بيدرو ألمودوبار المخرج الذي لا يشبه غيره
مهرجان أفلام السعودية يصدر أول كتاب عربي عن سينما ألمودوبار.
الأحد 2023/05/28
انشرWhatsAppTwitterFacebook
مخرج ابتكر أسلوبه من حياته
منذ انطلاقه في العام 2008 آمن مهرجان أفلام السعودية بدوره الأصيل في البناء الثقافي والمعرفي الموجه إلى العاملين في الحقل السينمائي العربي، فاهتم بمشروع المعرفة ودفع عجلة التأليف في كافة الحقول الخاصة بإنتاج الأفلام، وذلك من أجل الارتقاء بجميع مراحل الإنتاج السينمائي. وفي هذا السياق قدم مؤخرا كتابا مهما بعنوان “سينما بيدرو ألمودوبار”.
تبنى مهرجان أفلام السعودية، الذي تنظمه جمعية السينما بشراكة مع مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي “إثراء”، وبدعم من هيئة الأفلام، برنامجا دوريا لإنتاج الكتب بغية إخراج الإنتاج السينمائي من دائرة الكتابة غير الاحترافية، التي لا تقوم على أسس علمية صلبة، والارتقاء بها إلى مستوى المهنية وعمق الاختصاص، لتجاوز النقص الفادح في كتب المجال السينمائي.
انطلاقا من هذه الرؤية لإدارة مهرجان أفلام السعودية، كانت سلسلة الكتب التي أطلقت باكورتها أخيرا وصدرت عن دار جسور، ومن بينها كتاب الروائي والمترجم والناقد الأكاديمي العراقي المقيم بإسبانيا عبدالهادي سعدون “سينما بيدرو ألمودوبار”.
المخرج الإسباني الأشهر
الكتاب يقدم رؤية متكاملة عن المخرج في حياته الشخصية والفنية وخصوصية أعماله قارئا معالم وسمات هذه الأعمال
في كتابه “سينما بيدرو ألمودوبار” يقدم سعدون رؤية متكاملة عن المخرج السينمائي الإسباني بيدرو ألمودوبار، حياته الشخصية والفنية وخصوصية أعماله وقراءات لمعالم وسمات هذه الأعمال ولائحة كاشفة لتطور أفكاره ورؤاه. ويعد المؤلَّف أول كتاب عربي يكتب مباشرة عن سينما ألمودوبار، ولعله ينظر إليه كحجر أول في سلسلة كتب مستقبلية تتناول ألمودوبار أو غيره من مخرجي السينما الإسبانية التي تستحق كتبا ودراسات عديدة، لأثرهم ولأهمية ما يقدمونه من تجارب سينمائية ثرية.
يقول سعدون إن ألمودوبار (كالاترابا 1949) “مخرج أفلام وكاتب سيناريو ومنتج إسباني أثبت نفسه كمخرج متميز ومؤلف على الصعيدين الوطني والدولي في عالم السينما من خلال الحصول على العديد من الجوائز العالمية وشهادات التقدير طوال حياته المهنية. وعلى مر السنين، تمكن من ابتكار أسلوبه المميز في أغلب أفلامه الطويلة. ومع ذلك، فإن هذا الإخلاص الفني الخاص به يقسم الجمهور تماما إلى قسمين: أولئك الذين يحبونه وأولئك الذين يمقتون أفلامه ولا يطيقونها بل يعتبرونها هذرا وفنا مهلهلا لا ميزة به”.
ويضيف “يتضح ذلك من خلال كتابات كارلوس بوييرو (1953) كاتب عمود في صحيفة ‘إلباييس’ الإسبانية وأحد أهم نقاد السينما المؤثرين جماهيريا ونقديا، إذ مثلا يقول حول فيلم ‘كل شئ عن أمي’: ‘اعتقدت أن فيلمه هذا كوميدي مضحك يصور حيوانات ذات مناظر خلابة ومقنعة من الناحية الإستراتيجية، وفي أوقات معينة تكون تلك الأوقات نفسها مخيبة حتى في جانبها المضحك’. وعلى النقيض من ذلك ما قدمه الناقد السينمائي الإنجليزي فيليب فرينش (1933) في صحيفة ‘الغارديان’ وعن الفيلم نفسه ‘مضحك، حزين وسخي عاطفيا (…) كل المشاهد المنفذة ممتازة والفيلم مصمم بطريقة صحيحة محكمة’. من خلال ذكر هذين الرأين مثلا ما يجعل المخرج في معارك دائمة مع النقد ومؤسسات النقد والسينما في بلاده”.
