"العودة إلى الوطن" لعمران قريشي: في قلق المنمنمات وباكستان
أحمد محسن
تشكيل
سيّج قريشي أعمال المعرض جميعها ببرواز معلنًا عن هويتها
شارك هذا المقال
حجم الخط
يترك آثار اختباراته الألوان في لوحاته، على شكل خطوطٍ رفيعة، تقترب من الأعمال تارةً، ومن البراويز تارةً أخرى. عادةً ما يزيل الرسامون هذه الخطوط، فينشدون عملًا ناصعًا. لكن يبدو أنّ عمران قريشي القادم من لاهور في باكستان، يرى في تشذيب العمل أحيانًا تطفلًا على الطبيعة. يريد لأعماله أن تكون أقل مثالية، وأن تمثّل انعكاسًا للحياة والموت، وليس لتصورات البشر عن الحياة وعن الموت. يريد للعمل أن يكون ميتافيزيقيًا وحقيقيًا في آن. وهذا طموح كبير. هكذا، يمثّل معرض "العودة إلى الوطن" المقام في غاليري "تاديوس روباك" في باريس تقدمًا، أو نقلةً نوعية في أعماله، ويقدّم فرصةً إضافية للتعرف على سيرةٍ فنية ثرية.
مستقبل السماء
أثر البلاد القلقة ظاهر في الداخل، وعلى الحواف. أشجار تسقطها الرياح، وسماءٌ تثقبها الصواريخ. اللون الأحمر حاضرٌ كبقعٍ متفاوتة الأحجام، والأزهار التي ترمز في لوحاته إلى تدفق الطبيعة تثير التناقضات. هذه هي باكستان: السحر الآتي من جمال الطبيعة والماضي والعلاقات بين أحلام البشر وبين الأرض التي شيّدوا عليها هذه الأحلام، وفي الوقت ذاته هي الحاضر القلق الذي تحاصره التحولات المناخية والمخاطر السياسية. رغم كل شيء ينحاز قريشي إلى الأمل. ويبدو، من خلال طفرة التعرجات في الأعمال، أنّه مرغم على ذلك. يتوقع انتصار الطبيعة. وللغرابة لا يترك لنا مجالًا لكي نعترض على هذا الأمل.
الصاروخ الذي يمثّل قيمة رمزية مشحونة بالدلالات لا يحضر للمرّة الأولى، بل مثل معظم النقوش التي يسيّج بها لوحاته، لا يبدو تكرارًا بقدر ما أنّه جزء من بصمة، أو إصرار على المعنى. هذا الصاروخ الذي يبدو نافرًا في غابات اللوحات، ودخيلًا على الحدائق الهادئة، التي يحاول اختراقها، بينما تستوعبه الأرض القادرة على استيعاب كل شيء. لكن العمل ليس إيجابيًا تمامًا، ويظهر اعتراضًا واضحًا على قوة الصاروخ الآخذة في التنامي، في إحداث تغيير جذري في الأرض، التي تملك القدرة على المقاومة، ولكنها لا تستطيع فعل أي شيء تجاه الزمن. في المعرض الحالي، يعود عمران قريشي إلى بلاده، بعودته إلى المنمنمة، وقد سيّج أعمال المعرض جميعها ببرواز، معلنًا عن هويتها.
الثيمة الأساسية لهذا المعرض إذًا هي القلق. ولا يمكننا أن نقول الخوف، بل مجرد قلق. في اللوحة التي تحمل عنوان "تهديد"، ينبع هذا القلق من الجذور، ويصعد داخل إناء الحاضر، ليصل بلا هوادة إلى المستقبل مسننًا وجاهزًا لتغيير السماء. ولا يبدو العمل تحذيرًا جديًا، بل هو إعلان صريح عن شكلٍ جديد من أشكال القلق. وفي "حبّ مموه"، يتابع الفنان رحلته. ويتابع القلق المسنن، الذي يشبه مئذنة للوهلة الأولى، أو سقفًا لمنزلٍ من الماضي للوهلة الثانية، أو كل ما يمكنه اختراق الحاضر. لكنه في النهاية صاروخ. يتابع صعوده نحو المستقبل، الرمادي هذه المرة، بينما تشير البقع البرتقالية غالبًا إلى المكان المصوّب نحوه كل هذا الرعب. هذا القلق لا يمنعه من العودة إلى فكرته الأساسية عن الآخر، فيعود إلى ما بدأه في أعماله السابقة، ويقدّم تصورًا عن "قصة العالم الآخر". وبطبيعة الحال، لا يقصد بالآخر هنا كيانًا، أو ذاتًا تقابل ذاتًا أخرى، لكنه يضع العالم نفسه كذات، في مواجهة العالم الآخر كذاتٍ مكمّلة له.
