بوجمعة لخضر ساحر البر ونورس البحر المطل على الأساطير
كتاب جماعي يرسم معالم تجربة الفنان المغربي المولع بالصويرة.
الأحد 2023/05/21
انشرWhatsAppTwitterFacebook
الرمزي مع العلاماتي والأسطوري مع الواقعي
بتنوعها الأمازيغي والعربي الإسلامي والمسيحي واليهودي تحفل مدينة الصويرة المغربية المطلة على الأطلسي بمزيج ثقافات مميز ساهم في تشكيل روح مختلفة لهذه المدينة عن نظيراتها، حتى إن جزأها القديم دخل في مواقع التراث العالمي سنة 2001. وقد عرفت المدينة الساحلية العديد من التجارب الفنية الراسخة في تاريخ المغرب لعل أبرزها الفنان التشكيلي بوجمعة لخضر.
أبدع بوجمعة لخضر (1940 – 1989) عجائبياته التشكيلية المفارقة للواقع، لكنه لم يبتعد عن الأشكال والرموز المغربية والأفريقية التي يستقيها من الزرابي والأوشام والحلي ونقوش الخزف والنقوش الصخرية، محولا إياها إلى علامات بصرية، علامات سيميائية مليئة بالدلالات القابلة للتأويل بطرق شتى.
وتتحد منحوتاته ولوحاته مع الفن الغرائبي الذي يضفي على المنجز لمسة سحرية، تجعله مشبعا بالأرواح الخفية، أرواح تسكن المتلقي حال النظر إليها. وهو ما يتراء إلى أبصارنا ونحن نتأمل تلك الكائنات العجيبة التي تعزف على آلات موسيقية محلية، أو تلك التي تتداخل في ما بينها داخل فضاء من الطلاسم، مما يجعل منجزاته تكتسي طابعا بدائيا، حيث يحول تلك الكائنات رموزا ليبسط سطوته عليها، ويسخرها خدمة لرؤاه الفنية.
نورس الفن المعاصر
يتبع لخضر إيقاعات ذاتية، مؤولا لكل ما رآه، ولكل ما راكمه من معارف متعلقة بالأسطوري والعجائبي المغربي والأفريقي، مبتدعا كونا تشكيليا تسبح فيه شخوصه وتتشابك فيه رموزه، صانعا بذلك أيقونات بصرية معاصرة، مدعاة للمتعة وذريعة لإعادة مساءلة العالم من خلال الكشف عن الغرائبي فيه. إنه يدعونا إلى إعادة رؤية المرئي من خلال اللا مرئي.
ساهمت مدينة الصويرة بكل ما تكتنزه من عوالم سحرية في إشباع موهبة بوجمعة لخضر بالدهشة، مما يجعل عمله طرحا فلسفيا تجاه العالم والذات، مستعملا الرموز كمعادلات تسعى لتحليله وتفكيكه، لكنه لا يتبع أي مباشرة، ولا يتغيا أي كشف.
الفنان يتبع إيقاعات ذاتية مؤولا لكل ما رآه ولكل ما راكمه من معارف متعلقة بالأسطوري والعجائبي المغربي والأفريقي
ورغم التأثر بالحرف والصناعة الديكوراتية، إذ “تشتهر مدينة الصويرة بصناعة الخشب، فهي تنتج كما كبيرا من المنتوجات التي تتطلب مهارات حرفية وفنية عالية، وقد تعلم لخضر مدير متحف الفن التقليدي بالمدينة هذه التقنيات وبرع فيها، وبات يبدع تحفا فنية خالصة تنأى عن الاستعمال اليومي”، فقد عمد الفنان إلى إحداث قطيعة بين الطابع الحرفي والمسعى الفني، رغم الطابع المعاصر الذي يكتسي تحفه، حيث إن الأول يرنو إلى الاشتغال على منجزاته في قطع متسلسلة ومتشابهة خاضعة لقانون الطلب والعرض، وأما الفنان فيبدع أعمالا فريدة صعبة الإعادة، ويبتعد أيضا عن التزيين، حيث إن أعماله قابلة للنقل والعرض.