ويضيف “لم يحظ مخرج سينمائي إسباني بأهمية كبرى مثلما حظي المخرج بيدرو ألمودوبار، وهو المعروف بالنطق العربي وفي وسائل الإعلام العربية باسم ‘بيدرو المظفر’ بتعريب اسم العائلة أو إرجاعه إلى أصول الكلمة العريقة التي بقيت عالقة في لغة ومجتمع الإسبان. ولكن الحقيقة أيضا أننا لو أرجعنا الاسم إلى عربيته فهناك أكثر من احتمال للفظ الاسم وهي: المظفر أو المدور أو المدبر، مما سيوقعنا في مطب آخر لا مجال لمناقشته هنا. لذا وجب التنبيه أننا وضعناه في العنوان وفي كل مكان يذكر فيه لقب المخرج الإسباني سيكون ألمودوبار وليس المظفر المعروف في وسائل الإعلام العربية”.
ولعل شهرته تفوق في أحيان كثيرة شهرة العبقري الأول في السينما الإسبانية والمعروف عالميا لويس بونويل (1900 – 1983) صاحب روائع السينما والعالمية مثل: “الكلب الأندلسي” (1929)، و”العصر الذهبي” (1930)، “ناثارين” (1958) أو “تريستانا” (1970)، وحتما أسماء أخرى تلته أو متوافقة زمنيا معه مثل: إدغار نبيليه (1899 – 1967) مخرج أفلام مثل “لا شيء”، “شارعي”، أو ماركيز سلامنكا، ولويس غارثيا برلانغا (1921 – 2010) مخرج أفلام شهيرة مثل: “مرحبا مستر مارشال”، “الجلاد” أو “البندقية الوطنية”، وكارلوس ساورا (1932 – 2023) مخرج أفلام مثل: “الصيد”، “أعراس الدم”، “كارمن” أو “فلامنكو”، وخوسيه لويس غارثي الحاصل على أوسكار أفضل فيلم أجنبي عن “عودة للبدء” 1982 أو فرناندو آريثي مخرج روائع السينما المعاصرة مثل: “روح الخلية” أو “الجنوب”. وصولا إلى الأسماء الجديدة المعروفة عالميا مثل أليخاندرو أمينابار أو إيزابيل كويشيت أو أنطونيو بايونا.
يؤكد سعدون أن ألمودوبار لم يخرج من معطف أي من هؤلاء المخرجين، بل صنع عالمه السينمائي المتفرد لوحده، من عوالمه وحكاياته الخاصة العائلية وغير العائلية، وكذلك من المؤثرات المحلية التي عاشها ويعيشها كل يوم سواء في مسقط رأسه في كاستيا لا مانتشا، أو في مدريد مدينته التي وصلها شابا وعاشها حرفيا في نهايات الحكم الفرانكوي وبدايات الحركة الثقافية والفنية المدريدية المعروفة باسم (لاموبيدا La Movida) والتي تسيدت عوالم الفن والأدب في الثمانينات.
كل عوالم المخرج السينمائية عبارة عن خلطة فنية خاصة قلما تجد لها شبيها في السينما الإسبانية والعالمية على حد سواء، بل إن ألمودوبار نفسه قد اعترف في أكثر من مناسبة أن التأثيرات القوية عليه أغلبها جاء من عوالم الموسيقى وفنون البوب آرت وروايات الغموض والتشويق. استطاع على مدى الأربعين عاما من العمل مع الأفلام الروائية الطويلة أن يخلق أسلوبا وملامح خاصة ومتفردة. أفلام بحكايات ميلودرامية متناغمة مع أسلوب باروكي مفعم بالألوان الصارخة والزخرفات المثيرة. الحياة بكل حذافيرها الظاهرة والخفية تتجسد في أفلامه بنفس تراجيكوميدي عموما، وطرح ذهني يقترب من الغموض والغوص في النفس البشرية ودواخلها المتنوعة.
