ميسون شقير
في المسافة ما بين ضفتي المتوسط، وبين ضفتي القلب، عاشت مدن الأندلس كسؤال الماء الأبدي الجاري بين الينابيع ومصبات الأنهر، الذي تردده عصافير الأشجار المنحنية عند الضفاف على طول الطريق، يكون الجواب عن هذا السؤال الأبدي ماثلا في أن الفنون وحدها هي من تحدّى الموت وقتله، وأن الأبدية والخلود، مثلما يكونان في موسيقى تجعلنا نكتشف أنفسنا من جديد، وفي لوحة تتفحصنا عندما نقف أمامها، وفي شعر يصيبنا في القلب، يكونان أيضا بين زخارف جدران مدن الأندلس وبين تلك التنتنات الرهيفة من الحجر.
وإن كانت غرناطة هي عروس مدن الأندلس الباقية بكل بهائها، فإن "الزهراء"، المدينة الأندلسية المبنية على أقدام جبل العروس على بعد ثمانية كيلو مترات غرب مدينة قرطبة الشهيرة، كانت ستعتبر سيدة المدن التي شيدها الأمويون بلا منافس، وذلك لأنها شكلت لكل من عايشها وكتب عنها، ولكل الباحثين عن تاريخها، أسطورة حقيقية، فلو كان الزمان أكرم على نفسه من نفسه، ولو أطاع الدهر أحلامه، لبقيت الزهراء بكامل أبهتها، مثلما بقيت مدينة غرناطة، ولكانت الزهراء من أجمل وأغرب وأرقى مدن العالم على الاطلاق.
إن مجرد ما تبقى لحد الآن من مدينة الزهراء الأندلسية، يجعل من يزورها، يحس بأنه أمام حالة من الإبداع الفني المعماري، الحسي، النادر، وغير المتكرر في المنجز المعماري البشري، والذي كان قد احتضن أيقونة حقيقية لإشعاع ثقافي، معرفي، علمي، أدبي، انتمى لروح الحضارة الأموية في أكثر فترات ازدهارها، وأخذ من جمال بلاد الأندلس، واختلافها، المزيد من الجمال ومن الأبهة، بالاضافة الى المزيد من الانفتاح والتطور الروحي والفكري الذي أخذته الزهراء وغرناطة وإشبيليا من حضارة إسبانيا وتاريخها.
من أطلال الزهراء
يقول المؤرخ "المقري "في نفح الطيب: "ذكر ابن حيان وغير واحد أن مُلك الناصر بالأندلس كان في غاية الضخامة ورفعة الشأن، وهادنه الروم وجاؤوا اليه يطلبون التعلم من ذخائره، ولم تبق أمّة سمعت به من ملوك الروم والإفرنجة والمجوس وسائر الأمم، إلاّ وفدت خاضعة راغبة وانصرفت عنه راضية".
إحياء لشامة الدنيا في روحه، بنى الخليفة "عبد الرحمن الناصر"، وهو الأمير الثامن من سلالة "عبد الرحمن الداخل"، صقر قريش، مدينة الزهراء في الأندلس بين عامي (936- 940) للميلاد، وقد استغرق بناء المدينة بصورتها الكاملة ما يزيد عن الثلاثين عاما، حيث كانت الزهراء في العصور الوسطى عاصمة للأندلس، أو عاصمة لإسبانيا الإسلامية، حيث مثّلت المركز الإداري والحكومي لكل بلاد الأندلس، داخل أسوار طاعنة بالعلو وبالزخارف والتحف الفنية التي تجعل الداخل إليها يشعر بسحر لا يشبه إلا تفردها، وبرهبة لا تحاكي إلا رهبتها.
ولأن الحنين شامة في القلب، ولأن المدن التي سكناها وسكنتنا، تسافر معنا أنّا ذهبنا، وتعيد إنتاج ذاتها في كل بقعة جديدة تحتوينا، ومثلها مثل كل الفنون، لا تفنى، يروي السيد التاريخ، وبكل حب وفخر، أن الناصر أراد لمدينته الجديدة، الزهراء، أن تكون توءما لدمشق، أقدم عواصم الأرض، بكل ما فيها، الأمر الذي جعله يبالغ بالاهتمام ببناء القصور الآسرة الدهشة، ويجلب أفضل المعماريين من الشام ممّن حملوا معهم الإرث الحضاري والمعماري لسكان سوريا الأم، وكأنه كان بذلك يرشو الزمان والمكان والتاريخ أيضا.