يدمج بوجمعة لخضر الآدمي مع الحيواني، والرمزي مع العلاماتي، والأسطوري مع الواقعي، في دينامية إبداعية تتبع منهجية خيالية تكسر كل آفاق الانتظار، لأنها نتاج لا المتوقع والسحري. فيجعلنا ننظر إلى ذواتنا من خلال تركيبات صادمة، ويجعلنا نعيد مساءلة الواقع من خلال كل ذلك الغموض الذي يكتسي منجزه.
لهذا يأتي كتاب “بوجمعة لخضر.. نورس الفن المعاصر بالمغرب”، بتنسيق وتقديم من الباحث حسن لغدش، (2022)، بشقيه العربي والفرنسي، ليلامس عوالم هذا “الساحر”. حيث تناولت أقلام نقدية مختلف أوجه الاشتغال الفني في تجربة هذا “النورس الصويري”. وكم نحن اليوم في أمس الحاجة إلى مثل هذه الكتب النقدية والتعريفية للتأريخ لتجاربنا الفنية بالمغرب.
الصويرة المهد والمدرسة
نقاد ومتدخلون يتطرقون عبر مختلف الدراسات والفصول إلى مجمل مسالك الاشتغال الفني التي انتهجها هذا الفنان
يتفق كل النقاد والباحثين المغاربة على أن مدينة الصويرة، بطابعها السحري، تعد مدينة الفن بامتياز، مدينة ضاجة بالفنانين العصاميين الذين اختاروا التعبير عن ذواتهم بروح عفوية لا تصطنع شيئا ولا تقليد ولا محاكاة فيها. وإنها المدينة المهد لمجموعة من الفنانين، وبوجمعة لخضر واحد من أعلامها المعاصرين.
تجد المدينة لاسمها جذرا فنيا، “الصويرة تصغير للصورة”، إذ يخبرنا الناقد حسن لغدش، في مطلع الكتاب، بأنه في سنة 1776، وبموجب قرار سیاسي تحولت “موغادور”، بالنسبة للناطقین بالعربیة فقط، إلى “سویرة” أي تصغیر لكلمة “سور”، وربما كان لا بد من نسج أسطورة الصورة الصغیرة التي اشتهرت بها المدینة: ربما كانت الصویرة كلمة مشتقة من “صورة”. یفترض أنه عند بناء المدینة عُرضت على السلطان صورة صغیرة، مما قد یدل على أن المدینة كانت أول مدینة مغربیة، مند عهد الرومان، كان لها تصمیم حضري سابق على تنفیذ بنائها.
بالتالي، لا تخلو قصص الصويرة تاريخيا وحضاريا وفنيا من الأسطرة، لكل أسطورته يرويها عن هذه المدينة الفنية التي تطل على الأطلسي، هذا المحيط الذي ظل عصيا بكل ما حمله من قصص عن كائناته التي تسكن الظلمات، كائنات عجيبة وغريبة وموحشة تلتهم السفن ومن عليها. وللبحر علاقة وطيدة مع بوجمعة لخضر، حيث نقف إزاء تصاوير وإحالات متعددة عليه، ولنتأمل لوحته الأخيرة (زيت على قماش، 1989) التي تجسد طائر البحر الأسطوري – الحقيقي، ذلك النور العملاق الذي يحمل في بطنه حوتا ملتهما سمكة، بينما تغير جناحاه إلى جناحي طاووس، وهو يحمل في منقاره “شمسي العلامات والرموز السحرية”.
