الفنّ التشكيلي العربي في زمن الذكاء الاصطناعي (2/2)

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الفنّ التشكيلي العربي في زمن الذكاء الاصطناعي (2/2)

    الفنّ التشكيلي العربي في زمن الذكاء الاصطناعي (2/2)
    أوس يعقوب
    تشكيل
    متحف الفن الحديث في إسطنبول (29/1/2022/Gerry)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط
    هنا الجزء الثاني والأخير من ملف "الفنّ التشكيلي العربي في زمن الذكاء الاصطناعي"، الذي طرحنا فيه الأسئلة التالية: ماذا عن تجاربكم السابقة في استخدام نُظم الذكاء الاصطناعي في إنتاجكم الفنّي الإبداعي؟ وفي حال لم يسبق أن استخدمتم هذه التقنيات ماذا عن إمكانية استخدامكم لها مستقبلًا؟ هل اللوحات التي تنتجها نُظم الذكاء الاصطناعي تُعدّ من منظوركم فنًّا حقيقيًا؟ وهل يُعامل هذا الفنّ مثل الفنّ الحقيقي والواقعي الذي اعتدنا عليه؟ وهل استخدام الذكاء الاصطناعي في الفنّ لا يُلغي الفنّان ولا يقلّل من مكانته؟ وهل يمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي أن تحلّ محلّ وجدان وعبقرية الفنّان، وما يُعرف في فلسفة الفنّ بـ"الانفعال الجمالي"؟
    إلى ذلك، كيف ينظر الفنّانون والفنّانات العرب إلى حال الفنّ ومستقبله في مواجهة زحف الذكاء الاصطناعي صوبه؟ وماذا عن شكل العلاقة المستقبلية بين الفنّ والذكاء الاصطناعي؟ وهل تراه (أي الذكاء الاصطناعي) سيفتح آفاقًا كثيرة وكبيرة أمام الفنّان والفنّ التشكيلي؟
    في الجزء الثاني من هذا الملف تحدثنا مع كلٍ من التشكيليين السوريين خالد تكريتي، وحازم الحموي، وأنس البريحي، ومحمود شيخاني، والعراقي يوسف الناصر، والفلسطينية منال ديب.



    خالد تكريتي:
    روح الإنسان وإبداعه والخلق عناصر العمل الفنّي



    لا، لم أستخدم هذا النوع من الفنّ، ولا أظن بأنني سوف أستخدمه في يوم من الأيّام.
    الفنّ الذي ينتجه الذكاء الاصطناعي يُعَدّ نوعًا من أنواع الفنون التطبيقية، أو التزيينية، التي تزيد على المكان أناقة، ومن الممكن أن تخاطب عقل الإنسان وتدهشه، وهذا شي هامّ وجدير بالاهتمام، ولكن هل في استطاعة هذا النوع من الفنّ أن يخاطب مشاعرنا أيضًا؟ لا أظن ذلك.
    إليك صديقي القارئ هذه الحكاية القصيرة: منذ عدة أيام، كنت أعمل على بناء تكوين لوحة قد بدأت بالعمل عليها منذ فترة، وفي ذلك اليوم كان الجو في المرسم غير مستقرّ، ممّا أثر على حالة الخلق والإبداع، وأدى إلى تشويش طاقتي، ولكنّ قدرتي على السيطرة على هذا الأمر عالية، وذلك لكوني متمرّسًا في عالم الفنّ والتقنية والرسم، فكانت النتيجة مقبولة، وتابعت العمل في الأيّام التالية. ولكن اليوم، وبعد أن استقرت طاقتي الإيجابية، وعادت مؤهلة للخلق، وجدت بأنّ ما قمت به في اليوم المشوش كان عبارة عن عمل آلي وتقني، ويخلو من كلّ عاطفة، وبالتالي مهما تطوّر العلم والتكنولوجيا يبقى الإنسان أجمل من العقل، حسب الفنّان فاتح المدرس.
    إنّ فنّ الإنستاليشن، والفنون البصريّة، والفنون التي ظهرت في النصف الثاني من القرن الماضي، لاقت رواجًا كبيرًا لكونها جديدة، ولكن فنّ "السيبه الخشبية" كان وما زال هو الأهمّ والأقوى.
    في آخر زيارة لي لمعرض (آرت فير باريس +) في العام المنصرم، كانت نسبة الأعمال التصويرية الزيتية، أو غيرها، بحدود 90 /100، على عكس السنين الماضية، وهذا دليل على العودة دومًا إلى هذا الفنّ، حيث روح الإنسان وإبداعه والخلق هم عناصر العمل الفنّي.
    حقيقة، لا أخاف عل مستقبل الفنّان، أو عمله، لأنه مهما تطوّر العلم والتكنولوجيا سوف يبقى العقل البشري يبهرنا.



