اسبينوزا (باروخ دي)
Spinoza (Baruch de-) - Spinoza (Baruch de-)
اسبينوزا ( باروخ دي ـ)
(1632 ـ 1677)
باروخ دي اسبينوزا Baruch De Spinoza فيلسوف هولندي، من أسرة يهودية أندلسية، هاجرت بعد استيلاء الملوك الكاثوليكيين سنة 1492 على غرناطة، وصدور مرسوم الملك فرديناند بطرد اليهود منها، وملاحقة محاكم التفتيش لهم. فكان آخر عهدهم بالتسامح الذي نعموا به في ظل العرب مدة قرون.
تلقى تعليمه الأولي في مدرسة عبرية، ثم انتقل إلى المدرسة الإكليركية في بيريرا. وأشرف والده على تعليمه فأتقن لغات عديدة منها الإسبانية والبرتغالية والعبرية. كما ألم بالثقافة الغربية السائدة القائمة على العناية بالتراث القديم (اليوناني واللاتيني المسيحي). ودرس الرياضيات والطبيعيات وشيئاً من مبادئ الطب.
ثم انتقل إلى دراسة كوبيرنيك وغاليلو وكبلر وهارفي وديكارت وجيوردانو برونو، مما جعله يبتعد عن اليهودية. وحاول اليهود رده إلى حظيرة الدين، لكنه آثر حرية الفكر. فزاد السخط عليه. وفي أحد الأيام طعنه أحد المتعصبين بخنجر، فلم يتجاوز نصل الخنجر ثوبه. ولما توفي والده سنة 1654 اضطر اسبينوزا إلى الدخول في نزاع قانوني حول ميراثه مع أخته غير الشقيقة. وكان همه الإثبات القانوني لحقه. وذلك أنه عندما ربح القضية أمام القضاء تنازل عن الميراث لأخته!
هاجمه رجال الدين مجدداً وقضوا عليه بالحرمان الديني سنة 1656. ثم نفي إلى ضواحي أمستردام. وكان يكسب عيشه من صقل البلور وإصلاح المناظير المقربة. وألف في هذه الأثناء كتابه «رسالة موجزة في الله والإنسان وسعادته». ولما سافر إلى رينسبورغ شرع في تأليف «رسالة في إصلاح العقل». ونزولاً عند رغبة أصدقائه بالإدلاء برأيه في بعض مسائل فلسفة ديكارت ألف كتابه «مبادئ فلسفة رينيه ديكارت».
كانت الغاية التي كان يسعى إليها اسبينوزا من وراء تفلسفه الكشف عن حياة الإنسان ومكانه في العالم، وما يستتبع ذلك من كشف طبيعة العالم. لكن اسبينوزا وجد أن تحقيق ذلك يحتاج إلى تحصيل معرفة صحيحة عن الإنسان والعالم، وهذا لا يمكن أن يحدث من دون ذهن يتمتع بالفهم الصحيح الذي يجنبه الخطأ.
وهكذا شعر اسبينوزا، منذ بدء حياته الفكرية بضرورة المنهج هادياً له في تحقيق غايته. ولم يكن عليه أن يبحث طويلاً، فقد وجده عند ديكارت، ولكنه لم يأخذه بأكمله بل حذف مقدمته في الشك، واكتفى منه بالأفكار الواضحة، وأخذ يطبقه في كل مجال، حتى تلك المجالات التي استثناها ديكارت.
ويمكن إعطاء لمحة موجزة عن فلسفته، من خلال ثلاثة كتب تعد رئيسة فيها، وهي: «رسالة في إصلاح العقل» و«الأخلاق»، و«رسالة في اللاهوت والسياسة».
أما في رسالة إصلاح العقل، فيرى اسبينوزا أن للمعرفة درجات ليست كلها على مستوى واحد من اليقين. ففي أدنى الدرجات توجد معرفة استقرائية، يحصلها الفكر من إدراك الجزئيات بطريق الحواس، وهي معرفة مهلهلة لا ترقى إلى اليقين. وتليها في درجة أعلى معرفة استنتاجية تستخلص حالة جزئية من حالة كلية، وهي وإن كانت يقينية، غير أنها لا ترابط بين أجزائها. ثم تليها في أعلى الدرجات معرفة عقلية حدسية، تدرك ماهية الشيء، أو علته القريبة إدراكاً كلياً خاطفاً، وتدرك معها كل ما يترتب عليها، ولهذا كانت يقينية، لأن موضوعاتها أفكار واضحة ومحددة. وقد وجد أن هذا النوع من المعرفة هو الذي عليه أن يأخذ به في بناء صرح فلسفته.
وأما في كتاب الأخلاق، فيتطرق اسبينوزا إلى ثلاثة موضوعات يعتقد أنها مترابطة ترابطاً ضرورياً وهي: الميتافيزيقا والنفس والأخلاق. فهو يبدأ الكلام على الجوهر ويرى أنه واحد، وأنه يبدو طبيعة طابعة في الله، وطبيعة مطبوعة في العالم؛ فالله والعالم واحد، ثم ينتقل إلى الكلام على الإنسان؛ ويرى أنه حال من أحوال الجوهر؛ فالإنسان، بما هو جسم، حال من أحوا ل الامتداد؛ وبما هو نفس، حال من أحوال الفكر. ويدرسه في انفعالاته وإرادته. ويرى أنه خاضع للضرورة السببية. فلا هو يضع غايات أفعاله، ولا هو حر في تنفيذها. فالحرية التي يشعر بها خداع؛ لأنه لو وعى حقيقته لأدرك أنه محكوم بضرورة كلية. وهذا يعني، أن أخلاقه أخلاق ضرورة، وأنها تابعة للضرورة السارية في أجزاء العالم كلها؛ وأن حكمته تتطلب منه أن يراعي هذه الضرورة، التي فيها خلاصه في نهاية المطاف.
وأما الرسالة في اللاهوت والسياسة، ففيها مزيج من نقد التوراة نقداً فلسفياً وفي النظرية السياسية، وفيها يقوم اسبينوزا بثورة في التفكير الديني والسياسي، أراد بها أن يدخل نور العقل إلى هذين المجالين، وأن يضع حداً يفصل به البدع الإنسانية عن التعاليم الإلهية: فقد أراد ـ وفقاً لقاعدة ديكارت ـ ألا يقبل فيهما شيئاً على أنه حق ما لم يكن كذلك.
وهذا ما دفعه إلى أن يرى أن فكرة النبوة ليست واضحة ولا محددة، وأن ما يأتي به النبي هو وليد الخيال، أكثر منه وليد العقل، وإن ما خالف العقل باطل. وحين طبق معيار الأفكار الواضحة في مجال السياسة أيضاً؛ رأى أنها تقوم على فكرة الحق الطبيعي، وهي فكرة واضحة ومحددة. وهي أن كل فرد له الحق في أن يحيا وفق طبيعته ، سواء أكان جاهلاً أم حكيماً، وهذا لا يوفره إلا النظام الديمقراطي، الذي يوافق العقل والطبيعة.
وبهذا نسف اسبينوزا ثنائيات الدين وثنائيات الديكارتية: فألغى تعدد الجواهر وثنائية الله والعالم. فالعالم لا وجود له إلا في الله وبالله. وألغى ثنائية الوحي والعقل؛ فلا علامة على الحقيقة غير موافقتها للعقل. وألغى ثنائية الميكانيكية الطبيعية وحرية الإرادة؛ ووحد بين العقل والإرادة، فرأى أن الضرورة كلية، وهي تهيمن على ظواهر العالم المادي والأفعال الإرادية.
وأكد اسبينوزا أن معرفة الطبيعة يجب أن تكون عقلية؛ وحتى تكون كذلك، لا بد من تصور جوهر حقيقي يكون العلة الكلية لكل المعلولات الطبيعية الناتجة عنها، مثلما تكون الدائرة علّة خصائصها كلها.
هذا الجوهر الواحد غير المتناهي هو الله، وإذا كان واحداً ، لم يكن هناك جوهر آخر أحدثه، وهذا يعني أنه علة ذاته.
وينتهي اسبينوزا إلى أن الو جود الحقيقي هو الجوهر الذي لا نهاية له، وأن المتناهي سلب له: فتمايز بين الأجسام ليس حقيقياً؛ فهي كلها أحوال للامتداد. لكن التمايز ناشئ عن الحركة، وهي حال للامتداد: فهي التي تجزيء الامتداد إلى أجزاء تجعلها أجساماً. بيد أن كمية الحركة ثابتة في الطبيعة، وتتصف بالصفة ذاتها التي يتصف بها الامتداد، وهي صفة السرمدية: إنها تعبير عما هو ثابت وراء التغيرات المختلفة التي تطرأ على الطبيعة.
وعلى صعيد الميتافيزيقة والأخلاق: يدرس اسبينوزا الإنسان كما تُدرس الهندسة. يقول: «سأنظر إلى الأفعال الإنسانية كما أنظر إلى الخطوط أو السطوح أو الأجسام». وهو يقصد بذلك العقل الإنساني، الذي يريد معاملته معاملة الجسم؛ من حيث تفاعله مع الأجسام الأخرى التي تتحدد حركته بها. فكما هو شأن الجسم، يخضع العقل لسببية الفعل والانفعال، فيكون الحادث العقلي السابق علة الحادث العقلي اللاحق.
والإنسان مؤلف من حالين: جسد ونفس، والأول هو حال للامتداد؛ والثاني هو حال للفكر. لكن النفس هي فكرة الجسد الموجود بالفعل، فهي تبدأ منه وتنتهي إليه؛ لكن علتها خارجة عنها تلتمس في أحوال الفكر؛ وكذلك هو أمر الجسد، فعلته خارجة عنه، وهي تلتمس في أحوال الامتداد. بيد أن أحوال النفس تطابق أحوال الجسد.
يقيم اسبينوزا الأخلاق على الميتافيزيقة، جاعلاً علم النفس وسيطاً بينهما: إنه ينتقل من تحليلاته للجوهر الإلهي، إلى تحليلاته للإنسان الذي هو حال من أحواله. ولهذا نجد كل شيء عنده تحكمه الضرورة المنطقية المطلقة. فليس هناك إرادة حرة في عالم النفس، ولا مصادفة طارئة في عالم الطبيعة. إن كل ما يحدث تجلٍ لطبيعة الله، ومن الخلط المنطقي أن تجري الحوادث خلافاً لطبيعته. ولكن أين يكون الخير عندئذٍ؟ وهل كل ما يصدر عن الله خير؟ وماذا نقول عن الشرور التي نصادفها في حياتنا؟ يرى اسبينوزا أن الجانب الإيجابي في أفعالنا وحده خير، وأن الجانب السلبي وحده شر. لكن السلب ليس من صفات الجوهر، وإنما هو تابع لوجهة نظر الكائنات المتناهية، وهي كائنات غير كاملة، فالكامل الوحيد هو الله، وهو خير كله. لهذا كانت الأفعال الآثمة لا وجود لها فيه، حينما يُنظر إليها على أنها أجزاء من طبيعته الكلية. ومن هنا كان الإنسان الحر، ذو الأفكار الواضحة، هو الذي يرى الخير فيما يتجاوز مقدرته على الفعل، وكان الإنسان السلبي ذو الأفكار الغامضة هو الذي يعد الخير مرتبطاً بتحقيق رغباته. وهذا يجعل الإنسان الخير هو الذي يطلب الخير للآخرين، ويسعى إلى أن يكونوا أحراراً مثله، فلا يعاملهم بالكراهية والنفور، لأن مثل هذه المعاملة لا يجدي.
Spinoza (Baruch de-) - Spinoza (Baruch de-)
اسبينوزا ( باروخ دي ـ)
(1632 ـ 1677)
باروخ دي اسبينوزا Baruch De Spinoza فيلسوف هولندي، من أسرة يهودية أندلسية، هاجرت بعد استيلاء الملوك الكاثوليكيين سنة 1492 على غرناطة، وصدور مرسوم الملك فرديناند بطرد اليهود منها، وملاحقة محاكم التفتيش لهم. فكان آخر عهدهم بالتسامح الذي نعموا به في ظل العرب مدة قرون.
تلقى تعليمه الأولي في مدرسة عبرية، ثم انتقل إلى المدرسة الإكليركية في بيريرا. وأشرف والده على تعليمه فأتقن لغات عديدة منها الإسبانية والبرتغالية والعبرية. كما ألم بالثقافة الغربية السائدة القائمة على العناية بالتراث القديم (اليوناني واللاتيني المسيحي). ودرس الرياضيات والطبيعيات وشيئاً من مبادئ الطب.
ثم انتقل إلى دراسة كوبيرنيك وغاليلو وكبلر وهارفي وديكارت وجيوردانو برونو، مما جعله يبتعد عن اليهودية. وحاول اليهود رده إلى حظيرة الدين، لكنه آثر حرية الفكر. فزاد السخط عليه. وفي أحد الأيام طعنه أحد المتعصبين بخنجر، فلم يتجاوز نصل الخنجر ثوبه. ولما توفي والده سنة 1654 اضطر اسبينوزا إلى الدخول في نزاع قانوني حول ميراثه مع أخته غير الشقيقة. وكان همه الإثبات القانوني لحقه. وذلك أنه عندما ربح القضية أمام القضاء تنازل عن الميراث لأخته!
هاجمه رجال الدين مجدداً وقضوا عليه بالحرمان الديني سنة 1656. ثم نفي إلى ضواحي أمستردام. وكان يكسب عيشه من صقل البلور وإصلاح المناظير المقربة. وألف في هذه الأثناء كتابه «رسالة موجزة في الله والإنسان وسعادته». ولما سافر إلى رينسبورغ شرع في تأليف «رسالة في إصلاح العقل». ونزولاً عند رغبة أصدقائه بالإدلاء برأيه في بعض مسائل فلسفة ديكارت ألف كتابه «مبادئ فلسفة رينيه ديكارت».
كانت الغاية التي كان يسعى إليها اسبينوزا من وراء تفلسفه الكشف عن حياة الإنسان ومكانه في العالم، وما يستتبع ذلك من كشف طبيعة العالم. لكن اسبينوزا وجد أن تحقيق ذلك يحتاج إلى تحصيل معرفة صحيحة عن الإنسان والعالم، وهذا لا يمكن أن يحدث من دون ذهن يتمتع بالفهم الصحيح الذي يجنبه الخطأ.
وهكذا شعر اسبينوزا، منذ بدء حياته الفكرية بضرورة المنهج هادياً له في تحقيق غايته. ولم يكن عليه أن يبحث طويلاً، فقد وجده عند ديكارت، ولكنه لم يأخذه بأكمله بل حذف مقدمته في الشك، واكتفى منه بالأفكار الواضحة، وأخذ يطبقه في كل مجال، حتى تلك المجالات التي استثناها ديكارت.
ويمكن إعطاء لمحة موجزة عن فلسفته، من خلال ثلاثة كتب تعد رئيسة فيها، وهي: «رسالة في إصلاح العقل» و«الأخلاق»، و«رسالة في اللاهوت والسياسة».
أما في رسالة إصلاح العقل، فيرى اسبينوزا أن للمعرفة درجات ليست كلها على مستوى واحد من اليقين. ففي أدنى الدرجات توجد معرفة استقرائية، يحصلها الفكر من إدراك الجزئيات بطريق الحواس، وهي معرفة مهلهلة لا ترقى إلى اليقين. وتليها في درجة أعلى معرفة استنتاجية تستخلص حالة جزئية من حالة كلية، وهي وإن كانت يقينية، غير أنها لا ترابط بين أجزائها. ثم تليها في أعلى الدرجات معرفة عقلية حدسية، تدرك ماهية الشيء، أو علته القريبة إدراكاً كلياً خاطفاً، وتدرك معها كل ما يترتب عليها، ولهذا كانت يقينية، لأن موضوعاتها أفكار واضحة ومحددة. وقد وجد أن هذا النوع من المعرفة هو الذي عليه أن يأخذ به في بناء صرح فلسفته.
وأما في كتاب الأخلاق، فيتطرق اسبينوزا إلى ثلاثة موضوعات يعتقد أنها مترابطة ترابطاً ضرورياً وهي: الميتافيزيقا والنفس والأخلاق. فهو يبدأ الكلام على الجوهر ويرى أنه واحد، وأنه يبدو طبيعة طابعة في الله، وطبيعة مطبوعة في العالم؛ فالله والعالم واحد، ثم ينتقل إلى الكلام على الإنسان؛ ويرى أنه حال من أحوال الجوهر؛ فالإنسان، بما هو جسم، حال من أحوا ل الامتداد؛ وبما هو نفس، حال من أحوال الفكر. ويدرسه في انفعالاته وإرادته. ويرى أنه خاضع للضرورة السببية. فلا هو يضع غايات أفعاله، ولا هو حر في تنفيذها. فالحرية التي يشعر بها خداع؛ لأنه لو وعى حقيقته لأدرك أنه محكوم بضرورة كلية. وهذا يعني، أن أخلاقه أخلاق ضرورة، وأنها تابعة للضرورة السارية في أجزاء العالم كلها؛ وأن حكمته تتطلب منه أن يراعي هذه الضرورة، التي فيها خلاصه في نهاية المطاف.
وأما الرسالة في اللاهوت والسياسة، ففيها مزيج من نقد التوراة نقداً فلسفياً وفي النظرية السياسية، وفيها يقوم اسبينوزا بثورة في التفكير الديني والسياسي، أراد بها أن يدخل نور العقل إلى هذين المجالين، وأن يضع حداً يفصل به البدع الإنسانية عن التعاليم الإلهية: فقد أراد ـ وفقاً لقاعدة ديكارت ـ ألا يقبل فيهما شيئاً على أنه حق ما لم يكن كذلك.
وهذا ما دفعه إلى أن يرى أن فكرة النبوة ليست واضحة ولا محددة، وأن ما يأتي به النبي هو وليد الخيال، أكثر منه وليد العقل، وإن ما خالف العقل باطل. وحين طبق معيار الأفكار الواضحة في مجال السياسة أيضاً؛ رأى أنها تقوم على فكرة الحق الطبيعي، وهي فكرة واضحة ومحددة. وهي أن كل فرد له الحق في أن يحيا وفق طبيعته ، سواء أكان جاهلاً أم حكيماً، وهذا لا يوفره إلا النظام الديمقراطي، الذي يوافق العقل والطبيعة.
وبهذا نسف اسبينوزا ثنائيات الدين وثنائيات الديكارتية: فألغى تعدد الجواهر وثنائية الله والعالم. فالعالم لا وجود له إلا في الله وبالله. وألغى ثنائية الوحي والعقل؛ فلا علامة على الحقيقة غير موافقتها للعقل. وألغى ثنائية الميكانيكية الطبيعية وحرية الإرادة؛ ووحد بين العقل والإرادة، فرأى أن الضرورة كلية، وهي تهيمن على ظواهر العالم المادي والأفعال الإرادية.
وأكد اسبينوزا أن معرفة الطبيعة يجب أن تكون عقلية؛ وحتى تكون كذلك، لا بد من تصور جوهر حقيقي يكون العلة الكلية لكل المعلولات الطبيعية الناتجة عنها، مثلما تكون الدائرة علّة خصائصها كلها.
هذا الجوهر الواحد غير المتناهي هو الله، وإذا كان واحداً ، لم يكن هناك جوهر آخر أحدثه، وهذا يعني أنه علة ذاته.
وينتهي اسبينوزا إلى أن الو جود الحقيقي هو الجوهر الذي لا نهاية له، وأن المتناهي سلب له: فتمايز بين الأجسام ليس حقيقياً؛ فهي كلها أحوال للامتداد. لكن التمايز ناشئ عن الحركة، وهي حال للامتداد: فهي التي تجزيء الامتداد إلى أجزاء تجعلها أجساماً. بيد أن كمية الحركة ثابتة في الطبيعة، وتتصف بالصفة ذاتها التي يتصف بها الامتداد، وهي صفة السرمدية: إنها تعبير عما هو ثابت وراء التغيرات المختلفة التي تطرأ على الطبيعة.
وعلى صعيد الميتافيزيقة والأخلاق: يدرس اسبينوزا الإنسان كما تُدرس الهندسة. يقول: «سأنظر إلى الأفعال الإنسانية كما أنظر إلى الخطوط أو السطوح أو الأجسام». وهو يقصد بذلك العقل الإنساني، الذي يريد معاملته معاملة الجسم؛ من حيث تفاعله مع الأجسام الأخرى التي تتحدد حركته بها. فكما هو شأن الجسم، يخضع العقل لسببية الفعل والانفعال، فيكون الحادث العقلي السابق علة الحادث العقلي اللاحق.
والإنسان مؤلف من حالين: جسد ونفس، والأول هو حال للامتداد؛ والثاني هو حال للفكر. لكن النفس هي فكرة الجسد الموجود بالفعل، فهي تبدأ منه وتنتهي إليه؛ لكن علتها خارجة عنها تلتمس في أحوال الفكر؛ وكذلك هو أمر الجسد، فعلته خارجة عنه، وهي تلتمس في أحوال الامتداد. بيد أن أحوال النفس تطابق أحوال الجسد.
يقيم اسبينوزا الأخلاق على الميتافيزيقة، جاعلاً علم النفس وسيطاً بينهما: إنه ينتقل من تحليلاته للجوهر الإلهي، إلى تحليلاته للإنسان الذي هو حال من أحواله. ولهذا نجد كل شيء عنده تحكمه الضرورة المنطقية المطلقة. فليس هناك إرادة حرة في عالم النفس، ولا مصادفة طارئة في عالم الطبيعة. إن كل ما يحدث تجلٍ لطبيعة الله، ومن الخلط المنطقي أن تجري الحوادث خلافاً لطبيعته. ولكن أين يكون الخير عندئذٍ؟ وهل كل ما يصدر عن الله خير؟ وماذا نقول عن الشرور التي نصادفها في حياتنا؟ يرى اسبينوزا أن الجانب الإيجابي في أفعالنا وحده خير، وأن الجانب السلبي وحده شر. لكن السلب ليس من صفات الجوهر، وإنما هو تابع لوجهة نظر الكائنات المتناهية، وهي كائنات غير كاملة، فالكامل الوحيد هو الله، وهو خير كله. لهذا كانت الأفعال الآثمة لا وجود لها فيه، حينما يُنظر إليها على أنها أجزاء من طبيعته الكلية. ومن هنا كان الإنسان الحر، ذو الأفكار الواضحة، هو الذي يرى الخير فيما يتجاوز مقدرته على الفعل، وكان الإنسان السلبي ذو الأفكار الغامضة هو الذي يعد الخير مرتبطاً بتحقيق رغباته. وهذا يجعل الإنسان الخير هو الذي يطلب الخير للآخرين، ويسعى إلى أن يكونوا أحراراً مثله، فلا يعاملهم بالكراهية والنفور، لأن مثل هذه المعاملة لا يجدي.