ولكي تكون شامة الناصر الجديدة بلون مختلف، طلب أن يكون شكل الفن المعماري فيها مزيجا من التاريخ الفني الإسلامي المتمثل بوضوح في حضور الخط العربي، ومن الألوان والزخارف التي تعيد دائما رسم الورود، مثلها مثل كل بيوت الشام، ومثل لوحات الفسيفساء السورية.
وإتماما لسلطة السيد الحنين، وخوفا من عصاه الغليظة المصنوعة من الطعم والرائحة، والتي تضرب أرواحنا دون رحمة كلما لامستنا، زرع الخليفة الناصر الحدائق في الجزء الأعلى من المدينة، على شكل غاية في التناسق والتنوع، مليئة بالورد الدمشقي، وبالياسمين والزنبق والنرجس، والخزامى والدفلى، والقرنفل، ليصبح للزهراء بذلك طعم رائحة الشام، وظلها.
اليوم، وفي غفلة عن الأمس القريب، يكتشف علماء الآثار في إسبانيا، أن الزهراء كانت مدينة عامرة بأكثر من 15 ألف باب، وأن كل سقوف قصورها كانت مصنوعة من الرخام المذهب الذي يشد من ينظر إليه من قلبه، وقد كانت أبواب القصور الفخمة فيها مصنوعة من العاج الناصع البياض، الذي جلبه الخليفة الناصر من أفريقيا، ومن شجر الأبنوس الذي لا يعطي أناقته وجماله لأحد، وقد كان الداخل من هذه الأبواب يشعر أن الجنة تفتح له قلبها، وتدخله إليها دون جواز سفر.
ولكي يضفي الخليفة الناصر على مدينته الدمشقية الأندلسية المزيد من التفرد والدهشة، أمر بأن تمتلئ قصور المدينة بتلك المجسمات والتماثيل لحيوانات غريبة الشكل لم تك موجودة أبدا في الحقيقية، وكأن الناصر ولشدة ولعه بالزهراء، كان سباقا لمفهوم الخيال العلمي، أو لما تتخيله الرسوم المتحركة في عالم الأطفال في عصرنا الحاضر، ولا يزال بعض هذه التماثيل المصنوعة من العنبر واللؤلؤ، موجودا حتى الأن.
وزيادة في كل مقومات السحر التي كانت تتوزع في كل زاوية في المدينة، كان قصر الخليفة الناصر في الزهراء محاطا بحوض كبير جدا ومملوء بمادة الزئبق، وذلك لأن الزئبق عندما تشرق عليه الشمس، يجعل القصر يشع بمزيج من الألوان الرائعة المذهلة، ولمسافات بعيدة. وقد وصفه المؤرخ "التلمساني" في كتاب "نفح الطيب" بقوله: "لما بنى الناصر قصر الزهراء المتناهي في الجلالة والفخامة، أكد الناس على أنه لم يُبن مثله في العالم البتة".
وليس القصر وحده الذي يذكر بقصر العظم في دمشق، وليس بوابات المدينة أيضا، بل إن بناء المسجد الجامع الذي لم يزل الجزء الكبير منه قائما يعتبر توءما للجامع الأموي في دمشق، ولجامع قرطبة المعروف والفريد.
بعد الخليفة الناصر أشرف على بناء المدينة ولي عهده الخليفة "الحكم"، لتكتمل المدينة في عصره، وقد ذكر المؤرخ المعاصر ابن حيان أن عدد سواري الرخام التي استخدمت أيام الناصر، أي قبل اكتمال البناء، كانت "أربعة آلاف وثلاثمئة وثلاث عشرة، منها ألف وثلاث عشرة أحضرت من أفريقيا، وتسع عشرة من القسطنطينية، ومئة وأربعين هدية من ملك روما".
أما المياه والتي شكلت سر ازدهار هذه المدينة بكل ما فيها، فقد جلبت إلى الزهراء عبر قنوات أرضية لمسافة 15 كيلومترا من كل الجبال المجاورة، وجمعت في خزان كبير جدا ثم تم توزيعها على كل أنحاء المدينة عبر مواسير مصنوعة من مادة الرصاص التي لم يستعمل مثلها في العالم آنذاك، فوصلت المياة بطريقة غاية في التقدم العلمي والتقني للقصور والبيوت والمراحيض والحمامات وبرك السباحة والنوافير، وقد وصفها الإدريسي الذي زارها بالقول: "مدينة عظيمة مدرجة البنية، مدينة فوق مدينة، فكان الجزء الأعلى منها قصوراً يقصر الوصف عن صفاتها، والجزء الأوسط بساتين وروضات، والجزء الثالث فيه الديار والجامع".