مدينة الصويرة الساحلية، مدينة العصاميين الذين وهبوا أرواحهم للمحيط والفن، وبوجمعة لخضر بدوره عصامي، قد أنجز أعمالا، إذ يؤكد لغدش، تتأسس حول حركة الروح وعلى خطى نيتشه، دافع عن الفكرة التي تقول “لدينا الفن لكي لا نموت جراء الحقيقة” (ص. 15). لهذا يتبع هذا الفنان مسالك الأسطورة لينحت الحقيقة من أوجه مختلفة.
الخيالي والألوهي
الاستفادة من الحرف التقليدية
على امتداد صفحات الكتاب، (158 صفحة)، تناولت أقلام نقدية وفنية وباحثة، التجربة الفنية لبوجمعة الخضر، من مختلف الجوانب والأبعاد، باللغتين العربية والفرنسية، متفقة على “الهالة” التي تتلبس منجزاته، والتي تهدف إلى العمل في المستوى الذهني، وعلى الأفكار التي تعد ثمارا لها، متضمنة للقيم الميتافيزيقية. كما يخبرنا دانييل كوتوريه (ص 15/ الشق الفرنسي)، في نصه التحليلي.
بالإضافة إلى هذا البعد الميتافيزيقي، فأعمال لخضر تغدو آثارا أنثروبولوجية وإثنولوجية، على “اعتبار أن العمل الفني هو مصغر للكون، نموذج أو إشارة لعالم ينظر إليه من خلفية فهم كلي”. ويتجلى البعد الأنثروبولوجي أيضا، من خلال ذلك “الشطح” أو “التجلي” الذي يدخل فيه لخضر خلال عملية الإبداع، نوع من “الحال” بالتعبير المغربي، أو بتعبير آخر “لبوس فني”. فهذه الحاجة الداخلية إلى الحديث عن العالم والتواصل مع اللا مرئي تمر بالضرورة من خلال حالة النشوة هذه التي نسميها هنا “الحال”، يخبرنا محمد بن الصغير، وهي بحث صوفي عن الألوهية، المنقولة في نقاء الأشكال (ص 33/ الشق الفرنسي).
ولأنه لا يكتمل البحث الصوفي عن الألوهية، دونما التقرب من الله، والسعي إلى الاتحاد مع صفاته التي تعتري الكون، كما يرى الصوفية، أو كما يرى أندري مالرو، أن كل عمل فني عظيم ينتج عن الدين ويعبر عن رؤية للعالم مماثلة للدين وموازية له، وخاصة الأعمال ذات النزعة البدائية primitivisme وهذا ما نلمسه في لوحة “الصويرة”، التي رسمها في سبعينات القرن الماضي.
يصف الناقد إبراهيم الحيسن في نصه النقدي لوحة “الصويرة”، قائلا “تندرج هذه اللوحة التي نفذها المبدع التشكیلي المغربي الراحل لخضر ضمن التشخیصیة الهندسیة التي تقوم على بلاغة الرموز والإیحاءات الأیقونیة، في إنتاج المعنى وبناء الفكرة عمق هذه اللوحة المصوغة بلغة صباغیة مسطحة تتعایش الكثیر من المخلوقات والكائنات الحیة وتتصارع من أجل التقرب إلى الله والظفر برحمته ورضاه. ففيها نلحظ أیضا عناصر ومفردات تعبیریة ذات مرجعیة دینیة كالمعمار الإسلامي بجمالیته الروحیة والمادیة، حیث الأعمدة والحوامل والأقواس البهیة والصومعة والمنارة واللوح الخشبي السند التعلیمي التقلیدي بالكتاتیب القرآنیة والمیزان رمز العدالة والمساواة، فضلا عن الحیة كرمز تاریخي للداء والدواء.. والعقاب أیضا”.
ويتجلى البعد الألوهي هذا، بالإضافة إلى الطابع الإسلامي والديني في منجزه، من خلال الاشتغال على الحرف، بزخرفیته التلقائیة واحتفالیته اللونیة، ثم دلالته اللاهوتیة التي تتخذ شكلا ترویضیا یأخذ مواقع إنسانیة بحركیة متمكنة من أسرار شكل هذا الحرف، علما أن مرحلة إنجاز هذا العمل تتقاطع لا شعوریا وبدون سابق معرفة بمرحلة حركة البعد الواحد: بالعراق. يخبرنا الفنان والناقد شفيق الزكاري.
