كائنات إبراهيم بولمينات المنكوبة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • كائنات إبراهيم بولمينات المنكوبة

    كائنات إبراهيم بولمينات المنكوبة

    تشكيل
    جعل بولمينات أعماله دائمًا تُختبر فنيًا داخل أطوارٍ مُتعدّدة
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    يظلّ التشكيلي المغربي إبراهيم بولمينات في طليعة التشكيليين المغاربة داخل الجيل الجديد، ممن عملوا منذ سنوات على تجديد أعمالهم الفنية وتكثيفها وعلى جعلها تدخل في سياقٍ عربيّ، مُتماهية بشكلٍ كليّ مع مُختلف التمظهرات السياسية والاجتماعية والثقافية التي طاولت المنطقة العربيّة منذ الربيع العربيّ إلى حدود اليوم، خاصّة أنّ معرضه الفني الفردي الأخير المُقام في مقدونيا تخلّلته كثير من المسارات، على مستوى المُعالجة الفنية والبناء الجمالي والزخم اللوني، الذي يوحي بكثير من التجديد على مستوى المادة واللون وقُدرة الفنّان على الاستناد على التاريخ كأرضية فكرية أولية تُمكّنه من تجاوز العتبات الظاهرة للواقع العربيّ، صوب التفكير فنيًا في بنية المجتمع العربيّ المعاصر، ومدى قدرة البلاهة على التحكم في هذا الواقع المرير، الذي يكاد بولمينات يستحضره في جميع لوحاته الفنية المعروضة داخل المعرض.
    وبالرغم من فتنة الحضور وبهجة التجلي، التي تنطبع عليها أعمال المعرض على مستوى الإيقاع الداخلي للوحة، والكتل اللونية، إلاّ أنّها، من جهة أخرى، تظّل بمثابة سيمولاكر عن النسخة الأصل (الفنّان)، لكنْ تفضحها من حينٍ لآخر بعض الأعمال ذات الطابع التراجيدي باللون الأسود، التي تُمثّل حقيقة كائنات بولمينات المأزومة والمنكوبة سياسيًا واجتماعيًا، فهو يلجأ إلى طريقة في التصوير الفني أقرب إلى نسج بورتريه فني مُتحرّر من جموده وأيقونيته، عبر فتنة اللون، وتموّج الأطراف على جسد اللوحة؛ إنها طريقة ناجعة من بولمينات في الثورة على مفهوم "البورتريه" الفردي، من خلال تكسير خطيّته وأناقته، وجعل ملامحه تتسم بالغموض، فهي أشبه بمرآة مُنكسرة ومُتشظية تعكس مآزق واقع مُتعدّد. ففي كل لوحة من المعرض، تبرز قضية سياسية، أو اجتماعية، يُفكّر فيها بولمينات جماليًا، مُحاولًا وضعها داخل سياقٍ، أو فكرةٍ بعينها، والقبض على هسيسها الفني، وبريقها الفكري، وما تحبل به من أسرار. لكن وهو يشرّح واقعه داخل معرضه الأخير لا ينطلق من الواقع مُباشرة، بل يجعل من الذاكرة الأداة التي تُدين هذا الواقع، ما يجعل أعماله دائمًا تُختبر فنيًا داخل أطوارٍ مُتعدّدة، قبل أنْ يكتمل جنين/اللوحة هذا الواقع، التي تظّل مع ذلك مفتوحة على مُختلف تفسيراتٍ وتأويلاتٍ لا تنتهي عند حقيقة ما دأب الناس على مُشاهدته داخل معارضه التشكيلية.

    "تتخذ بنية العمل الفني لدى بولمينات طابعًا جماعيًا، ففيه لا نرى جُرحَ الفرد، بقدر ما نعثر على مآسي مُجتمعٍ بأكمله"




    لكن من ناحية أخرى، تتخذ بنية العمل الفني لدى بولمينات طابعًا جماعيًا، ففيه لا نرى جُرحَ الفرد، بقدر ما نعثر على مآسي مُجتمعٍ بأكمله، من خلال استحضار أحداثٍ واقعية وسياقات تاريخية، مُقتطفة من جرائدٍ ومجلاتٍ قديمة، مُحاولًا تقطيعها وتلصيقها على جسد اللوحة عبر تقنية الكولاج، لكنها لا تُمثّل انزلاقًا للواقع السياسي داخل اللوحة، أو مُحاولة توريطٍ للواقع داخل عملٍ فني، وإنّما يهدف إلى جعل الماضي يُدين فداحة ألم حاضرٍ لا ينقضي، لتغدو اللوحة وطنًا جديدًا، ووثيقة تاريخية، وشهادة حقيقية عن مصير الإنسان داخل وطنه، رغم أوجاعه وويلاته.