    حازم الحموي:
    فنّ الذكاء الاصطناعي ليس فنَّا حقيقيًا




    كلا، لم أعمل حتّى الآن مع أنظمة الذكاء الاصطناعي، وليس لديّ مشكلة في تجريبها، أو العمل معها، فرغم سرعة التحرك في هذا المضمار أراه ضمن سياقه السابق، وسيظلّ أداة منبثقة من الإنسان. ولكن، في تقديري، ما يحصل هو فهم أعمق لدى الإنسان لعنصر الخيال لديه، وربّما يكون هذا هو جوهر الاتّجاه الذي يوجه حركة هذا التيار المتزايد، وهو يختصر بسؤال: هل يمكن للآلة أن تقلد عنصر الخيال عند الإنسان؟ الجواب نعم. ولكن ستفعل ذلك كآلة.

    "الآلة تلتقطُ أسلوب الرسم وتقنيته لكنّها غير قادرة على امتلاك الصفة الحركية لمشروع أي فنّان"

    السؤال الذي تطرحونه يعكس في رأيي إحدى أصعب المعضلات في فهم روح العصر الحالي، ويطرح من جديد علاقة الإنسان بالآلة؛ تلك العلاقة التي كانت مصدرًا لتيارات فكرية وسياسية وفنّيّة، وهي تستمرّ الآن، وهذا يتطلّب منّا فهم وتفكيك تلك العلاقة وفهم الجانب (الآلي) لدى الإنسان، والذي منه تدخل الآلة لتتماهى وتقلد الإنسان، فالآلة هنا ستلتقط أسلوب الرسم وتقنيته، لكنّها غير قادرة على امتلاك الصفة الحركية لمشروع أي فنّان. لا يمكن لها أن تتنبأ (ولا حتّى الفنّان نفسه يمكنه ذلك) بالمرحلة التالية التي سيتصف بها مشروع فنّانة، أو فنّان، فقد يكون في مزاج لوني وتشكيلي معين، ويحدث أمر معين، من فقدان، أو هجرة، أو مرض، يأخذه إلى مزاج لوني وتشكيلي مختلف تمامًا. هل يحصل ذلك مع أي من تلك البرامج؟ كلا لن يحصل! الفنان يدهشك باحتماليات لا نهاية لها، بمزج ما أنتجه الإنسان أصلًا. كأن تتخيل فنّانًا هو مزيج بين بيكاسو وفان غوخ، أو تحلّل أسلوب فنّان معين وتصنع مئات النماذج المشابهة، لكنّها لم تفعل ذلك من دون أن تغذيها بما أنتج. كما أنها لن تقوى على تخمين الحركية في مشروعه الفنّي، وما هو التالي... إذًا، أرى الموضوع أنه تحدٍّ جديد يواجه الفنّ، ويمكن أن يحجم أهمّيّة جوانب معينة (ًآلية الماهية) لدى الفنّان. وبالتالي تزداد أهمّيّة ما هو إبداعي بالفعل (غير آلي وغير متوقّع). وهذا يتناغم مع طبيعة الخيال نفسه، فهو غير متوقّع، وغير متناه، ويسبب الدهشة لصانعه أوّلًا. أمّا ما ينتجه الذكاء الاصطناعي فهو تقليد للخيال، وليس منتجًا له.