الإقامة في العلامات المعاصرة
طرح فلسفي تجاه العالم والذات
يمكن وصف بوجمعة لخضر بأنه “فنان العلامات” بامتياز، التي يوظفها لصالح التعبير عن رؤاه وأيضا بوصفها ذريعة لإظهار المضمر في العالم من خلال المنجز، لوحة كان أو منحوتة، هذه الأخيرة التي تتحول عنده إلى منشأة فنية معاصرة (installation) منشأة من الصورة المشخصة الغرائبية والرموز والعلامات، التي تسافر عبر الزمن في لحظة انتشاء تنتقل معه من نظام سیمیائي إلى آخر.
الفنان بوجمعة لخضر یختزل بأعماله تجربة الفن المغربي المعاصر بكل تجلیاته، يؤكد حسن لغدش. والفعل الفني لدیه یتأسس على استنطاق الذات واستبطان خبایاها كي یكون تركیب اللوحة مشحونا بطابع روحاني یهرب من توحش الواقع، والانسیاق نحو ما یسمو بالذات، وذلك، كما يضيف محمد اشويكة في مقاله التفكيكي، ما یرفع من وثیرة التركیب والتعقید في لوحاته عموما، وفي هاته اللوحة خصوصا، والارتماء في تكثیف العناصر التي تضمن الانسجام والوضوح، ودمج التفاصیل ضمن الكل. وهي عملیات فنیة وذهنیة تقود الحفر نحو التضاعف، وتجسیر النسیج الرمزي للوحة، والحفز على المیل التوسعي في خبایا جموح اللون والشكل لدى الإنسان.
لقد نجح الكتاب في رصد المعالم الجمالية التي تمتاز بها تجربة الراحل بوجمعة لخضر، إذ تطرق النقاد والمتدخلون (فنانون وباحثون)، عبر مختلف الدراسات والفصول، إلى مجمل مسالك الاشتغال الفني التي انتهجها هذا الفنان النور المحلق عاليا فوق محيط الصويرة، المطل على أساطير ما زالت حية.
لقد أدرك لخضر جیدا، كما يؤكد الناقد عبدالله الشيخ، أن الإقامة على حال واحد لا یعول علیها عند أكابر الرجال كما ورد في رسائل الشیخ الأكبر بن عربي، كذلك شأن التجلي المتكرر في الصورة الواحدة. إنه نموذج المبدع الرحال الذي یؤمن بحقائق متعددة لا یمكن اختزالها في منظومة موحدة، فالمتن التشكیلي لدى الفنان (جداریات، منشآت، صفائح نحاسیة، عربسات، مطرزات، أشیاء غرائبیة…) متعدد ومتنوع، تعدد وتنوع ثقافته التشكیلیة والعلمیة على حدة، إذ لا یمكن مقاربة عالمه البصري إلا باعتماد طریقة بحثه شكلا ومضمونا ورؤیة. یرفض الفنان مبدأ المطابقة، ویخلخل معیاري الهویة وعدم التناقض، حریص على أن یعیش على الفروق والاختلاف. فهو دائم الترحال والتنقل من متخیل إلى آخر، منصتا جیدا لحال بن عربي “لا یصح الثبوت على أمر واحد في الوجود”.
لقد نجح الكتاب والكُتاب في رسم تفاصيل تجربة فنان كان منشغلا دائما بالسحري والعجائبي والغرائبي، إذ جعل بوجمعة لخضر من منجزاته حكايات سحرية، لكل منجز قصة يحكيها بكل ما تحمله من أساطير ومرويات ميتافيزيقية، لكن سعيها المشترك هو مقاربة الواقع بالكشف عن الخفي فيه.