فيما يسيّج هذا التصور الميتافيزيقي بما يمكننا الافتراض أنه أغنيات، بالنظر إلى أعماله السابقة، ترتفع الحدائق من مكانها في الأسفل، في اللوحات الأخرى، إلى الأعلى هذه المرة.
يتراجع القلق، لكنه يعاود الظهور ناجزًا في صورته النهاية، متحققًا كقطعِ وانقطاع. في "القَص السهل"، وباستعمال مواد مختلفة، تنقسم الهوية إلى نصفين. ويستعمل الفنان المقص غالبًا للإشارة إلى تعمّد القطع والتبدل، في الهوية، وفي المحيط الجغرافي الكبير. وفيما يسبح الشق التالي في الأخطار المحدقة بالهوية المعاصرة، تنجو الأخيرة من الانقطاع إلى نصفين متساويين، لكنها لا تنجو من التفسخ. بهذه الطريقة، يعبّر قريشي عن سلسلة واسعة من الأفكار، المحملة بدلالاتٍ وافرة، من دون أن يتخلى عن موقفٍ حاسم يفيد بوجود الخطر. هذا الخطر يدهم "العودة إلى الوطن"، في لوحة ثانية تحمل الاسم نفسه. تتشظى المنمنمة وتتشظى البلاد. تتبعثر الشجرة وتجمع نفسها بنفسها، وتخترقها دوائر الزمن نفسها، سوداء هذه المرة. بعد القلق، ثيمة العمل الثانوية هي التشظي، التي قد تكون سمة العودة، أو سمة الوطن نفسه، أو سمتهما كلاهما، ولا سيما أن الأشجار والجذور، رغم التنوع في الألوان، وفي حدود المنمنمات، تبقى عنصرًا أساسيًا في أعمال قريشي عن الوطن وحوله.
في "العودة إلى الوطن"، الذي هو باكستان، وهو الشرق، والأرض والمنمنمة أيضًا، لا تتصل الأعمال ببعضها بعضًا بالضرورة، لكن اجتماع رموزها والأدوات المستخدمة لصناعتها، مثل الورق المصنّع منزليًا، يقود إلى فكرةٍ واحدة، عن معركة الطبيعة مع التحولات. فالشجرة المقصوصة، التي تفسّر القلق والخوف، هي أيضًا نتيجة حاسمة للتغيّر المناخي، خاصةً في بلد مثل باكستان، الذي جرفت السيول ذاكرة شعبه وبيوتهم. هذا الضعف البيئي الرهيب يظهر في تمثيلٍ بغاية البساطة، ولكن بقدرةٍ كافية على تقديم انعكاس للمقصد. وقد يحار الناظر إلى الدوائر، المحيطة بالأعمال، في تحديد المغزى السيميائي منها. بيد أنها غالبًا نقاط في هذا العالم الكبير، تواجه السيول على الأرض، والصواريخ من الجو. إنها بيوت هشة وساكنين ضعفاء، تحاول ويحاولون البقاء. رغم أنّه يقدّم معرضًا بتصورٍ واضح عن "الوطن"، إلا أنّه لا يخرج هذا الوطن من الجغرافيا بسلاسة، ويعيده إليها بالطريقة نفسها. تظهر آثار الخرائط على أعماله، ممزقة وقابلة للتفكك والاتصال، في تعبيرٍ سياسي بالغ الدلالة على طبيعة الصراع بين باكستان والهند، وما يتركه هذا الصراع من آثار آخذة في العبث بالأرض.
