"راجعة يا ماما" لكاتيا طرابلسي: "جمالية الشاحنات" وهويتنا الثقافيّة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "راجعة يا ماما" لكاتيا طرابلسي: "جمالية الشاحنات" وهويتنا الثقافيّة

    "راجعة يا ماما" لكاتيا طرابلسي: "جمالية الشاحنات" وهويتنا الثقافيّة
    دارين حوماني
    تشكيل
    كاتيا طرابلسي
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    راجعة بإذن الله... عين الحاسد تبلى بالعمى... خلصي دروسك وانزلي لبوسك... رافعة حواجبها وما حدا عاجبها... الدنيا ممر والآخرة مقر، وغيرها من العبارات المستلّة من أمثالنا الشعبية وأقوالنا المأثورة ومن تراثنا وماضينا بل من هويتنا ليس فقط كلبنانيين بل كعرب، والتي نجدها على الشاحنات الكبيرة المحمّلة بالبضائع التي تقطع المدن والمناطق والبلاد العربية المتجاورة، عبارات سنجدها أيضًا في معرض "راجعة يا ماما" للفنانة المتعددة الوسائط كاتيا طرابلسي في غاليري صالح بركات في بيروت ويستمر حتى 22 نيسان/ أبريل الحالي، وقد اشتغلت الفنانة مع حِرفيين لتجهيز الهياكل المعدنية وكتابة هذه العبارات لتكون مشابهة تمامًا للخلفية الحديدية للشاحنات.

    تشكّل العبارات والرموز على خلفية الشاحنات جزءًا من المعتقدات الاجتماعية والدينية وحيث الكلمات الموسيقية تتغلغل فيها لتُخرج أعذب العبارات وأطرف الجمل وأجمل الحِكم من الحياة، بل وتعكس أعمق المشاعر الإنسانية. وتشكّل خلفية الشاحنات منصة للتعبير خاصة بمالك الشاحنة تعكس هويته وثقافته وشخصيته وأفكاره. الأمر لا يقتصر على العالم العربي، بل تنتشر هذه الثقافة الشعبية في عدد كبير من دول العالم. يُقال إن هذه العادة انتقلت إلى العالم العربي من الدول الشرق آسيوية وتحديدًا باكستان والهند، من هناك بدأت، حيث كانوا يزينون شاحناتهم بمجموعة هائلة من الرسوم التي تمثل عبارات من تاريخ الأدب والشعر وموضوعات مستوحاة من حكايات شعبية والحكم والأمثال كما كانت الإطارات تُغطى بحبال من حبيبات الزجاج بما يشبه الستائر الملونة. وفي أميركا الوسطى والجنوبية سنرى حرفيين يضعون طاقاتهم الإبداعية في زخرفة خلفية الشاحنات بنقوش أثرية وشعارات ورموز وأسماء من عائلة مالك الشاحنة وبعض المشاهير الكروية.





    "راجعة يا ماما" بعنوانه الذي أرادته الفنانة للتذكير بانتظار الأمهات لعودة الأبناء، أولئك الذين غادروا وطنهم وجذورهم، فثمة خوف وقلق بأنهم لن يعودوا أبدًا، لكنه يذّكرنا أيضًا بزمن كان الأبناء يذهبون إلى الحرب ولا يعودون أو يخرجون لطلب الرزق فيصبحون في عداد المفقودين، كأن عنوان المعرض يأتي كرسالة أمل لكل تلك الأمهات اللاتي فقدن أبناءهن أو يجلسن بحكم الانتظار والأمل. المعرض هو أيضًا تكريم لمدينة طرابلس ولسائقي الشاحنات الدؤوبين الذين يربط عملهم بين بلدنا ومناطقنا وحياتنا دون تمييز على أساس الاختلاف الديني أو السياسي، تقول كاتيا طرابلسي ذلك وتكتب في بيان المعرض "تبدأ قصتي مع الشاحنات بافتنان يومي، وفضول حول الأشخاص الذين يقفون وراء التصميم اللامتناهي والرسائل على الأبواب الخلفية لهذه الشاحنة. متى بدأت هذه الممارسة، من رسَم الشاحنة الأولى؟ من أين أتت هذه الجمل ومن كتبها ولماذا؟ لطالما اعتقدتُ أن الدين والمعتقدات ثنائي واحد. متى يبدأ الإيمان بالدين وأين تنتهي الخرافات؟".
    هدف الفنانة لا يقتصر على نقل هذا الفن إلى البيوت أو لتكريم أصحاب الشاحنات بل لتكريم هذه الشاحنات نفسها التي تأخذ بُعدًا بشريًا وإنسانيًا فهي تقطع لبنان المفكّك والمقطّع الأوصال من شماله إلى جنوبه وبقاعه ومن جنوبه وبقاعه إلى شماله بدون أي تمييز طائفي
    افتنان الفنانة بفكرة العبارات والرسوم والرموز على الشاحنات، دفعها للتواصل مع شخص اسمه علي الأطرش وجدت توقيعه ورقمه على خلفية إحدى الشاحنات، تعاونت معه ومع الخطاط "أبو علي" لأكثر من عام ونصف العام، تقول طرابلسي: "إنهم نموذج للتعايش، غير مسيّسين في بلد كل ما فيه سياسي، فتشت عنهم واشتغلت على تصميمي الخاص من خلال فنهم الذي أريد أن يصبح فنًا معروفًا، وهو عمل مهم جدًا، دورهم مهم جدًا، يأخذون المحاصيل من الشمال إلى الجنوب في عبور للمناطق والطوائف. كنت أريد أن أظهر أهمية الشاحنات وفكرتها"، وترى الفنانة أن أهمية عملها بأهمية عمل هؤلاء الحرفيين وإنه بدونهم لم يكن لمشروعها أن يرى النور، وأن العمل كان بالتعاون بينها وبينهم، والذي كان ممتعًا جدًا حسب تعبيرها. تحدثنا مع علي الأطرش أيضًا الذي قال إن الفنانة وضعت التصميم وأنه نفّذ الفكرة مع حرفيين آخرين، العبارات، والزخارف، والرسوم اختارتها الفنانة وتم العمل على تنفيذها سويًا. كما تحدّث عن أن سائقي الشاحنات عادة يأتون إليه وقد اختار كل سائق ما يحب من العبارات والرموز في تأكيد على أن هذه اللغة البصرية التي نشاهدها على خلفية الشاحنات هي انعكاس لشخصية مالك الشاحنة ورغبته.

