق الرمل في إيماءة بدتْ لي بذيئة على نحو مبهم.
ربما كنت مفتونًا، ربما كنت خائفًا، أو نافرًا. كانت مشاعري مغطاة ببلادة جعلتها لزمن طويل بعد ذلك صعبةَ الوصف. على أية حال، وجدتُ أنه من المستحيل أن أترك الفتاة هناك. كانت قدماي متجذرتين في الرمل الفضي. وقفتُ فوقها، مستنشقًا حلاوة العنب المُتخِمة التي تحملها الريح، ومنتظرًا أن تمرّ نشوة الفتاة السرية.
"لم أعد أريد أن أكون بمفردي. لم أكن قد جدّفتُ بعيدًا حتى حقول العنب من قبل، ولا استنشقتُ بمثل هذا العمق من قبل حلاوتها الأرجوانية التي تعلق في الذاكرة" |
في آخر المطاف، رفعتْ رأسها من حيث كانت منحنية فوق الرمل، أرجعتْ شعرها الأسود إلى الخلف بإحدى يديها ومدّت الأخرى نحوي. ارتميتُ بجانبها دائخًا، وبطريقة أو بأخرى بتنا نتبادل القبل، وانزلق لسانها بين شفتيّ. طوال ذلك الوقت، ورغم أن تصرفاتي كانت تصرفات ذكر استحوذت عليه العاطفة، كان عقلي يقف فوقها بنفور بليد. سمرتها الشبيهة بالغجر، ثقل جسمها، الحكمة السوداء لعينيها كانت الآن كلها تقبع خالية من الأسرار. عرفتُ لماذا كانت وحيدة، لماذا قالت إنها كانت وحيدة للغاية قبل هذه الليلة. وبالرغم من كل تطلعاتي الذكورية، لم أتمكن من كبح خوفي من الفتاة. تهاوتْ على الرمل وهي تمسك بكتفيّ. كانت تتنفس بصعوبة، وكانت أنفاسها تفوح برائحة النبيذ.
"لنعد إلى الحفلة الراقصة"، تمتمتُ.
"لا، أنا متعبة من الرقص"، قالت. "لماذا تتصرف بغرابة هكذا؟ ألا أعجبكَ؟ هل أنا قبيحة، أو شيء من هذا القبيل؟".
يا إلهي، ما خطبي؟ قلتُ لنفسي. أنتَ تعرف ما الذي تريده الفتاة! أنت لم تعد طفلًا!
لكني لم أتمكن من تحمّل الحلاوة النبيذية لأنفاسها. أدرتُ وجهي بعيدًا، ونهضتُ من على الرمل.
"لنذهب للسباحة!". اقترحتُ بجموح.
"حسنٌ!". وافقتْ.
أدركتُ متأخرًا أننا لا نملك ملابس سباحة. كانت الفتاة قد بدأت أساسًا تنتزع ملابسها عن جسدها. غطستْ في البحيرة عارية تمامًا. ولم يكن في وسعي إلا أن أفعل المثل. مخدّرًا، خلعتُ ملابسي وتبعتُها. اخترقتْ برودة البحيرة الخدرَ الشبيه بالحلم لجسدي وعقلي. شعرتُ بالبرودة واليقظة. لبعض الوقت، عاد إليّ حماس المساء الماضي. سبحنا ولعبنا بالماء مثل الأطفال. لم أفكر بعريها، ولا بعريي. سبحتُ مبتعدًا، ومن ثم مقتربًا من جديد. وعندما صعدتُ إلى الرمل، كنتُ مرهقًا، وتمددتُ أرضًا ونظرتُ إلى السماء المرصعة بالنجوم، ناسيًا تقريبًا الفتاة وما حدث بيننا منذ دقائق.
الريح القادمة من البحيرة صارت أبرد. رحتُ أرتجف رغمًا عني. كانت الفتاة لا تزال تطرطش وتسبح في الماء، وتصيح كما لو أنها قد فقدت عقلها تمامًا. نهضتُ من على الشاطئ وبدأتُ ألتقط ملابسي. لكن عندئذ خرجت الفتاة من الماء مسرعةً.
"أنتَ لا تزال مبلّلًا!". صاحتْ. "لماذا تتصرف بهذه الغرابة؟".
شاعرًا بالضعف، سقطتُ على الرمل مرة أخرى. راحت الفتاة تسخر مني. هرعتْ إلى الصفصافة، حيث كانت قد علّقت ملابسها. وعادت مع معطف أبيض صغير كانت قد حملته إلى الحفلة الراقصة.
"خذ!". قالت. "هذا سيبقي كلينا دافئين!".
محدِّقًا إلى هذا الرداء الذي رفرف فوقي مثل شبح أبيض في الريح القادمة من البحيرة، ملاحظًا طوله وعرضه وحتى سماكته، فهمتُ كلماتها ببطء، ما عنته تلك الكلمات، ما لا يمكن أن تعني غيره. رأيتُ أنها كانت تبتسم في ضوء القمر. شعرها الأسود طيرته الريح من على وجهها. وقفتْ بيني وبين الريح واستنشقتُ دفء جسدها ممزوجًا مع حلاوة العنب المُتخِمة. بانفعال مفاجئ، أمسكت بقدميها البيضاوين. سحبتُها للأسفل نحو الرمل. نُسِي المعطف، والريح البادرة والبحيرة، وبالكاد عرفت إن كنتُ قد كرهت، أو أحببت.