ماضي الرموز وحاضرها
بالنظر إلى أعماله السابقة، يقدّم الفنان الباكستاني نسقًا متصلًا، قائمًا على التجديد، وقادرًا على إعادة بعثرة الأفكار رغم الحفاظ على سلسلة هجينة من الرموز: الخرائط المتشظية إلى خطوط، الأشجار وفروعها، الزخارف التي تواصل رحلتها في التاريخ. ربما تتوجب الإشارة، إلى أنّ هذا النوع من المنمنمات، الذي يسيّج أعمال قريشي، ظهر في القرن السادس عشر، في بلاط سلطنة مغول الهند تحديدًا.
وكما في أعماله السابقة، يمكن تتبع نسق فريد، يحاول الجمع بين الأنماط التقليدية من جهة، وبين الاتجاهات الآنية في الفنون. بوضوحٍ تام، وأحيانًا بشيءٍ من الالتباس المتعمّد، يتكّل قريشي على الحد الأدنى من الجمال، لكي يبنى تصورًا رمزيًا شديد الكثافة، يعلن من خلاله مواقف صريحة من القضايا الإنسانية. في هذا المعرض، الذي يحمل اسمًا صريحًا، يتابع قريشي ما بدأه سابقًا. يحمل معه ولادته في حيدر آباد، وحياته في لاهور، إلى مدن العالم، هو المعروف عنه أيضًا عمله في الإنشاءات، والأبعاد التاريخية والسياسية التي تحملها. في الواقع، بدأ قريشي حياته الفنية، بالحد الذي يمكننا تتبعه، فنانًا هادئًا، يعرض على العالم إمكانية المساومة، ويقيم وزنًا للاختلاف، انطلاقًا من وزن الشبه نفسه. فنان يعرف معنى الآخر، فهذا المعنى هو الذي يمكنه في النهاية من معرفة الذات نفسها. في "أخذ وعطاء" (2013)، يتوزع العمل على نصفين، ينظر الواحد منهما إلى الآخر، بما قد تخاله شيئًا من الريبة في البداية، إلا أن الحياة في العملين تمشي في الاتجاه نفسه. وإن كان من عطاء، فلا بد من أخذ. الشكلان البيضاويان متساويان، ومع بعضهما يشكلان كيانًا واحدًا، إلا أن داخلهما مثل الذات، ترتعش قبل الآخر وبعده. أحيانًا، كانت عناوين الأعمال تضع المتلقي في مأزق، وهذا ما حاول قريشي تفاديه في معرضه الجديد.
الخيوط البيضاء التي عاودت الظهور في "العودة إلى الوطن" ليست جديدة. في 2019، ظهرت تخترق أشباحًا عائمة في أزرقٍ شاسع، لم يكن يشير إلى شيء محدد، وربما كان يشير إلى أشياء كثيرة محددة. هذا التجريد يظهر أيضًا في "أغنية لهذا اليوم" (2017)، حيث الأصوات الكثيرة تنسحب من أصحابها، وتهاجم بعضها بعضًا، ثم تستكين كل في موقعها، لتشكّل معًا أغنية، لحسن الحظ أنّها لهذا اليوم فقط. أما القلق فهو مستمر، ويمكننا العثور عليه في اللوحة التي تحمل عنوان "عندما فكّرنا بك ولم تكن هنا" في 2017 أيضًا. لن نستطيع تحديد العلاقة بسهولة بين هذا العمل، وبين العمل السابق، إلا أنّ واحدًا منهما فرّ من الآخر. فإما أن تكون الأفكار تناثرت وشكّلت معًا أغنية لتحتمي بالأزرق، وإما أن يكون طرفٌ من أطراف الأغنية غادر واتسع ليصير فكرةً تبحث عن شخص. بقليل من التأمل، يبدو أنّ أعمال قريشي عرفت تطورًا واضحًا، إلا أنّه حافظ على منحى محدد في الرموز السيميائية. في "تحبّني، لا تحبّني" (2019) يبدو وكأنه تخلّص من هيمنة المنمنمات على أعماله، وسرعان ما نكتشف أنها واحدة من الألعاب. في تلك اللوحة الفريدة، يستجيب العمل العمودي إلى حاجةٍ ماسة في الارتفاع، ويطغى الأحمر عليه بقوة. وباستثناء الميل الواضح إلى البدء من الأسفل، واستخدام الأبيض كتعبير عن رفض الأحمر كمُطلق، لا شيء في تلك اللوحة إلا الحنين للعودة إلى المنمنمات. إلى ذلك، في معرضه الحالي كما في معارضه السالفة، للصوت تأثير واضح على الأعمال. وإن كان حاول تفادي المواربة في "مونولوغ" عام 2019، إلا أنّه رسم نفسه في قلب المنمنمة، أو في قلب الوطن. ويبدو أنّ ذلك كان تحضيرًا غير معلن للمعرض الحالي المُقام في باريس.