ويرى سعدون أن ألمودوبار يعتبر المخرج الإسباني الذي حقق أكبر شهرة خارج بلاده في العصر الحديث، ومن أهم رموز السينما الإسبانية والأوروبية في نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الجديد. بعد نجاح أفلامه الأولى مع منتجين آخرين، قرر أن يؤسس شركة إنتاج باسم “الرغبة” (El Deseo) مع شقيقه أغوستين ألمودوبار، والاسم مأخوذ من عنوان أحد أفلامه الأولى التي حققت نجاحا شعبيا مهما.
وألمودوبار كما هو معروف قد فاز بأهم الجوائز السينمائية الإسبانية والأوروبية والعالمية، ومنها جائزة الأوسكار لمرتين، واحدة عن أفضل فيلم أجنبي “كل شئ عن أمي” (1999)، وأخرى لأفضل سيناريو سينمائي عن “تحدث معها” (2003). لكنه بدأ مشواره بصعوبة بعد أن زاول مهنا عديدة مثل الغناء والمسرح والكتابة لمجلات فنية، وعمل لفترة في مؤسسة البريد الوطنية حتى تركها كلها ليقوم بأول تجربة سينمائية عام 1980 وهي فيلمه الطويل الأول “بيبي لوسي بوم وبضع فتيات أخريات”، بعد أن جرب في السبعينات إخراج أفلام قصيرة متنوعة المواضيع والأهداف. بعدها لم يتوقف حتى اليوم من خلال أكثر من عشرين فيلما روائيا طويلا من بينها: “ماذا فعلت أنا حتى أستحق كل هذا” 1984، “نساء على حافة الانهيار العصبي” 1988، “كل شيء عن أمي” 1999، “تحدث معها” 2002، “عودة” 2006، “خولييتا” 2016، “ألم ومجد” 2019، والأخير “أمهات متوازيات” 2021.
سينما لها جنسها
كل عوالم المخرج السينمائية عبارة عن خلطة فنية خاصة لا تجد لها شبيها في السينما الإسبانية أو العالمية
يشير سعدون إلى أن وضع أفلام وعوالم ألمودوبار السينمائية ضمن تجنيس معين هو ميزة بحد ذاتها لدى المخرج الإسباني، على العكس من المخرجين الأوروبيين الآخرين الذين يهربون من محدودية التصنيفات والتجنيس لأفلامهم.
يعي ألمودوبار إطاره الخاص بشخصياته وتكويناته وحكاياته، بل يدرك تماما أن تجنيسه ضمن إطار السينما الخاصة الشعبية، إنما هو ميزة سعى إليها وركزها من خلال تلك التشكيلية المتداولة في كل أفلامه كنموذج فني مزيج من الفنون الشعبية والفلكلورية مع صورة مدينية واضحة المعالم لا يمكن أن يخطئ فيها أي مشاهد أو ناقد. هذه الملامح المتقابلة والمتنافرة لروحية ألمودوبار الإسبانية، إنما هي هويته الاجتماعية والمحلية التي ستحمله ليمثلها عالميا.
إن تاريخ ألمودوبار في عالم الكوميكس والغناء والمسارح والحركات الثقافية المهمشة، تضاف إليها المؤثرات الخاصة من السينما الأوروبية والأميركية، قد صنعت من أفلامه سينما لا تشبه سينما أخرى، بل هي فن قائم بذاته يستمد جذوره وتواصله واستمراريته مما عاشه ويحيطه حتى اللحظة. هذا التميز أو الخصوصية التي لم يدركها العديد من النقاد هي التي جعلت ألمودوبار يستمر في طريقه الخاص، حتى لو لم يجد القناعة لدى قطاع السينما ونقادها بشكل كبير. كل هذا لن يمنعه من البحث عن أشكال جديدة كلها تقع ضمن حيز ذائقته الفنية الخالصة.