أمطرتْ في الصباح التالي، بدءًا من وقت باكر للغاية، قبل الإفطار، وحتى الظهيرة. لم أنهض. استلقيتُ طوال الصباح على سريري في الكوخ الخشبي الصغير، شاعرًا بالإرهاق ومريضًا بعض الشيء. نظرتُ إلى الخارج، إلى المطر الرمادي، واستمعتُ إلى صوته الرمادي على السقف. وعندما خرجتُ في آخر الأمر، وجدتُ أن حافلة سبرينغفيلد قد أتت وذهبت. انتهت عطلة الفتاة، وطوال بضع ساعات كانت في طريق عودتها إلى عملها في مكتب تأمين على الحياة في كانساس سيتي. شعرتُ بالراحة.
بحلول الظهيرة، كان المطر قد تلاشى. هبت الريح مرة أخرى، وتبعثرت الغيوم مثل زبد. كانت البحيرة الرمادية تكتسب اللون الأخضر تحت الشمس المتوهجة. لكن، في الهواء الذي بات منعِشًا بفعل بالمطر كان ثمة سلفًا البرودة المُنشِّطة للخريف الآتي.
بعد العشاء، توقفتُ قبالة البحيرة، أخذتُ نفسًا عميقًا، وهناك داهمني فجأة التوق القديم لأن أهرب من المعسكر، ومن الابتهاج الذي لا يهدأ لسكانه، لأكون وحيدًا على سطح البحيرة. هرعتُ راجعًا إلى الكوخ، وارتديتُ سروال السباحة. أخذتُ زوجًا من المجاديف من مكتب المدير، وعدوت نازلًا نحو رصيف القوارب المتداعي. شعرتُ بعيون متسكعي الشرفة تتبعني وأنا أنزل، عيون شابات جديدات وشبان جدد كانوا قد وصلوا إلى المعسكر في ذلك الصباح، وشعرتُ بأني فخور بنفسي، فخور بجلدي التي اكتسب اللون البرونزي الغامق وجسدي المعافى، إنما قبل كل شيء، فخور بحريتي، بوحدتي التي لم تطلب سوى أن تُترَك وشأنها. بدا لي أني والبحيرة ننتمي إلى هنا؛ أنا والبحيرة والشمس. الآخرون كانوا دخلاء متغطرسين. زوار عطلة نهاية الأسبوع هؤلاء بجلودهم الشاحبة وعضلاتهم البطيئة، وألفتهم المحمومة، ليس في وسعهم أبدًا أن ينتموا إلى هذا الريف، ليس في وسعهم أبدًا أن يشاطروني رفقتي الملغِزة مع البحيرة والتلال والشمس.
الفتاة ذهبت. وهم سيذهبون، أيضًا.
من دون أن أنظر إلى الخلف، فككتُ واحدًا من القوارب من عند الرصيف، وجدّفت نحو وسط البحيرة. استلقيتُ في قعر القارب، وأسلمت نفسي لتيار بطيء من الأحلام.
لكن، كان ثمة خطب ما. ربما كان السبب هو البرودة غير الاعتيادية للريح، خفة الهواء الذي بات منعشًا بفعل المطر، أو الانحسار المحسوس بالكاد للصيف. لكني كنتُ متململًا. استدرتُ من جانب إلى آخر. النتوءات القاسية في قعر القارب ضايقت جلدي. الشمس لم تكن دافئة بما يكفي، الريح كانت كثيرة البرودة.
بسرعة، انحدر القارب بين التلال. الجداول التي ارتفعت بفعل المطر جعلت التيار قويًا ذلك الصباح. الريح كانت ترتفع من على سطح البحيرة. تحرك القارب بسرعة، بسهولة، كما لو كان مدفوعًا بالأشرعة. التلال تضاءلت. الجروف العارية ابتعدت، البحيرة اتسعت واتسعت إلى أن وجدت نفسي آخر الأمر في العراء. في كلا الطرفين كانت حقول العنب الشاسعة؛ عنب، عنب، عنب! وعلى الرغم من أن القارب انجرف الآن تمامًا إلى وسط البحيرة الواسعة، فإن رائحة العنب أتت في اتجاهي أقوى وأكثر حلاوة مع كل لحظة، إلى أن بدا أن فمي قد امتلأ بنبيذها الأرجواني، وجسدي كله انغمر بدفئها.
استلقيتُ في قعر القارب، متلويًّا ومتأوهًا بصوت عالٍ، باكيًا بفعل وحدة الجسد الرهيبة، متذكرًا شفتيّ الفتاة على شفتيّ، متذكرًا دفء جسدها، متذكرًا السمرة الغجرية لوجهها، جموح شعرها وعينيها، وقبل كل شيء، الحلاوة الشغوفة لعناقها، أسمرَ وحلوًا، حلوًا على نحو مُتخِم تقريبًا، مثل الشذى الأرجواني القوي للعنب.
بشيء من الذعر، أمسكتُ المجدافين وبدأت أجدّف بعنف راجعًا إلى المعسكر. لم أعد أريد أن أكون بمفردي. لم أكن قد جدّفتُ بعيدًا حتى حقول العنب من قبل، ولا استنشقتُ بمثل هذا العمق من قبل حلاوتها الأرجوانية التي تعلق في الذاكرة. الآن، أردتُ أن أعود إلى المعسكر وناسه. أردتُ أن أشعر بهم يتحركون قريبًا مني، وبحميمية حولي. أردتُ أن أسمع أصواتهم العالية، وأشعر بالضغط القوي لأيديهم. أردتُ أن أضيّع نفسي بينهم.
رابط النص الأصلي:
https://www.theparisreview.org/blog/...-8#more-163569
- المترجم: سارة حبيب