ولأن التاريخ وفي غفلة منه عن تاريخه، ينتقم من أبطاله، بدأت في المنطقة عام 399 للهجرة (1010 للميلاد) فتنة أهلية تحولت إلى حرب نهبت المدينة وكسرت العديد من آثارها وسرقت جزءا من قصورها التي فككت ليعاد استخدامها في أماكن أخرى، ولتصبح الزهراء العظيمة مدينة بنتها الحضارة الإسلامية في الأندلس، ودمرتها أياد إسلامية أيضا قادمة، قبل أن تبلغ الخمسين من العمر، لتسقط في ظلام النسيان والتجاهل لأكثر من ألف سنة، إلى أن تمت ترجمة كتاب "نفح الطيب" الى اللغة الإنجليزية قبل نحو قرن ونصف القرن فقط، فعرف الباحثون حينها اسمها وموقعها وأوصافها ولتبدأ أعمال الحفر والتنقيب التي لا تزال مستمرة إلى يومنا هذا، عن كنوز الزهراء المنهوبة، وأبرز ما عثر عليه وما يراه الزائر الآن إليها، هو قصر الخليفة والمقام الخاص، ومساكن الحاشية والحرس، وذلك البهو العظيم الذي كان مخصصًا لاستقبال الملوك.
الزهراء، جنة من جنان الأرض، والمدينة التي كانت شوارعها مضاءة طوال الليل، في الوقت الذي كانت أوروبا في أحلك أزمنتها، والتي احتوت مع قرطبة على 70 مكتبة، وعلى أكثر من 400 ألف كتاب من أهم الكتب التي شكلت أساسًا لحضارة الغرب، ما تزال تعيش في كل من يقرؤها، أو يزور ما عثر عليه منها، وفي أبيات ابن زيدون التي لا تموت:
إني ذكرتك في الزهراء مشتاقا والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا...
في المسافة ما بين ضفتي المتوسط، وبين ضفتي القلب، عاشت مدن الأندلس كسؤال الماء الأبدي الجاري بين الينابيع ومصبات الأنهر، الذي تردده عصافير الأشجار المنحنية عند الضفاف على طول الطريق، يكون الجواب عن هذا السؤال الأبدي ماثلا في أن الفنون وحدها هي من تحدّى الموت وقتله، وأن الأبدية والخلود، مثلما يكونان في موسيقى تجعلنا نكتشف أنفسنا من جديد، وفي لوحة تتفحصنا عندما نقف أمامها، وفي شعر يصيبنا في القلب، يكونان أيضا بين زخارف جدران مدن الأندلس وبين تلك التنتنات الرهيفة من الحجر.
وإن كانت غرناطة هي عروس مدن الأندلس الباقية بكل بهائها، فإن "الزهراء"، المدينة الأندلسية المبنية على أقدام جبل العروس على بعد ثمانية كيلو مترات غرب مدينة قرطبة الشهيرة، كانت ستعتبر سيدة المدن التي شيدها الأمويون بلا منافس، وذلك لأنها شكلت لكل من عايشها وكتب عنها، ولكل الباحثين عن تاريخها، أسطورة حقيقية، فلو كان الزمان أكرم على نفسه من نفسه، ولو أطاع الدهر أحلامه، لبقيت الزهراء بكامل أبهتها، مثلما بقيت مدينة غرناطة، ولكانت الزهراء من أجمل وأغرب وأرقى مدن العالم على الاطلاق.
إن مجرد ما تبقى لحد الآن من مدينة الزهراء الأندلسية، يجعل من يزورها، يحس بأنه أمام حالة من الإبداع الفني المعماري، الحسي، النادر، وغير المتكرر في المنجز المعماري البشري، والذي كان قد احتضن أيقونة حقيقية لإشعاع ثقافي، معرفي، علمي، أدبي، انتمى لروح الحضارة الأموية في أكثر فترات ازدهارها، وأخذ من جمال بلاد الأندلس، واختلافها، المزيد من الجمال ومن الأبهة، بالاضافة الى المزيد من الانفتاح والتطور الروحي والفكري الذي أخذته الزهراء وغرناطة وإشبيليا من حضارة إسبانيا وتاريخها.