شارك هذا المقال مقالات اخرى للكاتب
أحمد محسن
تشكيل
سيّج قريشي أعمال المعرض جميعها ببرواز معلنًا عن هويتها
شارك هذا المقال
حجم الخط
يترك آثار اختباراته الألوان في لوحاته، على شكل خطوطٍ رفيعة، تقترب من الأعمال تارةً، ومن البراويز تارةً أخرى. عادةً ما يزيل الرسامون هذه الخطوط، فينشدون عملًا ناصعًا. لكن يبدو أنّ عمران قريشي القادم من لاهور في باكستان، يرى في تشذيب العمل أحيانًا تطفلًا على الطبيعة. يريد لأعماله أن تكون أقل مثالية، وأن تمثّل انعكاسًا للحياة والموت، وليس لتصورات البشر عن الحياة وعن الموت. يريد للعمل أن يكون ميتافيزيقيًا وحقيقيًا في آن. وهذا طموح كبير. هكذا، يمثّل معرض "العودة إلى الوطن" المقام في غاليري "تاديوس روباك" في باريس تقدمًا، أو نقلةً نوعية في أعماله، ويقدّم فرصةً إضافية للتعرف على سيرةٍ فنية ثرية.
مستقبل السماء
أثر البلاد القلقة ظاهر في الداخل، وعلى الحواف. أشجار تسقطها الرياح، وسماءٌ تثقبها الصواريخ. اللون الأحمر حاضرٌ كبقعٍ متفاوتة الأحجام، والأزهار التي ترمز في لوحاته إلى تدفق الطبيعة تثير التناقضات. هذه هي باكستان: السحر الآتي من جمال الطبيعة والماضي والعلاقات بين أحلام البشر وبين الأرض التي شيّدوا عليها هذه الأحلام، وفي الوقت ذاته هي الحاضر القلق الذي تحاصره التحولات المناخية والمخاطر السياسية. رغم كل شيء ينحاز قريشي إلى الأمل. ويبدو، من خلال طفرة التعرجات في الأعمال، أنّه مرغم على ذلك. يتوقع انتصار الطبيعة. وللغرابة لا يترك لنا مجالًا لكي نعترض على هذا الأمل.
الصاروخ الذي يمثّل قيمة رمزية مشحونة بالدلالات لا يحضر للمرّة الأولى، بل مثل معظم النقوش التي يسيّج بها لوحاته، لا يبدو تكرارًا بقدر ما أنّه جزء من بصمة، أو إصرار على المعنى. هذا الصاروخ الذي يبدو نافرًا في غابات اللوحات، ودخيلًا على الحدائق الهادئة، التي يحاول اختراقها، بينما تستوعبه الأرض القادرة على استيعاب كل شيء. لكن العمل ليس إيجابيًا تمامًا، ويظهر اعتراضًا واضحًا على قوة الصاروخ الآخذة في التنامي، في إحداث تغيير جذري في الأرض، التي تملك القدرة على المقاومة، ولكنها لا تستطيع فعل أي شيء تجاه الزمن. في المعرض الحالي، يعود عمران قريشي إلى بلاده، بعودته إلى المنمنمة، وقد سيّج أعمال المعرض جميعها ببرواز، معلنًا عن هويتها.
