أنسي الحاج ويونس السيد يجتمعان افتراضيا على وليمة الانهيار الإنساني

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • أنسي الحاج ويونس السيد يجتمعان افتراضيا على وليمة الانهيار الإنساني

    أنسي الحاج ويونس السيد يجتمعان افتراضيا على وليمة الانهيار الإنساني


    ولائم ملتبسة تقوم بتنويعات بصرية هائلة وتصور فساد العالم.
    الجمعة 2023/06/02
    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    الحياة وليمة من المتناقضات

    متأثرا بديوان الشاعر اللبناني الراحل أنسي الحاج، يقدم الفنان التشكيلي يونس السيد قراءة بصرية لـ “الوليمة” الإنسانية التي عبر عنها الحاج في ديوان خاص رصد فيه تناقضات النفس البشرية المتأرجحة بين الخير والشر، لكنها وليمة تميل أكثر نحو الانهيار، تخاطب الآخر وتستفزه ليعيد قراءة الواقع، وهو ما تفعله لوحات السيد التي تضع متأملها أمام قراءة اجتماعية لحياته.

    الأشجار تُعرف من أوراقها وإبداع الفنان التشكيلي السوري يونس السيد يُدرك من جذوره ومن الماء الذي روى أواصرها. وإن كان الفنان ينشر تباعا على صفحة الفيسبوك الخاصة به أعماله التشكيلية الجديدة التي تتمحور أكثريتها الساحقة حول الموائد العامرة بأطباق الطعام المتنوعة تنوع الموائد وروادها وأصحابها، فإن المطبخ المُنتج لهذا التنوّع والمُلتحف بروائحه وعطور بهاراته النافذة قابع في سيرة الفنان الذاتية لاسيما تلك الممتدة من فترة دخوله إلى الجامعة لدراسة مادة الحقوق وصولا إلى ما بعد إصابته أثناء انتسابه للجيش السوري.

    سيرة قصيرة بعض الشيء، ولكنها مكثفة بشكل كبير خرج من مصهرها عالم الفنان يونس السيد الذي قدّم سابقا معرضين فرديين وشارك في معارض جماعية كثيرة. وهو اليوم يجعل من صفحته الخاصة على فيسبوك معرضا دائما لأعماله التي أنجزها منذ سنة 2021 حتى سنة 2023.

    في البداية أود أن أشير إلى أنني منذ اللحظة التي وقع فيها نظري على أعمال الفنان وجدت فيه أصداء كثيرة لما كتبه الشاعر اللبناني الرائد أنسي الحاج، لاسيما من ناحية إيغاله في استشراف انهيار الإنسانية بهدوء حكيم لا يفضح حقيقة هدوئه إلا وميض شفرة سكين في جنح ظلام غير دامس.

    التنويعات الهائلة التي يقدمها الفنان اللبناني في موضوع الوليمة ترقى إلى مستوى النقد الاجتماعي دون المباشرة

    حتى في لوحاته السابقة التي أنجزها بوحي من الحرب السورية والقهر الإنساني الذي رافقها والتي ظهرت فيها المرأة في لوحات تميزت أغلبيتها بحسية عالية وفي الآن ذاته بروحانية وسلطة باهرة برقة المرأة وقاسية بسلطتها، برزت في شعر أنسي الحاج الوجداني الذي يقرن المرأة بلحظات وبأبعاد وجودية عميقة غلبت عليها غنائية غير مفرطة بشكل حماها من أن تصبح غنائية غزلية تليق غالبا بمشاعر المراهقة الساذجة.

    ولعل أجمل ما في الأمر هو أنه بالرغم من الفارق الهائل بين تجربة الفنان البصرية ونص الشاعر حدث هذا التلاقي الإيحائي وأحيانا أيضا هذا الارتطام الرائع، إذا صح التعبير، بين النص البصري للفنان يونس السيد وشعر أنسي الحاج الغنيّ عن التعريف.

    لا أدرى إن كان الفنان هو من قرّاء شعر الحاج، ولكن أكاد أقول إن هذا الاحتكاك بين العالمين، على الأقل في ذهني، جعلني أرى أبعادا إضافية في شعر أنسي الحاج ومعاني جديدة في لوحات الفنان يونس السيد. ويحلو لي هنا أن أتخيل كم كان سيكون رائعا لو التقى الاثنان قبل غياب الشاعر.

    هما اليوم، أي الشاعر والفنان، في هذا المقال يلتقيان افتراضيا ليتأملا، كل بلغته الخاصة والاستثنائية، في وليمة الانهيار الإنساني التي تستشري الآن وتحدث عنها الشاعر وعبرّ عنها بصريا الفنان.


    ولائم الفنان السيد التي يطغى عليها الجانب المأساوي الملتبس تحيلنا إلى ديوان الشاعر أنسي الحاج المعنون بـ"الوليمة"


    صخب وهدوء ضجيج من المفردات المتقطعة وأخرى متداخلة في نسيج عضوي/أثيري حتى يكاد من المستحيل فصلها عن بعضها البعض.