من أطلال الزهراء
يقول المؤرخ "المقري "في نفح الطيب: "ذكر ابن حيان وغير واحد أن مُلك الناصر بالأندلس كان في غاية الضخامة ورفعة الشأن، وهادنه الروم وجاؤوا اليه يطلبون التعلم من ذخائره، ولم تبق أمّة سمعت به من ملوك الروم والإفرنجة والمجوس وسائر الأمم، إلاّ وفدت خاضعة راغبة وانصرفت عنه راضية".
إحياء لشامة الدنيا في روحه، بنى الخليفة "عبد الرحمن الناصر"، وهو الأمير الثامن من سلالة "عبد الرحمن الداخل"، صقر قريش، مدينة الزهراء في الأندلس بين عامي (936- 940) للميلاد، وقد استغرق بناء المدينة بصورتها الكاملة ما يزيد عن الثلاثين عاما، حيث كانت الزهراء في العصور الوسطى عاصمة للأندلس، أو عاصمة لإسبانيا الإسلامية، حيث مثّلت المركز الإداري والحكومي لكل بلاد الأندلس، داخل أسوار طاعنة بالعلو وبالزخارف والتحف الفنية التي تجعل الداخل إليها يشعر بسحر لا يشبه إلا تفردها، وبرهبة لا تحاكي إلا رهبتها.
ولأن الحنين شامة في القلب، ولأن المدن التي سكناها وسكنتنا، تسافر معنا أنّا ذهبنا، وتعيد إنتاج ذاتها في كل بقعة جديدة تحتوينا، ومثلها مثل كل الفنون، لا تفنى، يروي السيد التاريخ، وبكل حب وفخر، أن الناصر أراد لمدينته الجديدة، الزهراء، أن تكون توءما لدمشق، أقدم عواصم الأرض، بكل ما فيها، الأمر الذي جعله يبالغ بالاهتمام ببناء القصور الآسرة الدهشة، ويجلب أفضل المعماريين من الشام ممّن حملوا معهم الإرث الحضاري والمعماري لسكان سوريا الأم، وكأنه كان بذلك يرشو الزمان والمكان والتاريخ أيضا.
ولكي تكون شامة الناصر الجديدة بلون مختلف، طلب أن يكون شكل الفن المعماري فيها مزيجا من التاريخ الفني الإسلامي المتمثل بوضوح في حضور الخط العربي، ومن الألوان والزخارف التي تعيد دائما رسم الورود، مثلها مثل كل بيوت الشام، ومثل لوحات الفسيفساء السورية.
وإتماما لسلطة السيد الحنين، وخوفا من عصاه الغليظة المصنوعة من الطعم والرائحة، والتي تضرب أرواحنا دون رحمة كلما لامستنا، زرع الخليفة الناصر الحدائق في الجزء الأعلى من المدينة، على شكل غاية في التناسق والتنوع، مليئة بالورد الدمشقي، وبالياسمين والزنبق والنرجس، والخزامى والدفلى، والقرنفل، ليصبح للزهراء بذلك طعم رائحة الشام، وظلها.
اليوم، وفي غفلة عن الأمس القريب، يكتشف علماء الآثار في إسبانيا، أن الزهراء كانت مدينة عامرة بأكثر من 15 ألف باب، وأن كل سقوف قصورها كانت مصنوعة من الرخام المذهب الذي يشد من ينظر إليه من قلبه، وقد كانت أبواب القصور الفخمة فيها مصنوعة من العاج الناصع البياض، الذي جلبه الخليفة الناصر من أفريقيا، ومن شجر الأبنوس الذي لا يعطي أناقته وجماله لأحد، وقد كان الداخل من هذه الأبواب يشعر أن الجنة تفتح له قلبها، وتدخله إليها دون جواز سفر.
ولكي يضفي الخليفة الناصر على مدينته الدمشقية الأندلسية المزيد من التفرد والدهشة، أمر بأن تمتلئ قصور المدينة بتلك المجسمات والتماثيل لحيوانات غريبة الشكل لم تك موجودة أبدا في الحقيقية، وكأن الناصر ولشدة ولعه بالزهراء، كان سباقا لمفهوم الخيال العلمي، أو لما تتخيله الرسوم المتحركة في عالم الأطفال في عصرنا الحاضر، ولا يزال بعض هذه التماثيل المصنوعة من العنبر واللؤلؤ، موجودا حتى الأن.