    يتضمن المعرض أكثر من خمسين عملًا مطليًا بالدهان (أعمال كبيرة وصغيرة الحجم)، أرادت الفنانة بها أن تنقل هذا الفن الشعبي إلى البيوت عبر تمثيل نفس خلفية الشاحنات بأعمال تؤرّخ لجزء من ثقافتنا. هدف الفنانة لا يقتصر على نقل هذا الفن إلى البيوت أو لتكريم أصحاب الشاحنات بل لتكريم هذه الشاحنات نفسها التي تأخذ بُعدًا بشريًا وإنسانيًا فهي تقطع لبنان المفكّك والمقطّع الأوصال من شماله إلى جنوبه وبقاعه ومن جنوبه وبقاعه إلى شماله دون أي تمييز طائفي كصلة وصل وتلاقٍ وربط ٍ للمناطق بعضها ببعض، بما يذكّرنا بكلمات الشاعر اللبناني عمر الزعني عن ترامواي بيروت الذي توقف عن العمل مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 "رزق الله على أيامك يا ترامواي بيروت... كنت تمشّي الحال وتسعد كل البيوت... قاموك لأنك دغري... وبتمشي على سكة الدغري... وما بتلف وبتدور يا ترامواي بيروت"، هي فكرة التلاقي بين اللبنانيين التي قطعتها الحروب الطائفية المتعددة الأشكال منذ عام 1975 وحتى يومنا هذا وحافظت عليها الشاحنات واستمرت في عملية الوصل بين المناطق وفي توحيد اللبنانيين على لغة واحدة، هي الهوية الثقافية الواحدة وهي القصص الصغيرة المشتركة من الحب والخوف والفرح والاحتماء من الحسد والعين الشريرة والدعاء، المشغولة بحِكم وأمثال وكلمات من الأغاني لا تموت.



    تعتبر أعمال طرابلسي تحية لـ "جمالية الشاحنات" وتكشف عن الممارسات الثقافية الخاصة باللبنانيين كلهم، وإن كانت الفنانة قد وجهت تحيتها في المعرض إلى أبناء مدينتها طرابلس فقط. جمالية أرادتها كاتيا طرابلسي لإعادة إنتاج هذا الفن على طريقتها، تحويله إلى لغة فنية جديدة تكشف من خلالها عن موضوعات تخص اللبنانيين ومفاهيم متعددة يؤمنون بها، حب الله أو حب الوطن أو حب الأم أو العشق أو عبارات لدرء الحسد، وأمثال شعبية وموضوعات "التضامن والاختلاف والتعرف الجماعي والخرافات والحياة الآخرة". فعلى عمل بصري واحد اختارت له كاتيا طرابلسي اللونين الأخضر والأزرق يمكن أن نرى عشرة أقوال مستلة من زوايا مختلفة من ذاكرتنا جميعًا، سنقرأ عليها: ميسرة يا حلوة/ توكلنا على الله/ يا رضا الله ورضا الوالدين/ الكلام صفة المتكلم/ عضة أسد ولا نظرة حسد/ 5 in your eye (خمسة بعيونك)/ كوخ بيضحك ولا قصر بيبكي/ أحلى دوا شم الهوا/ طولة البال زينة الرجال، قد يختصر عمل كهذا كيف عملت الشاحنات على تحييد الحسد، وإضحاك المتفرّج، والتفكّر في الحياة، وتلقّي الحِكم والتعلّم منها، والإيمان بالله وبقدرة رضى الوالدين على إكمال الطريق بنجاح، كلها في لوحة فنية واحدة يرسمها مالك الشاحنة على شاحنته كأنه يعطينا اتجاهًا لحياته ولحياتنا أيضًا. وتترافق هذه العبارات مع أشكال معدنية لأسدين وطائرين وكف اليد وورود وقلوب تزيد من جمالية العمل ومن تفنن السائقين في تمثيل ذاكرة المدن اللبنانية.

