"مربع الحياة" لخولة طفيلي: حين تكون للّوحات أصوات وحياة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "مربع الحياة" لخولة طفيلي: حين تكون للّوحات أصوات وحياة



    "مربع الحياة" لخولة طفيلي: حين تكون للّوحات أصوات وحياة
    دارين حوماني
    تشكيل
    "رسم شخصي"، أكريليك على قماش، بريشة الفنانة
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    مئة وست لوحات هي عدد لوحات التشكيلية اللبنانية خولة طفيلي في معرضها "مربع الحياة" الذي أقيم لثلاثة أيام فقط في مقر "جمعية الفنانين التشكيليين" في بيروت. إنه عدد كبير لمعرض واحد يجمع مشهديات من الحياة اليومية في لبنان، ولكن معظمها من مدينة الفنانة، بعلبك، في لوحات متوسطة وصغيرة الحجم مشغولة بالزيت على كانفاس أو أكريليك على قماش أو زيت على خشب ومعنونة بالحب لهذه الأمكنة بكل من فيها قبل أي عنوان آخر يدل على الإنسان والمكان والذكريات. أعمالها تمسّ دواخلنا مثل صور إيقاعية مأخوذة من أحاسيسنا تشتبك مع زمن يكاد يختفي وزمن آخر يخيّم بين الشوارع والمفترقات. خولة طفيلي التي لا تكف عن توثيق وطنها بوجوهه المتعددة، كان لها معرض سابق بعنوان "مئة بورتريه" نفذته عن شخصيات محلية وعالمية تنتمي إلى عوالم الأدب والشعر والفن والمسرح والموسيقى، ومعرض "الحجر إن حكى" عن بعلبك في وجهها الأثري- الروماني، إضافة إلى عدد من المعارض الأخرى، وهي اليوم تقودنا معها إلى بعلبك في وجهها الإنساني، وإلى وجه لبنان الضائع والمفقود، بلقطات شاعرية تتزاحم فيها الألوان الضاجة بالحياة وبالبهجة رغم بساطة العيش والحال.

    ترسم خولة طفيلي بلغة حسية، بعاطفتها، وبضربات لونية مأخوذة من عدد من المدارس الفنية، هنا روحية التعبيرية والانطباعية، وما بعد الانطباعية تحديدًا. تصوّر من خلالها كائناتها كأنها تعيرهم للزمن لتقول: هذا توثيق آخر لوطني ولعالمي أنا.
    نسأل خولة طفيلي عن المعرض وحضور اللون وقوته في أعمالها، فتقول: "لا توجد عقبة أمام الفنان ليجد موضوعًا للوحته، أحب أن ألتقط الأشياء العادية، ولكن الأهم كيف أصيغ هذه اللوحة. الأهم عندي هو أن أصيغ لوحة لونية، عندي اللون هو الأهم، والتأليف، أن أشتغل على ألوان متجانسة كأنني أزن ذهبًا وأفكر بكمية اللون الحامي واللون البارد ومساحة الثرثرة اللونية إن صح التعبير لتريح عملي، كأننا نجهز طبخة ونضع المقادير، ولكنها هنا طبخة بصرية لونية. قرأت منذ فترة أنه حين سُئل نجيب محفوظ لما نال جائزة نوبل للآداب "كيف وصلت للعالمية؟"، أجاب: "في الاستغراق بالمحلية"، وهذا شغفي أيضًا وهدفي من هذا المعرض بتصوير الحياة الداخلية والخارجية اليومية، الشعبية المعاشة، الناس البسطاء، الباعة المتجولين، هي حياتي وهي حياة كل مواطن لبناني".
    "من تجليات الرحمة"- "عمال النظافة"- "رجال الدفاع المدني"
    خولة مشغولة بتأريخ كل ما يحيط بها، كل ما يعلق بصدرها، أعمالها هي استجابة للواقع أو "استجابة للنداء غير المسموع للواقع" إذا استعرنا من الكاتب الفرنسي فيليب فوريست كلامه عن النص المكتوب، كأن أشياءها وكائناتها تقول: انتبهوا إليّ. أعمال طفيلي هي أيضًا سرد للآني والحدثي والحياة اليومية، سرد مشحون بعاطفة فنية مثل لقطات فوتوغرافية معدّلة بإحساسها الشخصي وأحاسيس أشيائها وكائناتها. فلأشياء خولة طفيلي أحاسيس أيضًا، تتنقل عيوننا بينها فينتقل إلينا زمنها الدفين الذي اعتلاه الغبار، من الفونوغراف إلى ماكينة الخياطة القديمة، وماكينة اللحمة اليدوية وكاميرا الحجرة المظلمة، والآلة الكاتبة وميزان البائع التراثي بأوزانه الصلبة، والحذاء القديم وغيرها من الأشياء، كأن الفنانة تستنطق حنينهم وتستنطق ذاكرتنا معهم. أما كائناتها فهم رجال الدفاع المدني، والصليب الأحمر، والخياطة، وعازفو الطريق وعامل "فرن المناقيش" و"بسطة كتب أبو علي" وبائع القهوة، وعمال النظافة وبائعو السمك، وهذا غيض من فيض الشخوص التي تتوزع بين اللوحات في تصوير دقيق للمدينة بكل ما فيها، إنها محاكاة الواقع مشحونة بقوة التعبير في لوحات تبهرنا بصريًا وتأليفيًا ولونيًا.