ويضيف سعدون أنه بين فيلمي “كل شيء عن أمي” و”عودة” الأكثر تميزا وشهرة في مسيرة ألمودوبار، يقع الفيلم الفني المهم “تحدث معها” 2002، بمثابة تذكير بأهمية الحياة في أزمنة الموت المفاجئة وما تصاحبها من علاقات منقطعة ومنتهية. هنا في سيناريو هذا الفيلم سيلجأ المخرج إلى مستشارين في الطب لجعل الحبكة مقنعة وواقعية، لاسيما وأن حالات بشرية عديدة عرضة لذلك المصاب. وهذه الاستشارة لها في فيلمه المؤثر الآخر “الجلد الذي تعيش فيه” 2011. فالفيلمان يناقشان فكرة طبية خالصة، واحدة تتعلق بموضوع “الموت السريري” والأخرى بموضوع “التحول الجنسي”. طلب الاستشارات الطبية أو العملية الأخرى ليس شيئا جديدا في سينماه، بل إنه لجأ إليها في أكثر من مناسبة وإن كانت غير بارزة بروز جهده هنا في هذين الفيلمين.
سينما الكوميديا الفاضحة
سينما لا تشبه سينما أخرى
يلاحظ سعدون أنه بعد هذه العلامات المتميزة في السنوات الأخيرة لسينما ألمودوبار من خلال الموضوع والتناول والأثر، يرجع مجددا إلى سينما الكوميديا الفاضحة في فيلم “العشاق الطارئون أو المسافرون” 2013، وبينهما يراوح في مسألة العلاقات المتأزمة بين الأزواج والعشاق في فيلمين لم يصلا إلى النضوج الكافي أو الشهرة المعتادة في سينما ألمودوبار ونعني بها فيلميه “الأذرع المتكسرة” 2009 و”خولييتا” 2016. ومع ذلك يعتقد بيدرو أن الأساس في كل نتاج طويل مع السينما هو أن تبقى مع فكرة الواجد في عمل أو أكثر من مسيرة طويلة. هو لا يقتنع بالتأجيل الطويل لأي فكرة تلح عليه لكتابتها وإخراجها. لهذا يمكننا المرور بسرعة على أفلام بعينها والتوقف المطول عند أفلام أخرى.
ويلفت سعدون أنه في فيلم “ألم ومجد” تجربة كاملة تتحدث عنه وعما يشغله الآن وما شغله من ماض غادره للأبد ويطل بين حين وآخر لينكأ جراحه الدفينة. إن الفيلم كما يشير عنوانه يتحدث عن المجد والنجاح المهني إزاء الألم المستمر من الحياة. الفقدان والموت والذكريات الأخرى التي لا يمكن العودة إليها، أو الذكريات الماضية التي تعود وكأنها حلم أو كابوس حسب ما يمكن تصوره والنظر إليه. حياة مخرج السينما بعد المرض ومراجعته لتفاصيل حياته عبر ذكريات الأم الميتة والأكثر حضورا من الأحياء، السكرتيرة المتفانية، العشاق السابقون، عالم المخدرات والمرض والأطباء النفسيين.
الفيلم تجربة عميقة لفترة ما بعد مرض ألمودوبار. نوع من المراجعة الذاتية لعلاقته بالعالم والحياة والسينما. كل فرد مر بحياته ترك تجربة ما في روحه وجسده وذكرياته. كلها لا تعود إلينا إلا عندما نتواجه مع السؤال الحياتي الأكبر: وماذا بعد ذلك؟ الأكثر عمقا في الفيلم هو ذلك الإبهام والأسئلة التي لا نجد لها من إجابة وكأن الحياة تهدينا سرها وفي الوقت نفسه تجبرنا على عدم إفشائه. عن الحياة والموت وما بينهما من توافق وتنافر، ينقل لنا ألمودوبار في هذا الفيلم الشخصي الأخير تجربة الحياة نفسها وكأننا في صالة عرض كبرى نتأمل الشوارع المواجهة لنا وما يجري فيها. الحياة هي تلك الشوارع التي لم نمر بطرقها بعد..
انشرWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي
كاتب مصري
مهرجان أفلام السعودية يصدر أول كتاب عربي عن سينما ألمودوبار.
الأحد 2023/05/28
انشرWhatsAppTwitterFacebook
مخرج ابتكر أسلوبه من حياته
منذ انطلاقه في العام 2008 آمن مهرجان أفلام السعودية بدوره الأصيل في البناء الثقافي والمعرفي الموجه إلى العاملين في الحقل السينمائي العربي، فاهتم بمشروع المعرفة ودفع عجلة التأليف في كافة الحقول الخاصة بإنتاج الأفلام، وذلك من أجل الارتقاء بجميع مراحل الإنتاج السينمائي. وفي هذا السياق قدم مؤخرا كتابا مهما بعنوان “سينما بيدرو ألمودوبار”.
تبنى مهرجان أفلام السعودية، الذي تنظمه جمعية السينما بشراكة مع مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي “إثراء”، وبدعم من هيئة الأفلام، برنامجا دوريا لإنتاج الكتب بغية إخراج الإنتاج السينمائي من دائرة الكتابة غير الاحترافية، التي لا تقوم على أسس علمية صلبة، والارتقاء بها إلى مستوى المهنية وعمق الاختصاص، لتجاوز النقص الفادح في كتب المجال السينمائي.
انطلاقا من هذه الرؤية لإدارة مهرجان أفلام السعودية، كانت سلسلة الكتب التي أطلقت باكورتها أخيرا وصدرت عن دار جسور، ومن بينها كتاب الروائي والمترجم والناقد الأكاديمي العراقي المقيم بإسبانيا عبدالهادي سعدون “سينما بيدرو ألمودوبار”.
المخرج الإسباني الأشهر
الكتاب يقدم رؤية متكاملة عن المخرج في حياته الشخصية والفنية وخصوصية أعماله قارئا معالم وسمات هذه الأعمال
في كتابه “سينما بيدرو ألمودوبار” يقدم سعدون رؤية متكاملة عن المخرج السينمائي الإسباني بيدرو ألمودوبار، حياته الشخصية والفنية وخصوصية أعماله وقراءات لمعالم وسمات هذه الأعمال ولائحة كاشفة لتطور أفكاره ورؤاه. ويعد المؤلَّف أول كتاب عربي يكتب مباشرة عن سينما ألمودوبار، ولعله ينظر إليه كحجر أول في سلسلة كتب مستقبلية تتناول ألمودوبار أو غيره من مخرجي السينما الإسبانية التي تستحق كتبا ودراسات عديدة، لأثرهم ولأهمية ما يقدمونه من تجارب سينمائية ثرية.
يقول سعدون إن ألمودوبار (كالاترابا 1949) “مخرج أفلام وكاتب سيناريو ومنتج إسباني أثبت نفسه كمخرج متميز ومؤلف على الصعيدين الوطني والدولي في عالم السينما من خلال الحصول على العديد من الجوائز العالمية وشهادات التقدير طوال حياته المهنية. وعلى مر السنين، تمكن من ابتكار أسلوبه المميز في أغلب أفلامه الطويلة. ومع ذلك، فإن هذا الإخلاص الفني الخاص به يقسم الجمهور تماما إلى قسمين: أولئك الذين يحبونه وأولئك الذين يمقتون أفلامه ولا يطيقونها بل يعتبرونها هذرا وفنا مهلهلا لا ميزة به”.
ويضيف “يتضح ذلك من خلال كتابات كارلوس بوييرو (1953) كاتب عمود في صحيفة ‘إلباييس’ الإسبانية وأحد أهم نقاد السينما المؤثرين جماهيريا ونقديا، إذ مثلا يقول حول فيلم ‘كل شئ عن أمي’: ‘اعتقدت أن فيلمه هذا كوميدي مضحك يصور حيوانات ذات مناظر خلابة ومقنعة من الناحية الإستراتيجية، وفي أوقات معينة تكون تلك الأوقات نفسها مخيبة حتى في جانبها المضحك’. وعلى النقيض من ذلك ما قدمه الناقد السينمائي الإنجليزي فيليب فرينش (1933) في صحيفة ‘الغارديان’ وعن الفيلم نفسه ‘مضحك، حزين وسخي عاطفيا (…) كل المشاهد المنفذة ممتازة والفيلم مصمم بطريقة صحيحة محكمة’. من خلال ذكر هذين الرأين مثلا ما يجعل المخرج في معارك دائمة مع النقد ومؤسسات النقد والسينما في بلاده”.