الثيمة الأساسية لهذا المعرض إذًا هي القلق. ولا يمكننا أن نقول الخوف، بل مجرد قلق. في اللوحة التي تحمل عنوان "تهديد"، ينبع هذا القلق من الجذور، ويصعد داخل إناء الحاضر، ليصل بلا هوادة إلى المستقبل مسننًا وجاهزًا لتغيير السماء. ولا يبدو العمل تحذيرًا جديًا، بل هو إعلان صريح عن شكلٍ جديد من أشكال القلق. وفي "حبّ مموه"، يتابع الفنان رحلته. ويتابع القلق المسنن، الذي يشبه مئذنة للوهلة الأولى، أو سقفًا لمنزلٍ من الماضي للوهلة الثانية، أو كل ما يمكنه اختراق الحاضر. لكنه في النهاية صاروخ. يتابع صعوده نحو المستقبل، الرمادي هذه المرة، بينما تشير البقع البرتقالية غالبًا إلى المكان المصوّب نحوه كل هذا الرعب. هذا القلق لا يمنعه من العودة إلى فكرته الأساسية عن الآخر، فيعود إلى ما بدأه في أعماله السابقة، ويقدّم تصورًا عن "قصة العالم الآخر". وبطبيعة الحال، لا يقصد بالآخر هنا كيانًا، أو ذاتًا تقابل ذاتًا أخرى، لكنه يضع العالم نفسه كذات، في مواجهة العالم الآخر كذاتٍ مكمّلة له.
فيما يسيّج هذا التصور الميتافيزيقي بما يمكننا الافتراض أنه أغنيات، بالنظر إلى أعماله السابقة، ترتفع الحدائق من مكانها في الأسفل، في اللوحات الأخرى، إلى الأعلى هذه المرة.
"الثيمة الأساسية لهذا المعرض هي القلق. ولا يمكننا أن نقول الخوف، بل مجرد قلق" |
في "العودة إلى الوطن"، الذي هو باكستان، وهو الشرق، والأرض والمنمنمة أيضًا، لا تتصل الأعمال ببعضها بعضًا بالضرورة، لكن اجتماع رموزها والأدوات المستخدمة لصناعتها، مثل الورق المصنّع منزليًا، يقود إلى فكرةٍ واحدة، عن معركة الطبيعة مع التحولات. فالشجرة المقصوصة، التي تفسّر القلق والخوف، هي أيضًا نتيجة حاسمة للتغيّر المناخي، خاصةً في بلد مثل باكستان، الذي جرفت السيول ذاكرة شعبه وبيوتهم. هذا الضعف البيئي الرهيب يظهر في تمثيلٍ بغاية البساطة، ولكن بقدرةٍ كافية على تقديم انعكاس للمقصد. وقد يحار الناظر إلى الدوائر، المحيطة بالأعمال، في تحديد المغزى السيميائي منها. بيد أنها غالبًا نقاط في هذا العالم الكبير، تواجه السيول على الأرض، والصواريخ من الجو. إنها بيوت هشة وساكنين ضعفاء، تحاول ويحاولون البقاء. رغم أنّه يقدّم معرضًا بتصورٍ واضح عن "الوطن"، إلا أنّه لا يخرج هذا الوطن من الجغرافيا بسلاسة، ويعيده إليها بالطريقة نفسها. تظهر آثار الخرائط على أعماله، ممزقة وقابلة للتفكك والاتصال، في تعبيرٍ سياسي بالغ الدلالة على طبيعة الصراع بين باكستان والهند، وما يتركه هذا الصراع من آثار آخذة في العبث بالأرض.
ماضي الرموز وحاضرها
بالنظر إلى أعماله السابقة، يقدّم الفنان الباكستاني نسقًا متصلًا، قائمًا على التجديد، وقادرًا على إعادة بعثرة الأفكار رغم الحفاظ على سلسلة هجينة من الرموز: الخرائط المتشظية إلى خطوط، الأشجار وفروعها، الزخارف التي تواصل رحلتها في التاريخ. ربما تتوجب الإشارة، إلى أنّ هذا النوع من المنمنمات، الذي يسيّج أعمال قريشي، ظهر في القرن السادس عشر، في بلاط سلطنة مغول الهند تحديدًا.