    من ناحية ثانية، شخصيًا لا أرى إنتاج فنّ الذكاء الاصطناعي فنَّا حقيقيًا، بل هو تجسيد لتنامي النزعة الاستهلاكية، حتّى للجمال والإبداع، فتطبيقات التواصل الاجتماعي تحوّلت إلى أتونات نهمة مفتوحة الأفواه، وتتطلّب التغذية في كلّ وقت، وإن لم تفعل فستعاقبك بأن تكون منسيًا وغائبًا، وبلا تأثير، أو أثر، وهذا طبعًا مرتبط بتغيّرات تطرأ على سيكولوجيا التلقّي، بحيث يتشكّل مع الوقت متلقٍّ قصير الذاكرة وملول. طبعًا، لا يمكن التعميم، ولكنْ سيكون هنالك ضغط في هذا الاتّجاه، فما ينتجه الذكاء الاصطناعي شديد القسوة على الجانب (الآلي والمبرمج) لدى الفنّان. أمّا الجانب المتحرّك والمشحون بالبحث المعمّق والتجريب المجتهد فهو عصي تمامًا على المس به. غير أنه يجب الانتباه إلى أنّ هذا التجاوز والإبداع الذي يحقّقه الفنّان سوف يكون مادة خامًا جديدة للذكاء الاصطناعي، لفهمه وتحليله وتقليده، وخلق احتماليات كثيرة مستوحاة منه، فتلك المتوالية لن تنتهي.
    ثمّة نقاط أخرى تجعل هذه المنتجات لا ترقى إلى أن تكون فنًّا، وسأتوقف عند نقطتين أساسيتين؛ الأولى هي الذاتية، التي ترتبط بصانعها بشكل مباشر، والقيمة تأتي من هنا تحديدًا، مثلًا "سكيتش" سريع يرسمه فنّان أصيل موقع باسمه أهمّ وأثمن من أجود برامج الذكاء الاصطناعي التي قد تجعل ملامحك أجمل، وتوحي بأنّ من رسمك هو رامبرانت، أو فان غوخ، أو غوغان، لأنّ في هذا الرسم عنصر الذاتية، التي تتعارض مع ما تنتجه الآلة، فالأولى يظهر فيها إحساس ومزاج الفنّان، والثانية لا تخطئ ولا يتغيّر مزاجها. الأولى محدودة العدد، وفيها جزء حقيقي من حياة الفنّان سُخر لإنجاز هذا العمل، والثانية لا محدودة العدد، وتحتاج لكهرباء، ولمعالجات قوية، وكروت شاشة متقدّمة.
    النقطة الثانية، هي علاقة الفنّ بالموقف الجمالي والأخلاقي، فقصة حياة الفنّان هي المصدر الأهمّ لقيمة أعماله، سيما أنّ الوعي الجمعي متغيّر ومتحرّك. الفنّ قبل أن يكون مُنتجًا هو موقف وجودي وجمالي وأخلاقي، ومن دون ذلك سيغدو أمرًا تقنيًا وحسب.
