"التصوير بأربعة أياد": آندي وارهول وجان باسكيا
أسعد عرابي
تشكيل
إعلان المعرض يكشف التناقض بين الاثنين رغم توحدهما
شارك هذا المقال
حجم الخط
تعتبر مؤسسة لوي فيتون (باريس - غابات بولونيا)، بعمارتها المستقبليّة، قدوة نموذجية في احتكار تظاهرات العروض الكبرى خلال السنوات الأخيرة، خاصة المعرض المركزي الراهن، الذي يعانق ثلاثمئة لوحة عملاقة أو قزمة، استعيرت بمجملها من أبرز المتاحف في نيويورك على غرار متحف الفن الحديث (المتروبوليتان).
أهم ما يحتويه المعرض سبعون لوحة ثنائية التوقيع لأعمال اثنين من الفنانين الأوسع شهرة على المستوى العالمي والأميركي على الأخص، وهما آندي وارهول وجان باسكيا، وهي المنجزة ما بين عامي 1984 و1985 مـ، منتخبة من مئة وستين لوحة مشتركة.
الأول آندي وارهول مهاجر روسي من مواليد 1928 من مدينة سان بطرسبورغ، ومن بيئة متعلمة أرستقراطية، أما الثاني جان ميشيل باسكيا فهو على النقيض من مواليد نيويورك عام 1960 مـ من وسط شعبي أفريقي (مثل أصل عائلته).
توثقت علاقتهما بعد لقاء الصدفة في مطعم سوهو، فأصبح سكنهما ومحترفهما مشتركًا، يعملان معًا على نفس اللوحة. ويعرضان معًا في غاليري شافرازي. يكشف إعلان المعرض شدة التناقض الفني والشخصي بينهما (رغم حميمية توحدهما) وذلك بصورة الملاكمة وإشارة الضرب بينهما، والعنوان المثير "التصوير بأربعة أيادٍ"، عبارة مستعارة من مؤلف موسيقي هنغاري عالمي واسع الشهرة هو بيلا بارتوك في كل حالة سوناتا منوطة على آلتي بيانو.
بالقدر الذي عرفت فيه رصانة وعمق دراسة الكرافيك لدى وارهول وشخصيته الخجولة والملتزمة بأصول سلوكه، نلاحظ شخصية مناقضة لدى باسكيا المتسمة بالفوضوية في الرسم والغرافيتي الشعبي المبتذل المنتشر على جدران المدينة والطرق العامة، لدرجة الجنوح عن القانون. ناهيك عن ارتباطه بطقوس "البرفورمانس" أي التظاهر الفني لمرة واحدة بحضور الجمهور. وكذلك الأمر اختلاطه مع شعبية موسيقى الجاز. التحق الأول من خلال طباعاته على الشاشة الحرير بحركة البوب آرت النخبوية، لعل أشهر لوحاته التي تمثل التحولات اللونية على وجه مارلين مونرو بعكس باسكيا الذي ينتمي إلى حرية "التعبيرية المحدثة" تمثلها لوحته الممتدة أفقيًّا على قياس عشرين مترًا بعنوان "الأقنعة الأفريقية" منفذة على جدار رصيف المترو خلسة وفي غفلة من رقابة الإدارة.
لم يمنع هذا التناقض من حميمية التعلق الذكوري بينهما، فعندما توفي الأول عام 1987 مـ توفي الثاني بعد عام لمرارة فراقه وإدمانه على المخدرات حتى قضى نحبه بجرعة انفجارية انتحارية من الهيرويين عن عمر لا يتجاوز السابعة والعشرين.
"الوجهان"، آندي وارهول وجان باسكيا، 1982، أكريليك على خشب/ "6.99"، آندي وارهول وجان باسكيا، أكريليك على قماش، 1985 |
ازدواجية الأداء والتوقيع والتصوير الثنائي رسخ نجومية الاثنين، و"تناص" أسلوبيهما، وارهول أصبح أشد استفزازًا وهمجية وتعددية في المواد، وباسكيا استثمر التقنيات النخبوية التي تدرب عليها زميله |
لا بد من الاعتراف أن ازدواجية الأداء والتوقيع والتصوير الثنائي رسخ نجومية الاثنين، و"تناص" أسلوبيهما، وارهول أصبح أشد استفزازًا وهمجية وتعددية في المواد، وباسكيا استثمر التقنيات النخبوية التي تدرب عليها زميله خاصة طباعة الشاشة الحرير، وتطورت قياسات اللوحات المئة والستين المشتركة. تعملقت أحيانا على قياس الشارع والمترو، أو تقزمت لسهولة عرضها واقتنائها. كانت تعتمد غالبًا على التوليف بين الملصقات الطباعية والفوتوغرافية الجاهزة والرسم المباشر بمواد مبتذلة ولكنها سحرية أفريقية.
لا شك في أن قوة شخصية وطزاجة باسكيا اجتاحت ديكارتية وارهول ضمن زواج أسلوبي يغلب عليه تصوير وجوه الاثنين متقابلين يقعان ما بين المثلية التناغمية والنفور أو الصراع التناقضي: يذكرنا بالقطيعة العدوانية ما بين فان غوخ وبول غوغان.
يخلط بعض النقاد بمن فيهم المثقفون ومنهم العرب بين مفاهيم ومصطلحات نقدية متباينة من مثال الوجه Le visage المستقى من صورة الهوية وآلاتها السريعة، مثالها وجوه مارلين مونرو ووجوه باسكيا ووارهول، ونذير اسماعيل التي تمثل شيوع التعذيب حتى الموت. ثم البورتريه Le portrait الذي يملك تقاليده منذ بورتريهات الفيوم في القرن الأول الميلادي (المدافن المصرية انبثقت عنها الأيقونات) استقرت تقاليدها في القصور فأصبح يعرف بالبورتريه النصفي أي الذي يحوي الأكتاف واليدين على غرار أعمال آنغر وما عداه من الكلاسيكية والباروك، إدوار مانيه كان يفرق بشكل واضح بينهما. ثم هناك تصوير الفنان بريشته في المرآة ويدعى Autoportrait الأوتوبورتريه. ثم الجسد كاملًا Le corps لا علاقة له بالبورتريه.
"بدون عنوان"، جان باسكيا، أكريليك على قماش/ وإحدى أهم لوحات آندي وارهول: طباعة على شاشة حريرية بتحولات لونية على وجه مارلين مونرو، 1962 |
هي الشريحة الثنائية أو الثلاثية التي تمثّل إحباط المدينة الحديثة بمثالها النموذجي نيويورك والصراع العنصري المخفي بين تعالي الجنس الأبيض والعبودية المتأصلة تجاه لون الجسد الأفريقي.