    عمل آخر متعدد الألوان والعبارات سنرى فيه عددًا من العبارات المماثلة "محروسة/ يا رضى الله ورضى الوالدين/ الدنيا ملعب والشاطر يلعب/ يموت فيكي/ كلام الناس لا بيقدّم ولا يأخر/ ميلي على ميالك أبو العبد خيالك/ الحمدلله/ لا تسرع يا بابا الماما بتتزوج غيرك/ إبعد عني عيونك عين الحاسد تبلى بالعمى/ راجعة بإذن الله، هذا العمل مشغول برسومات الكف والعين والورد، وبألوان قوية من تدرجات الأزرق والأحمر. على أن عيون الحسد و"عين فاطمة" موجودة في أغلب الأعمال كونها موجودة على خلفية معظم الشاحنات، وتعتبر من الأفكار التي أصبحت جزءًا من الأساطير العربية، كما ترى الفنانة. وفي عمل آخر سنرى لبنان كشجرة تعلوها كلمة بيروت، أما فروعها وأغصانها وأوراقها فهي مناطق من لبنان، وتحيط بها أشكال لطيور وورود وأغصان أخرى تتضمن أمثالًا شعبية أخرى، كأن هذه الأغصان تمثّل طرقات لبنان التي تقطعها الشاحنات حيث تجمع هذه الشاحنات لبنان في شجرة واحدة متحدة.




    وتنتقل الفنانة إلى مستوى آخر من التعبير مأخوذ من واقعنا، من فوضانا ومن حزننا، سنرى على سفينة معدنية تذكّرنا بالسفن الفينيقية عبارتين "أكبر من أن يُبتلع – أصغر من أن يقسّم" وما بينهما "يا غالي" مع العلم اللبناني، فالرغبة بالتقسيم حاضرة لدى الكثير من اللبنانيين، كلام كثير عن الفيدرالية والتقسيم تختصرها الفنانة بهذه العبارة برؤية عميقة للأمور. أيضًا ثمة أعمال صغيرة أخرى تحمل كل منها رسالة من قعر الأسى اللبناني "ما في خبز"، "ما في مياه" "ما في كهرباء" "ما في دولة"، عبارات تتفلّت من كل لبناني موجوع كأن الفنانة تسلمنا إياها كشظايا من أرشيفنا القديم- المتجدد ولكن تجدّده أكثر قسوة من أي زمن سابق.

    يُذكر أن كاتيا طرابلسي أقامت معرضًا في عام 2018 بعنوان "الهويات الأبدية" عرضت فيه 46 نسخة مصنوعة يدويًا من قنابل الحرب الأهلية اللبنانية مزينة بأنماط ملونة وخرز وأشكال منحوتة، وتأخذ كل من هذه القنابل أيقونة مختلفة مرتبطة بالهوية الوطنية، أرادت الفنانة من خلال معرضها هذا تحويل الأشياء العسكرية المدمرة إلى أوعية مزخرفة في تأكيد على أن الثقافة هي التي تبقى في الأوقات المظلمة.

    أعمال كاتيا طرابلسي متجذرة بعمق في الهوية الاجتماعية والثقافية للبنان، وتشتمل غالبًا على عناصر من الثقافة والتقاليد اللبنانية. تهتم طرابلسي بموضوعات الذاكرة والهوية والموضوعات الاجتماعية- السياسية. عُرضت أعمالها دوليًا منذ عام 1986 في عدد من المراكز الفنية الرئيسية حول العالم، بما في ذلك باريس ولندن ودبي والكويت وأميركا الشمالية والمتحف الجزائري للفن الحديث ومعرض الأسلحة الدولي في مدينة نيويورك. كما نشرت طرابلسي كتابًا بعنوان "جيل الحرب" قدمت فيه مجموعة من الأعمال التي تتبع قصص المصورين الصحافيين الذين شهدوا الحرب الأهلية اللبنانية.


يعمل...
X