    ما نشهده اليوم هو في أعماقه أنياب جديدة للرأسمالية، وكيف ترى الحياة كلّها كأشياء لها ثمن وسعر، وكيف تحوّل الإنسان إلى أداة للاستهلاك لا غير. وهذا في حدِّ ذاته تمهيد لنرى الذكاء الاصطناعي بعد فترة ليست بالبعيدة يقود حياتنا، ويحدّد نسبة الموهبة والذكاء، ويفرز الناس، ويعلم الأطفال، ويخبرنا ماذا نأكل، وماذا نشرب، وماذا نقرأ، أو نشاهد.
    بكلّ تأكيد، الذكاء الاصطناعي لا يلغي، ولن يؤثّر، على الفنّان الحقيقي... إن كنت فنّانًا جامدًا بلا بحث، أو اجتهاد، أو حالة حركية وتنقيب في عوالمك وتقنياتك وذاتيتك، فالذكاء الاصطناعي سيكشف محدوديتك، أو كسلك، وستنال منك تلك الموجة، لا بل ستتفوق عليك! أمّا ذلك الجانب الإبداعي المتحرّك فهو بعيد كلّ البعد عن إمكانيات الذكاء الاصطناعي الذي يعتمد على تحليل ما هو موجود أصلًا، واستنساخ عدد غير منته من مثيلاته وتشعباته، وربطه بأساليب أخرى، فهو يواكب النزعة الاستهلاكية لا غير، وألعاب الرأسمالية بتشعباتها.
    في تقديري، من الممكن أن يوظف الفنّان قدرات الذكاء الاصطناعي ضمن عمله، فيكون أحد المراحل من سياق إنتاج هذا العمل، أي بلغة أخرى أنا مؤمن بأنّ الإنسان والآلة من الجيد أن يعملا معًا، وهذا قد يعطي نتائج مهمّة تختصر على الفنّان إنجاز ما هو (آلي) ليضع جهده ووقته فيما هو إبداعي، وهذا الاتّجاه سيفتح أبوابًا جديدة مدهشة وتطويرًا لا متناهٍ.
    على الصعيد الشخصي، سأقدّم في قادم الأيّام إن قدّرت لي الحياة نتائج بحثي في هذا المضمار على الصعيدين التشكيلي والسينمائي. أمّا الاكتفاء بما يقوم بإنجازه الذكاء الاصطناعي من دون أن يكون جزءًا من سياق إبداعي يعكس رؤية الفنّان، فذاك يستند على نوع من الاستسهال، ولا يقدّم في تقديري أية قيمة مضافة حقيقية للفنّ.
    أرى أنّ مستقبل الفنّ أرحب بكثير من ما يقدّمه الذكاء الاصطناعي، وخيال الإنسان أرحب بكثير، والفنّ لا ينسلخ عن الموقف الجمالي والأخلاقي من الوجود؛ ما يقدّم لا يعدو أن يكون صدمة حقيقية للنساخين والخاملين والكسالى قد يحبطهم وقد يحفزهم على التنقيب في ذواتهم وخيالهم وتقنياتهم ليقدّموا ما هو أهمّ وأكثر صدقًا وأصالة.