ويضيف “لم يحظ مخرج سينمائي إسباني بأهمية كبرى مثلما حظي المخرج بيدرو ألمودوبار، وهو المعروف بالنطق العربي وفي وسائل الإعلام العربية باسم ‘بيدرو المظفر’ بتعريب اسم العائلة أو إرجاعه إلى أصول الكلمة العريقة التي بقيت عالقة في لغة ومجتمع الإسبان. ولكن الحقيقة أيضا أننا لو أرجعنا الاسم إلى عربيته فهناك أكثر من احتمال للفظ الاسم وهي: المظفر أو المدور أو المدبر، مما سيوقعنا في مطب آخر لا مجال لمناقشته هنا. لذا وجب التنبيه أننا وضعناه في العنوان وفي كل مكان يذكر فيه لقب المخرج الإسباني سيكون ألمودوبار وليس المظفر المعروف في وسائل الإعلام العربية”.
ولعل شهرته تفوق في أحيان كثيرة شهرة العبقري الأول في السينما الإسبانية والمعروف عالميا لويس بونويل (1900 – 1983) صاحب روائع السينما والعالمية مثل: “الكلب الأندلسي” (1929)، و”العصر الذهبي” (1930)، “ناثارين” (1958) أو “تريستانا” (1970)، وحتما أسماء أخرى تلته أو متوافقة زمنيا معه مثل: إدغار نبيليه (1899 – 1967) مخرج أفلام مثل “لا شيء”، “شارعي”، أو ماركيز سلامنكا، ولويس غارثيا برلانغا (1921 – 2010) مخرج أفلام شهيرة مثل: “مرحبا مستر مارشال”، “الجلاد” أو “البندقية الوطنية”، وكارلوس ساورا (1932 – 2023) مخرج أفلام مثل: “الصيد”، “أعراس الدم”، “كارمن” أو “فلامنكو”، وخوسيه لويس غارثي الحاصل على أوسكار أفضل فيلم أجنبي عن “عودة للبدء” 1982 أو فرناندو آريثي مخرج روائع السينما المعاصرة مثل: “روح الخلية” أو “الجنوب”. وصولا إلى الأسماء الجديدة المعروفة عالميا مثل أليخاندرو أمينابار أو إيزابيل كويشيت أو أنطونيو بايونا.
يؤكد سعدون أن ألمودوبار لم يخرج من معطف أي من هؤلاء المخرجين، بل صنع عالمه السينمائي المتفرد لوحده، من عوالمه وحكاياته الخاصة العائلية وغير العائلية، وكذلك من المؤثرات المحلية التي عاشها ويعيشها كل يوم سواء في مسقط رأسه في كاستيا لا مانتشا، أو في مدريد مدينته التي وصلها شابا وعاشها حرفيا في نهايات الحكم الفرانكوي وبدايات الحركة الثقافية والفنية المدريدية المعروفة باسم (لاموبيدا La Movida) والتي تسيدت عوالم الفن والأدب في الثمانينات.
كل عوالم المخرج السينمائية عبارة عن خلطة فنية خاصة قلما تجد لها شبيها في السينما الإسبانية والعالمية على حد سواء، بل إن ألمودوبار نفسه قد اعترف في أكثر من مناسبة أن التأثيرات القوية عليه أغلبها جاء من عوالم الموسيقى وفنون البوب آرت وروايات الغموض والتشويق. استطاع على مدى الأربعين عاما من العمل مع الأفلام الروائية الطويلة أن يخلق أسلوبا وملامح خاصة ومتفردة. أفلام بحكايات ميلودرامية متناغمة مع أسلوب باروكي مفعم بالألوان الصارخة والزخرفات المثيرة. الحياة بكل حذافيرها الظاهرة والخفية تتجسد في أفلامه بنفس تراجيكوميدي عموما، وطرح ذهني يقترب من الغموض والغوص في النفس البشرية ودواخلها المتنوعة.
