الربيعُ الزينبيّ المُتجدّد
ناصر أبوعون
مقالي الأسبوعي في جريدة الدستور.. شكرا للزميل الشاعر منذر عبدالحر
مع د. زينب أبو سنه .. وتحت بقعة ضوء تسيل من عمود إنارة في شارع جانبي يهرب من صخب المدينة ليستأنس بالعزلة في الهامش المستثنى من الوطء المعتاد لأحذية تنتعل أدمغة الهائمين على وجوههم ليل نهار، وعلى الطريق المؤديّة إلى الحياة تستعذب (زينب) العزلة، والفرادنيّة، وتشرد من قطعان الحشود، وتهربُ من السير معصوبة العينين في طوابير التفكير الجمعويّ المؤدلج، وتُبريءُ نفسها الأمّارة بالشعر من تهمة قتل الوقت والإنصات إلى حديث الروح.
في كهفها وحدَها وليست وحيدة، تُجري زينب أبوسنة، حوارًا صادقًا مع الذات، تعزف على أوتار قيثارة الصمت كونشيرتو الماء، وتدير ماكينة عرض سينمائي لترشَّ مشاهد حياتها على شاشة فضية باتساع الأفق وتجلس للفرجة على مقعد وحيد يستلذ بالعتمة، ومنولوج نوافير صامتة تنبعث من سكينة النفس لتهرب من صخب البشر وتجلس تحت شمس الفكر، تتأمّل ذاتها،لاتبالي:[(بمَنْ يروحُ ومَنْ يَجيُء//ومَنْ يعودُ ومَنْ يَفرْ!)،(وبمَنْ يَبوحُ ومَنْ يَنوحُ//ومَنْ يَجودُ ومَنْ يَضِنْ!)،(وبِمَن يُزيِّفُ في المشاعرِ//أو يُجاهرُ بالعداوةِ أو يُسِرْ)].
وإذا ما تأمّلنا في متوالية الأفعال المضارعة[>يروحُ<، >يَجيُء</،>يعودُ<، >يَفرْ/<، >يَبوحُ<، >يَنوحُ< >/يَجودُ<، >يَضِنْ/< >يُجاهرُ< >يُسِرْ<] نجدها نحْويًا متساوية من حيث الإسناد؛ وقد ساهمت هذه الأفعال التي ضارعت الاسم في خاصية الإعراب - من خلال السياق - في توليد العديد من الأحوال المنصوبة والمحذوفة والمقدّرة، والمثير للدهشة أنّ صاحب الحال في هذه المتوالية كان يتوارى خلف أصبعه من خطاياه بعد أن أكل من شجرة الحياة الفانية. وبإمعان التأمل البلاغي نجد هذا المقطع يتوالى نغميا بما يشبه موسيقى (مارش عسكريّ) رباعي بسيط 4/4 فضلا عن احتوائها على مُحَسِّنٍ لغويٍّ تمثَّل في الإتيان بـ(مقابلة بديعيّة) اقتضاها المعنى، وانطوت على طاقة تأويلية كانت قادرة على إيضاح المعنى دونما تكلّف أو تصنّع. فضلا عن سيطرة "الأفعال المضارعة المتعرّية من عوامل النصب والجزم" والمشحونة بالمعاني على سائر طوبوغرافية النص رغبة في كسر القوالب المألوفة.
اقتادت الشاعرة هنا عشرة أفعال مضارعة (لازمة)، وهي إن كانت (عُمْدةً) في الجملة وليست (فُضْلًةً) فقد اكتفت بـ(فاعل يتيم واحد اسْتَتَرَ في صورة ضمير الغائب[هو])، ولا تجرؤ على (التّعدّي) إلى مفعول واحد، لسببين: الأول لأنها ترسف في أغلال قواعد النحو الصارمة، وأمّا السببُ الثاني لأن أقدامها غاصت في بحر رمال الخطيئة أو ساخت قوائمها في سبخة التقصير، وإن كانت منفتحة على المطلق من الزمان.
ثم تنتقل بنا الشاعرة زينب أبو سنة إلى المشهد الآخر المقابل للمشهد الأول من سيرتها وسيرورتها الذاتية، والذي يمثل الصورة المقابلة، وقد استفادت من (قاعدة عدم الثبات الزمنيّ) التي ينطلق منها الفعل المضارع في بناء الجملة العربيّة من حيث عدم تقيده بزمن محدد عند وضعه في سياقات تركيبية مختلفة، وخاصة على صعيد البناء الدراميّ حيث يعطي القاريء والمُشاهد والمتأمّل لحركية الفعل الانفتاح على مدى واسع من التأويلات ومحاولة اكتشاف ما ورائيات النصّ. وهذا ما نستطيع قراءته في متوالية من ثلاثة أفعال مضارعة تساهم في تشكيل الواقع [(يَمضي الرَّبيعُ مُلَملِمًا أزهارَهُ)،(وأَنا رَبيعي >لايَغيبُ<)، (و>لايَبيدُ< و>لايُمَلّْ<)].والأفعال الثلاثة تُشكِّل صورة مغصّنة ومتولّدة وإيجاببية تنافح الصورة السلبية والمُقابِلة والمعتادة والثابتة ذهنيا لدى الناس حول العالم عن (فصل الربيع) الضيف الذي يأتي زائرًا ثم يذوي راحلا ويتعاقب مثل غيره من (الفصول) بسبب "ميل محور الأرض بزاوية مقدارها 23.4 درجة, وبسبب دورانها حول الشمس, فتتغير زاوية سقوط الشمس حسب موقع الكرة الأرضية بالنسبة للشمس". وجاء استخدام الفعل المضارع اللازم المكتفي بفاعله (يمضي الربيع)، تعبيرًا عن عدم قدرته على البقاء. وفي الصورة المقابلة نجد الربيع الزينبيّ يتجدد مع الشاعرة والإنسانة ذات الطاقة المتجددة، وصاحبة الروح الفياضة بالحب تتلفع بأثواب الفعل المضارع الدال على الحركية والحيوية والتجدد؛ هي [(زَينبٌ/ أُختُ النَّدىٰ/هَمْسُ الصّباحِ/ إذا تهادىٰ أو أَطَلْ)].