    أنس البريحي:
    الفنّ حالة حسّيّة أساسها الخيال


    بداية أذكر أنه ليسَ لديّ تجربة سابقة في استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في مرسمي. وأرى أنّ نتاج هذه التقنيات الحديثة ليس فنًّا حقيقًيا، إنما هو شكل من أشكال الحداثة يمكننا التعامل معه كفنّ من منظور إلكتروني، وليس مقارنته بأي نوع من أنواع الفنون التي تضع جسدك وروحك فيها من دون مساعدة أي وسيط برمجي كالحاسوب. وهو ما يعني أن لا يعامل إنتاج الفنّان الإبداعي في نفس المعاملة، ومن الخطأ الخلط بين الأمرين.

    "الفنّان الحقيقي لا يستطيع التخلّي عن حسه الجسدي والروحي في محاكاة الواقع من خلال مشاعره"

    كما أرى أنّ الفنّان الحقيقي لا يستطيع التخلّي عن حسه الجسدي والروحي في محاكاة الواقع من خلال مشاعره، مستبدلًا ذلك بوسيط برمجي (هل يستطيع الذكاء الاصطناعي إبداع مشاعر إنسانية معقدة؟)، وهنا أتحدّث عن اللوحات المرسومة، لأنه مثلًا من السهل عليك مزج الألوان إلكترونيًا، واستخراج الدرجة التي تريدها، وفي هذا استسهال كبير لفنّ خالٍ من الروح.
    لماذا لا نستخدم الذكاء الاصطناعي في خدمة البيئة مثلًا؟ لماذا هذه الشركات تصوب أسهمها نحو الفنّ؟ في رأيي، لأنّ هذا طبيعي في زمن يستسهل إنتاج الفنّ، ويحوّله إلى سلعة مادية تحقّق المكاسب، ولا تحقّق الرسائل النبيلة. وبالتأكيد، لا يمكن أن تحلّ مكان الانفعال الجمالي، فهي شيء مختلف تمامًا.
    أرى أننا نخطئ حين نقارن بينهما، فالفنّ يبقى فنًّا، والفنّان الحقيقي لا يستطيع إلّا أن يكون حقيقيًا مع اختلاف الأزمان، ما يحدث الآن هو فقط انعكاس للزمن السريع والمستهلك الذي نعيشه، وهجمة الذكاء الاصطناعي هي هجمة على الفنّ الركيك، هنا لا أهاجم الفنّ الاصطناعي، ولكن أرفض مقارنته بالفنّ الأصيل، فهو شيء مختلف.
    الفنّ اليوم يعاني من مشكلة بغض النظر عن الفنّ الاصطناعي، وأتى الفنّ الاصطناعي ليعمق الأزمة، ويفرغ الفنون التشكيليّة من محتواها العميق، ويجرّد معظم الفنّانين من إصرارهم على فهم اللوحة والتقنية.
    لا، لا يمكن أن يفتح الذكاء الاصطناعي آفاقًا فنّيّة أمام الفنّان والفنّ التشكيلي. ربّما يفتح آفاقًا اقتصادية، أو إبداعية، أو حالة من حالات الفنّ المعاصر، ولكن علينا عدم المقارنة، كما قلت سابقًا. هو شيء جديد مختلف لا أستطيع أن أسميه فنًّا، ربّما تقنيات جديدة للتعبير عن شيء ما، فالفنّ حالة حسّيّة أساسها اليدان والروح والخيال، إن كان رسمًا، أو موسيقى، وأساسه الجسد إن كان مسرحًا، أو رقصًا، أمّا الحاسوب فيبقى حاسوبًا، ووسيلة لا تشعر كما نشعر.
    الإنسان أبدعَ عندما صنع الحاسوب، ولا يستطيع أن يبدع الحاسوب في رسم لوحة من دون الإنسان، فالحاسوب، أو الروبوت، يتلقّى المعلومات ولا يستطيع أبدًا الخلق، فهو فقط يتلقّى المعلومات ويبرمجها من دون خطأ، وهنا تكمن المشكلة في كثير من الأحيان، فالجميل في اللوحة هو أنها غير مثالية، وتسعى إلى الكمال، الذي قد تصلهُ، أو لا تصله. لكن في هذه الرحلة تكون حالة تفاعلية خلّاقة بين الفنّان ولوحته. أمّا الذكاء الاصطناعي فيَعمل ما يطلب منه على أكمل وجه، فهو كما اسمه "ذكاء صناعي". وإن الأمر عائد إلى نوع المنتج الاصطناعي وغايته، وإذا كان يعتمد في طبيعته على الخوارزميات أو لا، فمثلًا الحالة الإبداعية للرسام من الصعب توقّعها، أو معرفة ما يمكن فعله للوحة، هو في ذاته لا يستطيع أن يتوقّع نفسه.
    في هذه الحالة فقط، ربّما تسقط الأحكام، وقد نرى شيئًا جديدًا. بالتأكيد، لا يمكنني أن أسميه فنًّا بشريًا حسيًا، ولا أتفاعل مع لوحة، أو منحوتة مصنوعة إلكترونيًا، أو بنُظم الذكاء الاصطناعي.



    محمود شيخاني:
    لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يأخذ مكان الفنّان



    بداية معرفتي لما أصبح يُسمّى حاليًا الذكاء الاصطناعي كانت في عام 1998، عند حصولي على جهاز كمبيوتر، واستكشافه، باستعمال برامج الرسم، كالفوتوشوب، وغيره، حيث كان إدخال صور لوحاتي الزيتية إلى الكمبيوتر بواسطة الجهاز العجيب (السكانر) شيئًا جديدًا ومثيرًا في ذلك الوقت. صرت أجري التجارب على لوحاتي بعد إدخالها إلى الكمبيوتر في هذه البرامج، واستكشاف ورؤية الخطوط والألوان على الشاشة، واللعب بها وتغييرها بكلّ ما يخطر على بالي، من خلال خبرتي في الرسم واللون والتكوين، وكانت النتائج لوحات أغلبها تجريدي، قمت بطباعتها، وعرضها، مع إضافة بعض الألوان أحيانًا، تلك التي لم تظهر جيدًا في الطباعة. كان ذلك منذ حوالي ربع قرن في معرض لتلك النتائج في عام 2001. وبعد قدومي إلى ألمانيا، ورؤية الفنون الحديثة بتنوّعها (جدّية أو عبثية) صرت أستعملها لتوفير الوقت وتجريب الاحتمالات بالديجيتال قبل وأثناء التنفيذ بالألوان الزيتية، فإنتاجي كلّه لوحات زيتية، أحيانًا يخطر لي تنفيذ أعمال بالديجيتال يمكن طباعتها ضمن التقاليد المعروفة، كتوقيع النسخة، وترقيمها. أمّا بالنسبة للوحات التي نسمع عنها ونشاهدها، والمنفذة بالذكاء الاصطناعي كلّيًا، فأظنها لا تقنع سوى قليلي الخبرة والثقافة، فهي من دون إحساس الفنّان، وأحيانًا شطحاته البسيطة المقصودة، أو غير المقصودة، وهذا ما يعطي التواصل والانجذاب الإنساني، لذلك، في رأيي، لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يأخذ مكان الفنّان، إنما يمكن أن يساعده، ويفتح آفاقًا أمامه، إذا كان هذا الإنسان (الفنّان) مثقفًا وخبيرًا وواعيًا لإنسانيته، وليس عابثًا مثل كثير ممّا ينشر عن الفنون في وسائل الميديا.
    وأظن العلاقة بين الفنّ والذكاء الاصطناعي تابعة للإنسان الذي يبرمج ويستعمل هذا الذكاء. مثل العلم، الذي يمكن تسخيره سلبيًا (باختراع الأسلحة الفتاكة، ومراقبة الإنسان، وعدم احترام خصوصيته)، أو إيجابيًا كما في مجال الطب، ومعالجة الأمراض، وعلوم الفلك، واكتشاف الفضاء، وتوسيع أفق التفكير الإنساني.



    يوسف الناصر:
    ما أرسمه هو نتاج كياني الخاصّ




    ليست لديّ تجربة سابقة في استخدام أي من نُظم الذكاء الاصطناعي في عملي الفنّي، وأميل إلى الظن أنني إن فعلت ذلك مستقبلًا فسيكون الأمر في حدود التجريب والدراسة، وليس لاستبدال أدوات عملي الحالية، ذلك إذا اعتبرنا أنّ الذكاء الاصطناعي ليس أداة مثله مثل الأنظمة البسيطة التي نستعملها الآن في تعديل الصور وتصميم المطبوعات.
    أمّا إجاباتي عن باقي الأسئلة فسأجملها بإجابة واحدة أرجو أن تكون وافية، ولو بحدود متواضعة، نظرًا لضيق المساحة المتاحة والوقت.
    كم تبدو أسئلة هذا الملف مختصرة وبسيطة، لكنّها في الحقيقة بؤرة لتوليد سلسلة أخرى من الأسئلة، لا تترك بابًا أو شأنًا حياتيًا وفكريًا إلاّ وتعرّضت له، وستتطلّب الإجابة عليها ـ وهذا ما أظنه ـ بحوثًا طويلة، عميقة ومتشعبة.
    ظننت دائمًا أنّ ما أرسمه هو نتاج كياني الخاصّ، عقلي وعواطفي وتجاربي وثقافتي، وحتّى طاقتي الجسدية، كذات بشرية عاقلة ومتفاعلة مع المحيط، ولديها غاية من الرسم وحاجة روحية، وربّما غريزة تُحتّم عليها محاولة الإبداع كجزء من تشبّثها بالوجود والرغبة في الخلق لتقليد الخالق، ولتحدّي الفناء وتأكيد الذات.
    وإنّ ما أسميه فنًّا إنما هو مجموعة متنوّعة من الأنشطة البشرية التي تطلع من موهبة إبداعية وقوة عاطفية وفكرية لإيصال "رسالة" الفنّان من طريق كفاءته التقنية وإتقانه لأدوات عمله.
    سؤالي لنفسي الآن، وأنا أفكر في موضوع الذكاء الاصطناعي، إن كان ما ذكرته سابقًا سيظلّ صالحًا كنقطة لإدارة حوار معقول، أم سنكون في حاجة إلى فهم وتعريف جديدين؟
    "المتشائمون" من مستقبل الحياة عمومًا، وليس الفنّ فقط، مع وجود الذكاء الاصطناعي، سيتمترسون خلف صخرة العواطف والمشاعر والحاجة، التي ذكرتها قبل قليل، والتي سيصعب توليدها في حامل الذكاء الاصطناعي، يعني الروبوت، أو الآلة، ويصعب أكثر جعلها دافعًا للإبداع عندها. لكن ماذا لو تمكّن الإنسان من إكساب الروبوت تلك الطاقة الإنسانية؟ هل سيتقبل الإنسان تلك المشاركة، وأن يتخلّى عن الاستثناء الذي منحته إياه الطبيعة كمنتج وحيد للفنّ؟
    النقطة الحاسمة في رأيي هي إن كان الإنسان قادرًا على إيصال الآلة إلى ذلك المستوى، حيث تديم نفسها، وتنتج خططها وبرامجها، وبالتالي عواطفها وحاجاتها، مع كلّ الكم الهائل من الأسئلة التي ستتبع ذلك، من مثل نوع تلك العواطف، وهل ستشبه ما نعرفه، وهل سيكتسب الجهاز كلّ ما يحتاجه لكي يصير "إنسانًا" جديدًا. ما يهمنا، هنا، هو نوع الفنّ الذي سينتجه الذكاء الاصطناعي، وهل سيكون بدافع الحاجة والغريزة والرغبة في التواصل مع المحيط، وكيف سيستقبله المتلقّي الذي يعرف أنه ليس من إنتاج الإنسان؟
    بعض دارسي الفنّ والفنّانين يؤمنون بشيئية الفنّ، أي أنّ العمل الفنّي هو ما نراه ونحسه ونسمعه أمامنا الآن، وهو لا شيء خارج ما هو ظاهر وموجود فيه، أي أننا نرى اللوحة أمامنا، مثلًا، وهي كلّ ما هو موجود، لا شيء غير شيئيتها وآنيتها، ولا تفيدنا في شيء معرفة حياة وظروف الفنّان الذي رسمها، أي أنّ علاقتنا باللوحة لا تتغيّر إن كان صانعها فنّانًا معروفًا أو مجهولًا، أو إذا كان جهازًا صنعه الإنسان. فهل سيكون هؤلاء أيسر حالًا في مواجهة سؤال الفنّ والذكاء الاصطناعي؟
    أرى أنّ هذا السؤال سيكون نافلًا أمام السؤال الأكبر عن مجرى الحياة ككلّ مع وجود الذكاء الاصطناعي، عندها ستكون تصوّراتنا عن الفنّ، شكله وطبيعته وعلاقتنا به، ممكنة، ولو بحدود.
    أحيانًا، أفكر بصورة تهكمية غير متفائلة، وأسأل نفسي إن كان حامل الذكاء الاصطناعي "الإنسان الجديد" سيسمح لنا أصلًا بمزاحمته في إنتاج الفنّ الذي خصّته به وحده، من دون بقية الكائنات، الطبيعة الجديدة التي صنعها هو.