    لعل عزلة وإقامة إبراهيم بولمينات في بلجيكا، منذ بداية تسعينيات القرن المنصرم، بعد مُغادرته وحيدًا المغرب وهو لا يزال في زهرة العمر، كان لها أثر جَريح في تجربته، ففي مُختلف أعماله تُطاردك أشباح طفولة، ومصير مُتقلّب يطبع كائناته المُشوّهة جسدًا، فهو يكتفي بوجوهٍ ليست كالوجوه، وأشباحٍ ليست كالأشباح، بل هي بقايا إنسان شبه ميّتٍ وقد هدّه الألم والبرد والجوع والغضب. أعماله تُصوّرنا جميعًا من الداخل، لحظة الغضب والبؤس والتشظي، التي تطبع حياتنا داخل الواقع الذي ننتمي إليه فيزيقيًا، فهو يروم إلى تصوير حال السياسة والاجتماع، انطلاقًا مما يتركه ذلك من ألمٍ وغُبنٍ في نفوس الأفراد، لذلك لا تلبث كائناته أنْ تدخل دائمًا في حالة هُيامٍ وتوّحد، فهي تبدو سادرة في أفق اللوحة، لكنْ في مرمى عين المُشاهد، وتستفزه من حيث لا يدري، ولكنّها تُعطي انطباعًا حزينًا لكلّ من يراها لأول مرة، تجعله يتساءل عن حقيقة هذه الكائنات البائسة، والوجوه القبيحة والمُتلاشية داخل جسد العمل الفنّي. وداخل هذه الجمالية القبيحة والمُرعبة، تتصاعد لطخة لونٍ تُكسر من حدّة الظلال وترسباتها في ذاتية الفنّان، عبر ألق ضوءٍ وفتنة لونٍ أشبه بأمل غدٍ مُبهمٍ، لكن سرعان ما تسرح العين داخل فضاء اللوحة، وتُكمل دورتها على جنباتها، وتعود الألوان السوداء والداكنة في اكتساح بصيص الأمل المُتبقي.
    من أين يستمد إبراهيم بولمينات ملامح كائناته المنكوبة، وهو يعيش في بلدٍ أشبه بجنة على الأرض؟
    يؤكد بولمينات في أعماله التشكيليّة أنّ الذاكرة أشبه بجحيم داخل جسد المرء، فهي تُحرّره من واقعية حاضره، لكنّها ترمي به إلى تخوم ودهاليزٍ ماضٍ يكاد لا ينجلي داخل حاضر بولمينات، إنّ كائناته تُطارده من حيث لا يدري، إنها عصية على النسيان والقتل، لذلك فهي تأتيه على شكل كوابيس جمالية لا تقوى إلاّ لوحاته المسندية على احتواء بعضٍ من جُرحها، أو على الأقل تجميلها، بطريقة يُخفي معها حقيقته الأنطولوجية المُفزعة عن مصير الإنسان داخل فُسحة وجودنا. لكنّها، من جهة أخرى، تُذكرنا بمأساوية الحروب والنزاع واللجوء والقهر، التي حملها بولمينات في جسده وهو طفل يشق عباب البحر الأبيض المُتوسط زمن مغرب التسعينيات بحثًا عن غدٍ أفضل.





    وعلى الرغم من إبدالاتٍ وتغيّراتٍ مُهمة شهدها المغرب منذ التسعينيات، على مُستوى السياسة والاجتماع، إلاّ أنّ ذاكرة بولمينات وأعماله الفنية لا تزال مُحمّلة بقهر المرحلة وأسئلتها القاحلة، جُرحٌ تُغذيه مثالب الذاكرة ومنفاها الداخلي، وإنْ كان الفنّان في لوحاته يُمارِس نوعًا من "التضليل" الفني، أو الترميز البصري، على جمهوره، من خلال تعمّده تصوير كائناته، بطريقة تبدو لمن يعرف أعمال بولمينات وكأنّها مُتناقضة مع حقيقتها الواقعية المُرعبة، عبر ألوانٍ رائقة وزاهية في حضورها وتوهجها في مُخيّلة المُشاهد. وهنا بالضبط، تكمن براعة بولمينات، ففي الوقت، الذي أضحت فيه الألوان الباردة ترمز إلى الفرح والتفاؤل والبناء، تأتي لوحات بولمينات لتسقط يقينياتنا تجاه جماليّات اللون ودلالاته داخل العمل الفني، خاصّة وأنّه يربط اللون بما يحلم به، أو بالأحرى بما يعتمل في مُخيّلته، وليس بما تمنحه لنا الألوان في حقيقتها الوجودية ودلالاتها الأكاديمية، لهذا ظلّت أعماله منذ سنوات غامضة لكلّ من يُشاهدها، لأنّها عملت على قلب المفاهيم الفكرية وتكسير القوالب الفنية والجمالية، وجعلت من اللوحة فضاء للتذكّر والنقد والتفكير، من دون أنْ تحفل بأيّ هاجسٍ تزويقي للعمل الفني يجعله أسير فنّ جاهزٍ وتصويرٍ ميكانيكيّ للواقع بمُختلف مآزقه الوجودية.

    شارك هذا المقال مقالات اخرى للكاتب

يعمل...
X