وزيادة في كل مقومات السحر التي كانت تتوزع في كل زاوية في المدينة، كان قصر الخليفة الناصر في الزهراء محاطا بحوض كبير جدا ومملوء بمادة الزئبق، وذلك لأن الزئبق عندما تشرق عليه الشمس، يجعل القصر يشع بمزيج من الألوان الرائعة المذهلة، ولمسافات بعيدة. وقد وصفه المؤرخ "التلمساني" في كتاب "نفح الطيب" بقوله: "لما بنى الناصر قصر الزهراء المتناهي في الجلالة والفخامة، أكد الناس على أنه لم يُبن مثله في العالم البتة".
وليس القصر وحده الذي يذكر بقصر العظم في دمشق، وليس بوابات المدينة أيضا، بل إن بناء المسجد الجامع الذي لم يزل الجزء الكبير منه قائما يعتبر توءما للجامع الأموي في دمشق، ولجامع قرطبة المعروف والفريد.
بعد الخليفة الناصر أشرف على بناء المدينة ولي عهده الخليفة "الحكم"، لتكتمل المدينة في عصره، وقد ذكر المؤرخ المعاصر ابن حيان أن عدد سواري الرخام التي استخدمت أيام الناصر، أي قبل اكتمال البناء، كانت "أربعة آلاف وثلاثمئة وثلاث عشرة، منها ألف وثلاث عشرة أحضرت من أفريقيا، وتسع عشرة من القسطنطينية، ومئة وأربعين هدية من ملك روما".
أما المياه والتي شكلت سر ازدهار هذه المدينة بكل ما فيها، فقد جلبت إلى الزهراء عبر قنوات أرضية لمسافة 15 كيلومترا من كل الجبال المجاورة، وجمعت في خزان كبير جدا ثم تم توزيعها على كل أنحاء المدينة عبر مواسير مصنوعة من مادة الرصاص التي لم يستعمل مثلها في العالم آنذاك، فوصلت المياة بطريقة غاية في التقدم العلمي والتقني للقصور والبيوت والمراحيض والحمامات وبرك السباحة والنوافير، وقد وصفها الإدريسي الذي زارها بالقول: "مدينة عظيمة مدرجة البنية، مدينة فوق مدينة، فكان الجزء الأعلى منها قصوراً يقصر الوصف عن صفاتها، والجزء الأوسط بساتين وروضات، والجزء الثالث فيه الديار والجامع".
ولأن التاريخ وفي غفلة منه عن تاريخه، ينتقم من أبطاله، بدأت في المنطقة عام 399 للهجرة (1010 للميلاد) فتنة أهلية تحولت إلى حرب نهبت المدينة وكسرت العديد من آثارها وسرقت جزءا من قصورها التي فككت ليعاد استخدامها في أماكن أخرى، ولتصبح الزهراء العظيمة مدينة بنتها الحضارة الإسلامية في الأندلس، ودمرتها أياد إسلامية أيضا قادمة، قبل أن تبلغ الخمسين من العمر، لتسقط في ظلام النسيان والتجاهل لأكثر من ألف سنة، إلى أن تمت ترجمة كتاب "نفح الطيب" الى اللغة الإنجليزية قبل نحو قرن ونصف القرن فقط، فعرف الباحثون حينها اسمها وموقعها وأوصافها ولتبدأ أعمال الحفر والتنقيب التي لا تزال مستمرة إلى يومنا هذا، عن كنوز الزهراء المنهوبة، وأبرز ما عثر عليه وما يراه الزائر الآن إليها، هو قصر الخليفة والمقام الخاص، ومساكن الحاشية والحرس، وذلك البهو العظيم الذي كان مخصصًا لاستقبال الملوك.
الزهراء، جنة من جنان الأرض، والمدينة التي كانت شوارعها مضاءة طوال الليل، في الوقت الذي كانت أوروبا في أحلك أزمنتها، والتي احتوت مع قرطبة على 70 مكتبة، وعلى أكثر من 400 ألف كتاب من أهم الكتب التي شكلت أساسًا لحضارة الغرب، ما تزال تعيش في كل من يقرؤها، أو يزور ما عثر عليه منها، وفي أبيات ابن زيدون التي لا تموت:
إني ذكرتك في الزهراء مشتاقا والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا...