ما هي الشيخوخة؟ يمكن النظر للشيخوخة في كل من البشر والحيوانات على أنها عملية حتمية من التلف ولا مفر منها، بمثابة برنامج بيولوجي متأصل يحدد به عمر كل نوع حي بشكل مسبق، وقد أظهرت الأبحاث التي أجريت مؤخراً أن مثيلة (إضافة مجموعة الميثيل) الحمض النووي منقوص الأكسجين DNA (وهو تعديل وراثي يغير من الطريقة التي يتم وفقها قراءة الDNA والتعبير عنه دون تغيير التتابع الأساسي له)، يمكن أن تظهر التغيرات المرتبطة بالعمر.
وهنالك مجموعة فرعية دقيقة جدًّا من هذه التعديلات يمكنها التنبؤ بالعمر الزمني للبشر بنسبة +/- 3,6 سنة بواسطة أي نسيج أو سائل من الجسم (Horvath S. 2013)، وهذا أفضل مؤشر حيوي توصل إليه الباحثون حتى الآن لتحديد العمر، ويشار إليه بالساعة البيولوجية، ومن المثير للاهتمام أن تحليل مثيلة الحمض النووي ممكن أن توفر أيضًا معلومات عن العمر البيولوجي للكائن، وهو عبارة عن مقياس لمدى جودة وصحة وظائف الجسم مقارنة بالعمر الزمني المحدد له، فعلى سبيل المثال البشر الذين يعانون من التهاب الكبد الشحمي أو ما يعرف بتشحم الكبد (FLD) يمتلكون ساعة تعمل بشكل أسرع من المعمرين الذين بلغوا من العمر مئة عام.
ولكن كيف تعمل هذه الساعة الجينية؟ وهل من الممكن تغيير معدل دقاتها وسيرها؟
لقد حدد الباحثون في معهد بابراهام (Babraham) والمعهد الأوروبي للتكنولوجيا الحيوية الساعة الجينية عند الفئران، وهذا العمل الذي نشر حديثًا في بيولوجيا الجينوم (المجين) يوضح بأن التغيرات الحاصلة في مثيلة الDNA في 329 موقعًا في الجينوم قد تنبأت بعمر الفئران بدقة وصلت نسبتها إلى +/- 3,3 أسبوع، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن البشر يعيشون بشكل تقريبي ليبلغوا ال85 عامًا وأن الفئران تعيش لتبلغ 3 سنوات، فإن دقة الساعات الجينية عند الفئران والبشر(أفضل بنسبة 5%) متشابهة بشكل مثير للدهشة.
باستخدام نموذج الفأر، أظهر الباحثون أيضًا بأن التدخلات في أنماط الحياة المعتادة قد ساهمت في تقصير دورة الحياة وبالتالي زيادة سرعة الساعة، فعلى سبيل المثال إن إزالة المبايض في إناث الفئران قد ساهمت في زيادة سرعت الساعة وهذا ما لوحظ عند وصول النساء إلى سن انقطاع الطمث حيث ازدادت سرعتها لديهن أيضًا.
ومن المثير للاهتمام أن اتباع نظام غذائي غني بالدهون والذي نعلم مسبقًا بضرره بالصحة قد سرّع من معدل سير ساعة الشيخوخة، ومن الجدير بالذكر استطاعة الباحثين تحديد وكشف التغيرات التي طرأت على الساعة الجينية في وقت مبكر بلغ 9 أسابيع من العمر، آخذين بعين الاعتبار أن عمر الفأرة قد يصل وبكل سهولة إلى ثلاث سنوات، وهذا يمثل انخفاضًا هائلًا في كل من الوقت والتكلفة التي يعتقد الباحثون بأنها ستسرع الاكتشافات المستقبلية في مجال أبحاث الشيخوخة.
وقد قال توم ستابس طالب الدكتوراه في مجموعة ريك في معهد بابراهام والمؤلف الرئيسي للمقالة: >>لقد كان التعرف على ساعة الشيخوخة الجينية البشرية إنجازًا كبيرًا في مجال أبحاث الشيخوخة، ومع ذلك فقد أضافت هذه النتيجة العديد من الأسئلة الجديدة مثل كيفية المحافظة عليها ووظيفتها وآلية عملها، ويعد اكتشافنا لساعة الشيخوخة الجينية عند الفئران مثيرًا لأنه يشير إلى أن هذه الساعة قد تكون ميزة أساسية لحفظ الثدييات من الشيخوخة، والأهم من ذلك لقد أظهرنا أنه يمكننا تحديد التبدلات في معدل توقيت الساعة استجابةً للتغيرات التي تصيب مثلًا النظام الغذائي وبالتالي سنكون قادرين في المستقبل على تحديد وظيفة وآلية عمل الساعة الجينية واستخدامها لتحسين صحة البشر<<.
ويضيف الدكتور مارك جون بوندر باحث في مرحلة ما بعد الدكتوراه في المعهد الأوروبي للتكنولوجيا الحيوية: >>تشريح الساعة الجينية للشيخوخة عند الفئران ستسفر عن رؤية قيمة في عملية الشيخوخة وكيفية التلاعب بها وتعديلها في تهيئة الانسان لتحسين صحته<<.
وبإجراء المزيد من الدراسات سوف يصبح العلماء قادرين على فهم الآلية الداخلية لعمل هذه الساعة (على سبيل المثال استخدام المعلومات حول الأنزيمات التي تساهم في تنظيم مثيلة الحمض النووي في الجينوم) وتغيير معدل سيرها في نموذج الفأر، وهذا سيبين إذا ما كانت هذه الساعة تساهم بشكل رسمي في عملية الشيخوخة، أو إذا ما كانت مجرد قراءة للعمليات الفيزيولوجية الأساسية، وسوف تقترح هذه الدراسات أيضًا نهجًا لتعيد الساعة للوراء من أجل تجديد الأنسجة أو حتى الكائن الحي بكامله.
وقد قال البروفسور وولف ريك رئيس برنامج علم الوراثة في معهد بابراهام: >>إنه لأمر رائع أن نتصور كيف يمكن بناء هذه الساعة من المكونات الجزيئية التي نعرف الكثير عنها (آلية مثيلة الحمض النووي)، ثم يمكننا إجراء تغييرات دقيقة في هذه المكونات ومعرفة ما إذا كانت الفئران الموجودة لدينا تعيش لمدة أقصر، أو بشكل مثير للاهتمام لمدة أطول، وقد توفر مثل هذه الدراسات رؤى أعمق لعملية الشيخوخة، وما إذا كانت دورة الحياة في الأنواع الحية مبرمجة بطريقة ما<<.
وقد تم تمويل هذا البحث من خلال المنح المقدمة إلى البروفيسور ولف ريك من قبل مجلس التكنولوجيا الحيوية والبحوث البيولوجية (BBSRC)، وأمانة (Wellcome) وشبكتي علوم الوراثة و(BLUEPRINT) في الاتحاد الأوروبي للتميز.