"يريد قريشي لأعماله أن تكون أقل مثالية، وأن تمثّل انعكاسًا للحياة والموت، وليس لتصورات البشر عن الحياة وعن الموت" |
وكما في أعماله السابقة، يمكن تتبع نسق فريد، يحاول الجمع بين الأنماط التقليدية من جهة، وبين الاتجاهات الآنية في الفنون. بوضوحٍ تام، وأحيانًا بشيءٍ من الالتباس المتعمّد، يتكّل قريشي على الحد الأدنى من الجمال، لكي يبنى تصورًا رمزيًا شديد الكثافة، يعلن من خلاله مواقف صريحة من القضايا الإنسانية. في هذا المعرض، الذي يحمل اسمًا صريحًا، يتابع قريشي ما بدأه سابقًا. يحمل معه ولادته في حيدر آباد، وحياته في لاهور، إلى مدن العالم، هو المعروف عنه أيضًا عمله في الإنشاءات، والأبعاد التاريخية والسياسية التي تحملها. في الواقع، بدأ قريشي حياته الفنية، بالحد الذي يمكننا تتبعه، فنانًا هادئًا، يعرض على العالم إمكانية المساومة، ويقيم وزنًا للاختلاف، انطلاقًا من وزن الشبه نفسه. فنان يعرف معنى الآخر، فهذا المعنى هو الذي يمكنه في النهاية من معرفة الذات نفسها. في "أخذ وعطاء" (2013)، يتوزع العمل على نصفين، ينظر الواحد منهما إلى الآخر، بما قد تخاله شيئًا من الريبة في البداية، إلا أن الحياة في العملين تمشي في الاتجاه نفسه. وإن كان من عطاء، فلا بد من أخذ. الشكلان البيضاويان متساويان، ومع بعضهما يشكلان كيانًا واحدًا، إلا أن داخلهما مثل الذات، ترتعش قبل الآخر وبعده. أحيانًا، كانت عناوين الأعمال تضع المتلقي في مأزق، وهذا ما حاول قريشي تفاديه في معرضه الجديد.
الخيوط البيضاء التي عاودت الظهور في "العودة إلى الوطن" ليست جديدة. في 2019، ظهرت تخترق أشباحًا عائمة في أزرقٍ شاسع، لم يكن يشير إلى شيء محدد، وربما كان يشير إلى أشياء كثيرة محددة. هذا التجريد يظهر أيضًا في "أغنية لهذا اليوم" (2017)، حيث الأصوات الكثيرة تنسحب من أصحابها، وتهاجم بعضها بعضًا، ثم تستكين كل في موقعها، لتشكّل معًا أغنية، لحسن الحظ أنّها لهذا اليوم فقط. أما القلق فهو مستمر، ويمكننا العثور عليه في اللوحة التي تحمل عنوان "عندما فكّرنا بك ولم تكن هنا" في 2017 أيضًا. لن نستطيع تحديد العلاقة بسهولة بين هذا العمل، وبين العمل السابق، إلا أنّ واحدًا منهما فرّ من الآخر. فإما أن تكون الأفكار تناثرت وشكّلت معًا أغنية لتحتمي بالأزرق، وإما أن يكون طرفٌ من أطراف الأغنية غادر واتسع ليصير فكرةً تبحث عن شخص. بقليل من التأمل، يبدو أنّ أعمال قريشي عرفت تطورًا واضحًا، إلا أنّه حافظ على منحى محدد في الرموز السيميائية. في "تحبّني، لا تحبّني" (2019) يبدو وكأنه تخلّص من هيمنة المنمنمات على أعماله، وسرعان ما نكتشف أنها واحدة من الألعاب. في تلك اللوحة الفريدة، يستجيب العمل العمودي إلى حاجةٍ ماسة في الارتفاع، ويطغى الأحمر عليه بقوة. وباستثناء الميل الواضح إلى البدء من الأسفل، واستخدام الأبيض كتعبير عن رفض الأحمر كمُطلق، لا شيء في تلك اللوحة إلا الحنين للعودة إلى المنمنمات. إلى ذلك، في معرضه الحالي كما في معارضه السالفة، للصوت تأثير واضح على الأعمال. وإن كان حاول تفادي المواربة في "مونولوغ" عام 2019، إلا أنّه رسم نفسه في قلب المنمنمة، أو في قلب الوطن. ويبدو أنّ ذلك كان تحضيرًا غير معلن للمعرض الحالي المُقام في باريس.
شارك هذا المقال مقالات اخرى للكاتب