    تجسّد لوحة "رجال الدفاع المدني" حرائق لبنان بتدرجات ألوان النار والماء بين الأحمر والأصفر والبرتقالي إلى الأبيض والأزرق، وفي الخلف نرى سيارة الإسعاف. ثمة رجلان يقفان وسط النار، تلك هي التضحية النادرة في هذا العالم بدون مقابل. يستحق رجال الدفاع المدني في لبنان هذه اللوحة وهم الذين طالبوا لفترة بإعطائهم بعض الحقوق دون جدوى حيث يعدّ عملهم "الانتحاري" وسط النيران تطوعيًا. الحال نفسها لمتطوعي الصليب الأحمر وعملهم الشاق وخصوصًا في فترة وباء كورونا، الألوان التي اختارتها خولة لهذه اللوحة التكريمية بعنوان "من تجليات الرحمة"، هي البياض مع الزهري والبنفسجي الذي يدل على تجدّد الحياة، إننا أمام شخوص يعيدون وصلنا بالحياة حين نقع.
    خولة مشغولة بتأريخ كل ما يحيط بها، كل ما يعلق بصدرها، أعمالها هي استجابة للواقع أو "استجابة للنداء غير المسموع للواقع" إذا استعرنا من الكاتب الفرنسي فيليب فوريست كلامه عن النص المكتوب، كأن أشياءها وكائناتها تقول: انتبهوا إليّ!
    في لوحة "فوتوغرافية" بعنوان "بائع غزل البنات على طريق صيدا" نرى رجلًا مع عربته المحمّلة بأكياس "غزل البنات"، نظرة الرجل تعيد تذكيرنا بأوغست رينوار بتصويره للملامح البشرية الدقيقة، هكذا ترسم خولة طفيلي فيما ينظر إلينا البائع نظرة السكينة والهدوء نفسها التي نراها في ألوان اللوحة المتدرجة بالحياة والضوء بين الزهري والأزرق والأخضر الهادئ والأبيض، هي المؤثرات الضوئية التي تلقي السكينة على روحنا والتي سنجدها في لوحة "بائع القهوة"، الفرح قائم هنا، متجسد في نظرة الشاب البائع رغم استدارته لتجهيز القهوة، بائع سنجده على طريق رأس العين- بعلبك، ثمة بهجة في الصورة رغم بساطة عمله... شخوص خولة قانعون بحياتهم، بمهنهم، لا يريدون أكثر من الفرح البسيط، مستعدون للحياة استعدادًا كاملًا دون حزن، لا خطأ في تقييم الحياة هنا، رضى غير موجود لدى آخرين يملكون كل شيء، الأمر لا ينطبق فحسب على أبطال أعمالها، بل إن الألوان التي اختارتها تعكس الرضى أيضًا، ثمة إشراقات تُدخل الصفاء إلينا، كأننا ننتبه إلى كل هذا الحب الموجود في المدينة، حب جعلتنا الحياة أن ننساه وننسى أننا نشعر به. لكن ثمة انكسارة في لوحة "موزع المياه في الضاحية" عن ذلك العامل المحني الرأس في انعكاس للإرهاق الذي يكتنزه وهو يحمل عبوات مياه الشرب لنقلها إلى البيوت إذ تختار خولة الاحتفاظ بمشاعر كائناتها في أعمالها، بفرحهم وهدوئهم وتعبهم وحزنهم.