ويرى سعدون أن ألمودوبار يعتبر المخرج الإسباني الذي حقق أكبر شهرة خارج بلاده في العصر الحديث، ومن أهم رموز السينما الإسبانية والأوروبية في نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الجديد. بعد نجاح أفلامه الأولى مع منتجين آخرين، قرر أن يؤسس شركة إنتاج باسم “الرغبة” (El Deseo) مع شقيقه أغوستين ألمودوبار، والاسم مأخوذ من عنوان أحد أفلامه الأولى التي حققت نجاحا شعبيا مهما.
وألمودوبار كما هو معروف قد فاز بأهم الجوائز السينمائية الإسبانية والأوروبية والعالمية، ومنها جائزة الأوسكار لمرتين، واحدة عن أفضل فيلم أجنبي “كل شئ عن أمي” (1999)، وأخرى لأفضل سيناريو سينمائي عن “تحدث معها” (2003). لكنه بدأ مشواره بصعوبة بعد أن زاول مهنا عديدة مثل الغناء والمسرح والكتابة لمجلات فنية، وعمل لفترة في مؤسسة البريد الوطنية حتى تركها كلها ليقوم بأول تجربة سينمائية عام 1980 وهي فيلمه الطويل الأول “بيبي لوسي بوم وبضع فتيات أخريات”، بعد أن جرب في السبعينات إخراج أفلام قصيرة متنوعة المواضيع والأهداف. بعدها لم يتوقف حتى اليوم من خلال أكثر من عشرين فيلما روائيا طويلا من بينها: “ماذا فعلت أنا حتى أستحق كل هذا” 1984، “نساء على حافة الانهيار العصبي” 1988، “كل شيء عن أمي” 1999، “تحدث معها” 2002، “عودة” 2006، “خولييتا” 2016، “ألم ومجد” 2019، والأخير “أمهات متوازيات” 2021.
سينما لها جنسها
كل عوالم المخرج السينمائية عبارة عن خلطة فنية خاصة لا تجد لها شبيها في السينما الإسبانية أو العالمية
يشير سعدون إلى أن وضع أفلام وعوالم ألمودوبار السينمائية ضمن تجنيس معين هو ميزة بحد ذاتها لدى المخرج الإسباني، على العكس من المخرجين الأوروبيين الآخرين الذين يهربون من محدودية التصنيفات والتجنيس لأفلامهم.
يعي ألمودوبار إطاره الخاص بشخصياته وتكويناته وحكاياته، بل يدرك تماما أن تجنيسه ضمن إطار السينما الخاصة الشعبية، إنما هو ميزة سعى إليها وركزها من خلال تلك التشكيلية المتداولة في كل أفلامه كنموذج فني مزيج من الفنون الشعبية والفلكلورية مع صورة مدينية واضحة المعالم لا يمكن أن يخطئ فيها أي مشاهد أو ناقد. هذه الملامح المتقابلة والمتنافرة لروحية ألمودوبار الإسبانية، إنما هي هويته الاجتماعية والمحلية التي ستحمله ليمثلها عالميا.
إن تاريخ ألمودوبار في عالم الكوميكس والغناء والمسارح والحركات الثقافية المهمشة، تضاف إليها المؤثرات الخاصة من السينما الأوروبية والأميركية، قد صنعت من أفلامه سينما لا تشبه سينما أخرى، بل هي فن قائم بذاته يستمد جذوره وتواصله واستمراريته مما عاشه ويحيطه حتى اللحظة. هذا التميز أو الخصوصية التي لم يدركها العديد من النقاد هي التي جعلت ألمودوبار يستمر في طريقه الخاص، حتى لو لم يجد القناعة لدى قطاع السينما ونقادها بشكل كبير. كل هذا لن يمنعه من البحث عن أشكال جديدة كلها تقع ضمن حيز ذائقته الفنية الخالصة.