    منال ديب:
    الذكاء الاصطناعي يأخذ بأيدينا نحو التطوّر



    "استخدام الذكاء الاصطناعي في الفنّ لا يلغي الفنّان، ولا يقلّل من مكانته، بل على العكس يعطي أسلوبه الفنّي بعدًا آخر مبتكرًا ومميّزًا"


    نعم، في بداية دراستي الفنّ كان لديّ ولع بالتصوير الفوتوغرافي، بخاصّة الأبيض والأسود. أحببت أن أدمج ما بين الصور والألوان عن طريق الديجيتال من خلال برامج الحاسوب، بطريقة حديثة تجعلني أرى ما في اللاوعي لدي. ومع الوقت، أصبحت الأعمال التي اُنجزها على الحاسوب بمثابة تمارين وحافز لإنجاز أعمال حقيقية بألوان الأكريليك على القماش. كلّ طريقة منها لها متعة خاصّة تغذي الذائقة الفنّيّة لدي. تمامًا كما أن القراءة في كتب الفلسفة والتصوف تحفز ذاكرتي لتعطيني خيالًا غنيًا بالصور وهكذا.
    أمّا عن اللوحات التي تنتجها نُظم الذكاء الاصطناعي فهيبالتأكيد تُعدّ فنًّا حقيقيًا، مثلها مثل الفنّ الكلاسيكي على القماش، والذكاء الاصطناعي فنّ جديد ومبتكر، والتجديد والتطوير مهمّان جدًا للفنّان، وغيره على السواء، الذكاء الاصطناعي يأخذ بأيدينا نحو التطوّر والتغيير والانفتاح على "فنّ جديد" لم نعهده من قبل، ولكن علينا ان نبقى على دراية بين القبيح والجميل، والقيم والرديء.
    وفي الوقت الذي اختلف فيه مفهوم الفنّ، وأصبحنا في مرحلة الفنّ المحيط بنا من كلّ جانب، المطالعة وزيارة المتاحف والاطّلاع على كلّ ما هو جديد في الفنّ ينمي لدينا الذوق ويغذي الروح. للأسف، ما يزال البعض مؤمنًا بأنّ اللوحة المعلّقة على الجدار هي فقط التي تُعدّ فنًّا حقيقيًا.
    وفي رأيي، استخدام الذكاء الاصطناعي في الفنّ لا يلغي الفنّان، ولا يقلّل من مكانته، بل على العكس يعطي أسلوبه الفنّي بعدًا آخر مبتكرًا ومميّزًا. والأمر لا يتعلّق بقدرة الآلة على تجاوز قدرات الفنّان البشري، أو حتّى محاكاتها لإبداعه. ومجرد أن تكون الآلات قادرة على إنتاج الفنّ، فهذا لا يعني واقعيًا أنها ستحلّ محلّ الفنّانين، بل ستكون للفنّانين أداة إبداعية إضافية تحت تصرفهم، أداة يمكنهم التعامل والتعاون معها في دفع حدود الإنتاج الفنّي والخيال إلى أقصى حالاته.
    الفنّ المشغول بالذكاء الاصطناعي لن يلغي الفنّ الكلاسيكي، ولن يحلّ محلّه. لكلّ منهم أسلوب قائم بذاته، فتعلُّم الفنّ لا ينتهي. وهكذا، ستكون الحال مع الذكاء الاصطناعي، الذي سيفتح آفاقًا كثيرة وكبيرة أمام الفنّ والفنّانين لعوالم جديدة من الإبداع. والأمر لا يعني الفنّان فقط، بل يعني العالم برمّته، وهذا ما يدعونا إلى أن نتغيّر من الداخل، ونُغيّر من مفاهيمنا، ومن طريقة تفكيرنا وتلقّينا للجَمَال والفنّ. فاختلاف الأذواق مثلًا حول لوحة فنّية، أو قطعة موسيقية، سواء بسواء. إعجابنا بالفنّون إن كانت كلاسيكية، أو من نتاج الذكاء الاصطناعي، يعتمد على تربيتنا ونشأتنا في ظروف اجتماعية وثقافية مختلفة، وكذلك علاقة العمل الفنّي بالواقع؛ هل يحاكيه، أو ينفيه؟ يكفي أن نتساءل أمام لوحة فنّيّة ما، حول جمال رسمها، أو حول جمال موضوعها.
يعمل...
X