    "بسطة كتب أبو علي"- "بائع القهوة"- "بائعو السمك على كورنيش صيدا" - "موزع المياه في الضاحية"
    ثمة مزج مدهش للألوان نراه أيضًا في لوحة أخرى بعنوان "بائع البوظة المتجول"، حيث بائع الآيس كريم في سيارته التي تعدّ تراثًا في لبنان، سيارة ينتظرها الأطفال في المدن اللبنانية وفي القرى بشكل خاص، هو مشهد من يومياتي، من عالمي وطفولتي، تبرزه خولة بتوليفة قوية من الألوان. لوحة أخرى من يومياتي هي لوحة "حول المدفأة" لعائلة من القرى النائية حيث نجد ثلاث نسوة وثلاثة أطفال يجلسن حول "الصوبا"، ولا تنسى طفيلي تفاصيل هذه الجلسات، فقد ركنت ركوة القهوة وإبريق الشاي فوق المدفأة، وليس هذا فحسب بل إننا نكاد نسمع أحاديث هؤلاء النسوة ونداء الطفل لأمه في اللوحة.

    الشغف نفسه موجود في عملَيْ "بائعو السمك على كورنيش صيدا" و"بسطة كتب أبو علي"، من اللوحات التي نشعر بقوة ألوانها وتفصيلاتها الدقيقة أن حوارًا سيدور بيننا وبين شخوصها، كأننا سنهمّ بالقول "هاتِ سمكة" أو "هاتِ كتابًا"، لهذا الحدّ حضور اللوحتين قوي فينا... لوحتان تتكلمان معنا استلّتهما خولة من شوارع صيدا وبعلبك. سنجد بائع السمك في طريقنا أمام بحر صيدا، وسنجد أبو علي على طريق رأس العين- بعلبك. أبو علي ربما مات، هكذا سمعت مرة، لا أدري إن كان قد ورث أحدٌ آخر مكتبته المفروشة على الطريق... ثمة حساسية عاطفية لهذه اللوحات متوالدة من ذاتها، من شخوصها ومن أشيائها إلى ذواتنا مباشرة. ولا تنسى خولة "عازفي الطريق" لثلاثة عازفين من أحد شوارع بيروت، وهي الظاهرة التي تزايدت في السنوات الأخيرة، ظاهرة غربية لكن الموسيقيين الشباب وجدوها الطريقة الأفضل لمحاربة اللاجدوى والفقر الذي خلفته الظروف الاقتصادية القاسية في لبنان. أما "لاعبو النرد" فهي عمل يصوّر ثلاثة رجال يلعبون الطاولة يحاربون اللاجدوى أيضًا لكن على طريقتهم، لوحات مشغولة بضربات ريشة تعيد تذكيرنا بما بعد انطباعية فان غوخ والذي تؤكد الفنانة عند حديثنا معها على تأثرها به، فتقول عن ذلك: "أنا فعلًا متأثرة بعدة مدارس فنية ولكن أسلوبي هو العودة إلى الواقعية بلون تعبيري وبلطخات المدرسة ما بعد الانطباعية وخصوصًا ضربات فان غوخ".
    "الخياطة" - "سلمى تغلي البندورة"- هاتان اللوحتان تذكّرانني بأمي، بنساء سينقرضن قريبًا من هذا العالم
    "سلمى تغلي البندورة" عمل فني يجسّد سلمى التي تعرفها الفنانة ولكن سلمى هنا تجسّد كل امرأة من نسوة القرى اللبنانية اللاتي يعملن كل عام في الصيف بتحضير مونة الشتاء. تحرّك سلمى القِدر الذي يغلي فوق الموقد المعدّ من أشياء الطبيعة فيما تعكف منديلها على رأسها وهي في مكان وسط الأخضر والبني والبرتقالي، الألوان المستخدمة في اللوحة تذكّرنا بروحية المدرسة الوحشية، هي الألوان نفسها في لوحة "الخياطة"، ثمة مزيج يلاحقنا بدقته، يلاحق ذاكرتنا... هاتان اللوحتان تذكّرانني بأمي، بنساء سينقرضن قريبًا من هذا العالم... لوحات خولة طفيلي لها أصوات كأنها تلتقط هذه الأصوات التي ستذهب عميقًا في الزمن، تقرّر لهم فرصة العودة إلى الحياة عبر اللوحة... في لحظة التلاشي هذه يقع الحنين الملتصق بنا... إننا أمام رسومات واقعية مكتملة التفاصيل، من فرط دقتها نغرق بها بشكل كامل، وهذا ما تفعله بنا الرسامة.