    هذا بشكل عام، ولكن بالعودة إلى اللوحات التي يجسد فيها الفنان يونس السيد موائد متنوعة نجد أنها تبدو للمتأمل فيها أقرب إلى الولائم منها إلى الموائد، نظرا في البداية إلى الوفرة التي تتميز بها. وأنتقي من اللوحات ما يسيطر عليه الجانب المظلم من الأفكار، فالفنان يملك لوحات تجسد الموائد وتخف فيها النبرة المأساوية.

    وتحيلنا ولائم الفنان السيد التي يطغى عليها الجانب المأساوي الملتبس إلى ديوان الشاعر أنسي الحاج المعنون بـ”الوليمة” والذي، كما في أعمال الفنان، نعثر بين أشعاره على تجاور فاندماج بين الاجتماعي والوجداني بأسلوب مغرق في الشاعرية التي “تنفض نفضا”، إذا صح التعبير.

    التنويعات الهائلة التي يقدمها الفنان في موضوع الوليمة ترقى إلى مستوى النقد الاجتماعي دون المباشرة. وفي حين يغرف الشاعر مما يلاحظه من حوله ويستشرفه على حد السواء أشعارا تقف على حدّ حافة خطرة (ولذلك مؤثرة) ما بين نكْء الحقيقة والرغبة في إنكارها، يوغل الفنان التشكيلي في إغراق الموائد بما تتضمنه من تناقضات حتى ينبثق في نفس المتلقي الإعياء ويتمظهر الشره سيدا للموائد تلك التي تتشاركها مجموعة من البشر وكأنهم يمارسون طقسا سحريا مقيتا أو يأكلون من أجساد بعضهم البعض.

    وتلفت النظر لوحة أنجزها الفنان سنة 2021 هي في قمة الروعة التعبيرية، حيث صور رأس رجل (قد يكون هو) منحن إلى الخلف ليحطّ في قلب الصحن من ناحية، ومن ناحية ثانية ليكون المُحاط بهالة هي في هذه الحالة الصحن. وفي حين يعتصر شعر أنسي الحاج بالتناقض على أنه حالة “عادية” يتصف بها الواقع المُسجى على حجر الفناء، يعجن يونس السيد ألوانه بماء الورد والدماء المتخثرة، وبالعظام والحلوى الخطمية إلى حد الغثيان.


    أفكار سوداوية


    ولا يمكن المرور على تجربة الفنان التشكيلي يونس السيد والتركيز على لوحات “الولائم” دون ذكر مجموعتين بارزتين للفنان: المجموعة الأولى التي رسم فيها الألم الفج والخيبة السورية العامة التي كانت تشي بضياع منا في الأسلوب الفني، والمجموعة الثانية التي رسم فيها ملتحفين ببطائن كثيفة فيها من مشاهد المغاور الشيء الكثير ومن بواطن الأعضاء البشرية الداخلية القسط الوفير، وقد طعمها الفنان بورود وأزهار ونبات يحار المُتلقي في تحديد أصنافها ومنشئها. حضرت في هذه اللوحات نساء ورجال على حد السواء في حالة نوم تارة وأرق تارة أخرى.

    وسبق أن قال الفنان السيد “كنت سابقا أحاول أن أصبح فنانا أما اليوم فأريد أن أصبح فنانا”. وأضاف أنه يحاول بعد تجارب طويلة امتدت لثلاث سنوات أن يجد خطا معينا يستطيع أن يخرج ما في مكنوناته من أحاسيس ومشاعر يمر بها عبر خطوط وألوان معينة، وهذا ما وصل إليه اليوم في هذا الخليط المتطور مما اختبر واكتشف من تناقضات.

    الطعام في لوحاته هو تارة أجساد من يتحلقون حول المأدبة وتارة هو طعام غير قابل للأكل وهو أيضا في لوحات أخرى وليمة غير شهية أمام شخص واحد اختصره الفنان بيديه ليطلق على اللوحة عنوان “الأناني”.

    وقف الفنان يونس السيد أمام ولائمه الملتبسة التي تصور فساد العالم والجشع، تعج بالتناقض الذي يحيلنا إلى ما قاله الشاعر الكبير أنسي الحاج في إحدى صفحات “الوليمة ” ديوانه الشعري ” قهرا/قهرني زمن الدجالين/ ولكنه مقهور أيضا بحبي/هو الخاطف/ تاريخي/ وأرضي/ وأنا المالك مفاتيح الجنتين”.

    يُذكر أن الفنان ترك دراسته في كلية الحقوق بجامعة تشرين للالتحاق بالجيش ليتحول من مقاتل في صفوف الجيش السوري بعد إصابته في إحدى المعارك إلى فنان تشكيلي. أنجز أولى لوحاته في المستشفى أثناء فترة علاجه ثم عكف بعد ذلك على تطوير أسلوبه الفني حتى وصل إلى منجزه الفني الحالي. أول معرض له كان سنة 2017. له مشاركات في معارض جماعية منها “المرأة. الألم. النسيان”.


    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    ميموزا العراوي
    ناقدة لبنانية
يعمل...
X