ويضيف سعدون أنه بين فيلمي “كل شيء عن أمي” و”عودة” الأكثر تميزا وشهرة في مسيرة ألمودوبار، يقع الفيلم الفني المهم “تحدث معها” 2002، بمثابة تذكير بأهمية الحياة في أزمنة الموت المفاجئة وما تصاحبها من علاقات منقطعة ومنتهية. هنا في سيناريو هذا الفيلم سيلجأ المخرج إلى مستشارين في الطب لجعل الحبكة مقنعة وواقعية، لاسيما وأن حالات بشرية عديدة عرضة لذلك المصاب. وهذه الاستشارة لها في فيلمه المؤثر الآخر “الجلد الذي تعيش فيه” 2011. فالفيلمان يناقشان فكرة طبية خالصة، واحدة تتعلق بموضوع “الموت السريري” والأخرى بموضوع “التحول الجنسي”. طلب الاستشارات الطبية أو العملية الأخرى ليس شيئا جديدا في سينماه، بل إنه لجأ إليها في أكثر من مناسبة وإن كانت غير بارزة بروز جهده هنا في هذين الفيلمين.
سينما الكوميديا الفاضحة
سينما لا تشبه سينما أخرى
يلاحظ سعدون أنه بعد هذه العلامات المتميزة في السنوات الأخيرة لسينما ألمودوبار من خلال الموضوع والتناول والأثر، يرجع مجددا إلى سينما الكوميديا الفاضحة في فيلم “العشاق الطارئون أو المسافرون” 2013، وبينهما يراوح في مسألة العلاقات المتأزمة بين الأزواج والعشاق في فيلمين لم يصلا إلى النضوج الكافي أو الشهرة المعتادة في سينما ألمودوبار ونعني بها فيلميه “الأذرع المتكسرة” 2009 و”خولييتا” 2016. ومع ذلك يعتقد بيدرو أن الأساس في كل نتاج طويل مع السينما هو أن تبقى مع فكرة الواجد في عمل أو أكثر من مسيرة طويلة. هو لا يقتنع بالتأجيل الطويل لأي فكرة تلح عليه لكتابتها وإخراجها. لهذا يمكننا المرور بسرعة على أفلام بعينها والتوقف المطول عند أفلام أخرى.
ويلفت سعدون أنه في فيلم “ألم ومجد” تجربة كاملة تتحدث عنه وعما يشغله الآن وما شغله من ماض غادره للأبد ويطل بين حين وآخر لينكأ جراحه الدفينة. إن الفيلم كما يشير عنوانه يتحدث عن المجد والنجاح المهني إزاء الألم المستمر من الحياة. الفقدان والموت والذكريات الأخرى التي لا يمكن العودة إليها، أو الذكريات الماضية التي تعود وكأنها حلم أو كابوس حسب ما يمكن تصوره والنظر إليه. حياة مخرج السينما بعد المرض ومراجعته لتفاصيل حياته عبر ذكريات الأم الميتة والأكثر حضورا من الأحياء، السكرتيرة المتفانية، العشاق السابقون، عالم المخدرات والمرض والأطباء النفسيين.
الفيلم تجربة عميقة لفترة ما بعد مرض ألمودوبار. نوع من المراجعة الذاتية لعلاقته بالعالم والحياة والسينما. كل فرد مر بحياته ترك تجربة ما في روحه وجسده وذكرياته. كلها لا تعود إلينا إلا عندما نتواجه مع السؤال الحياتي الأكبر: وماذا بعد ذلك؟ الأكثر عمقا في الفيلم هو ذلك الإبهام والأسئلة التي لا نجد لها من إجابة وكأن الحياة تهدينا سرها وفي الوقت نفسه تجبرنا على عدم إفشائه. عن الحياة والموت وما بينهما من توافق وتنافر، ينقل لنا ألمودوبار في هذا الفيلم الشخصي الأخير تجربة الحياة نفسها وكأننا في صالة عرض كبرى نتأمل الشوارع المواجهة لنا وما يجري فيها. الحياة هي تلك الشوارع التي لم نمر بطرقها بعد..
انشرWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي
كاتب مصري