    لوحات خولة طفيلي لها أصوات كأنها تلتقط هذه الأصوات التي ستذهب عميقًا في الزمن، تقرّر لهم فرصة العودة إلى الحياة عبر اللوحة... في لحظة التلاشي هذه يقع الحنين الملتصق بنا
    لم تنسَ طفيلي "عمال النظافة"، هنا تكثّف الفنانة ألوانها، ضربات قوية لعمال النظافة بالأزرق الداكن مع جزمات بنية ومستوعبات النفايات الخضراء، مع دقة تشكيلية في استحضار الشعور جنبًا إلى جنبًا مع الحدث البصري. أيضًا عمال فرن المناقيش، يقف عامل أمام لهيب الفرن مستقيمًا يُحرّك "المنقوشة" في الفرن القديم، فيما آخر يحضّر المناقيش بـ "الكشك"، وتختار الفنانة الألوان الداكنة نفسها، وبنفس الضربات اللونية القصيرة. وضعت أيضًا إبريق الشاي على ظهر الفرن، استقامة الرجل تعكس عطاءه الأقصى في العمل، وروح اللوحة تعكس دفئها المكاني والروحي. بهجة أخرى نجدها في لوحة "فرحة القلوب الصغيرة بالسيارة الحمراء" نرى فيها أطفالًا يساعدون طفلًا صغيرًا لإدارة محرّك سيارته الحمراء الصغيرة، إنهم أطفال يخصون الفنانة، تقول "هؤلاء أولاد إخوتي"، لكنهم يصورون فرحنا القديم كله... ثمة انعكاس للألوان بين الأرضية والخلفية البنفسجية، لا قلق في هذه الصورة، فقط بهجة، تعيدنا إلى طفولتنا بفرحها الذي لا مثيل له دون أفكار مقلقة تصاحبنا في حياتنا اللاحقة.
    "حول المدفأة"- "بائع البوظة المتجول" - "فرحة القلوب الصغيرة بالسيارة الحمراء" - "سوق الخضار"
    ثمة لوحات تصويرية أخرى، "المنجّد" الذي يخيط الملاءات والألحفة، "بائع المرطبات نور العيون" وله قصة جميلة مع الفنانة، "بائع الخضار المتجول" الصبي الجالس أمام بسطة الخضار مع سيارته "البيك آب الصغيرة"، "بائع الموز"، والعديد أيضًا من رفاق ذاكرتنا. لم تترك خولة أحدًا إلا وجسّدته في أعمالها، كأنها تقول لهم "أنتم عالمي الذي أحبه جدًا"، الحب نفسه يتسرّب إلينا. حبها لطلابها في الجامعة اللبنانية أيضًا جسّدته في لوحتها بعنوان "رسم نماذج فصل أول الجامعة اللبنانية كلية الفنون الجميلة والعمارة"... ولم تنسَ أن ترسم بورتريه لها وهي ترسم بنفس الأسلوب واللون الذي اعتمدته في لوحاتها... ثمة أشياء أخرى صوّرتها طفيلي بألوان قوية وحارّة منها سوق الخضار والكمان مع دفتر الموسيقى والقرآن مفتوحًا على سورة "محمد" إضافة إلى العديد من اللوحات الصغيرة لأنواع من الفواكه والخضار وأبرزها كوز الرمان بحمرته الداكنة مع خلفية خضراء داكنة... تصوّر طفيلي هذه المفردات بقوة اللون والحضور والدقة كأن كل مفردة منها تكلّمنا عن جمالها.

    "للّوحات حياتها المستقلة التي تنبع من روح الرسام"، يقول فنسنت فان غوخ. هذه الكلمات نراها تمامًا في أعمال رسامتنا. لوحات عاطفية هي لوحات خولة طفيلي الوفية لأمكنتها وناسها، كل لوحة تخص أحدًا تعرفه، أرادت لهم أن يبقوا داخل الصورة وفاء للزمن المشترك بينهم، ولكل لوحة روحها وحياتها الكاملة... اللوحة قد تكون هنا أقوى من الواقع في تنبيهنا إلى أشيائنا الجميلة التي إما صارت جزءًا من تراثنا ومن الماضي أو ستصير، دون أي تبديل في نبرة خولة الموسيقية في لوحاتها التي تتجلّى بالتفاصيل والشطحات الضوئية بين الذات والذات، كالحب الأول، شأنها شأن الحكايات التي تُقرأ آخر الليل من ذاكرتنا الجماعية.

    "عازفو الطريق"- "فرن المناقيش" - "بائع المرطبات نور العيون" - "بائع غزل البنات على طريق صيدا"
    "لاعبو النرد"- "بائع الخضار المتجول" - "المنجد" - "رسم نماذج فصل أول الجامعة اللبنانية كلية الفنون الجميلة والعمارة"
يعمل...
X