الكوم (واحة) شمال- شرقي تدمر

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الكوم (واحة) شمال- شرقي تدمر

    كوم (واحه) -- -
    الكوم (واحة ـ)




    تقع واحة الكوم على بعد 90 كم تقريباً شمال- شرقي تدمر في قلب البادية السورية، وتأخذ شكل حوضة مربعة أبعادها 30×30كم تقريباً. تحيط بها الأودية من جهاتها الأربع، وتقوم في جزئها الجنوبي قرية الكوم، وفيها تل الكوم الكبير.

    أظهرت الأبحاث الأهمية البالغة لهذه الحوضة في عصور ما قبل التاريخ، حتى عدّها بعضهم إحدى عواصم هذه العصور. وقد توفرت فيها كل المقومات الضرورية للحياة الأولى، فهي غنية بالحيوانات، وأهمها الخيول والجمال والماعز والبقر، وبالنباتات وعلى رأسها النجيليات وأشجار اللوز والبطم والزعرور، وفيها كثير من الينابيع الارتوازية الغزيرة المياه، إضافة إلى توفر مقالع حجر الصوان ذي النوعية الممتازة الذي استخدم في تصنيع مختلف أنواع الأسلحة والأدوات.

    تعود المعلومات الأولى عن المنطقة إلى النصف الأول من القرن العشرين، ثم بدأت فيها الأعمال الأثرية النظامية في الستينيات من القرن نفسه، عندما قام الباحث الهولندي موريس فان لون M.van Loon من جامعة أمستردام بالتنقيب في الجزء المرتفع من تل الكوم.


    مشهد عام للتنقيب في تل الكوم

    تابعت بعثة فرنسية منذ السبعينيات بإدارة جاك كوفان J.Cauvin ودانييل ستوردور D.Stordeur التنقيب في الجزء المنخفض من التل، وفي تل القدير في شـمال ـ غربي الواحة. وتعمل حالياً في المنطقة في المسح والسبر والتنقيب بعثات مختلفة، فرنسية وسويسرية وسورية، يشارك فيها باحثون متنوعو الاختصاصات، ويديرها جان ماري لو تانسوريه J.M. Le Tensorer وإريك بويدا E.Boëda وسلطان محيسن.

    لقد تبين أن هذه المنطقة قد سُكنت منذ زمن قديم جداً، وكان الاستيطان البشري فيها كثيفاً مستمراً ومتنوعاً، دلت عليه مئات المواقع العائدة إلى عصور ما قبل التاريخ، أهمها تلك التي تقع بجوار ينابيع المياه القديمة التي تردد عليها البشر مئات الآلاف من السنين، تاركين بقاياهم الأثرية والمستحاثية التي تجمعت بسماكات تجاوزت عشرات الأمتار، وضمت ملايين الأدوات الحجرية بشكل قلَّ نظيره في العالم. وُجدت أقدم آثار الاستيطان في الواحة في موقع بئر الهمَل، حيث عُثر في الطبقات الدنيا لهذه البئر على أدوات حجرية بدائية يُقدر عمرها بنحو مليون سنة خلت. وفي موقع الميرة كُشف عن آثار استيطان غنية دلت عليها الأدوات الحجرية، وأهمها الفؤوس اليدوية، المتقنة الصنع التي تعود إلى المرحلة المسماة الآشولي الأوسط وقد أرِّخت بالطريقة المغنطيسية القديمة paleomegnatism إلى أكثر من 700 ألف سنة خلت.

    منذ نحو نصف مليون سنة ازداد استيطان المنطقة كثافة وانتشاراً، والموقع الأهم من هذه المرحلة هو الندوية (عين عسكر)، حيث كُشف عن أكثر من عشرين طبقة أثرية تعود إلى العصر الحجري القديم الأدنى، تظهر تطوراً فريداً للحضارة الآشولية Acheulean في مراحلها الباكرة والوسطى والأخيرة، دلت عليه آلاف الفؤوس الحجرية ذات الأشكال الدقيقة الجميلة التي عدها بعضهم بداية الفنون الأولى. الكشف الأهم في هذا الموقع هو العظم الجداري اليساري os pariétal لإنسان الهومو أركتوس وهو أهم ما عُثر عليه لهذا الإنسان في المشرق العربي القديم.


    تل الكوم - رأس حيواني حجري (5000 ق.م)

    وقد كشف في الكوم أيضاً عن حضارات جديدة لم تكن معروفة من قبل، فصلت بين العصر الحجري القديم الأدنى والعصر الحجري القديم الأوسط، أي بين نحو 250-150 ألف سنة خلت، أهمها الحضارة اليبرودية، نسبة إلى يبرود، التي اشتهرت باستخدام المقاحف القصيرة والغليظة، والحضارة الهمَّلية، نسبة إلى الهمَّل، التي تميزت باستخدام الحراب والنصال.

    ازداد الاستيطان البشري في الكوم كثافةً في العصر الحجري القديم الأوسط 150-40 ألف سنة خلت، وأم التلال هو الموقع الأهم لهذه المرحلة، إذ كُشف فيه عن مئات الطبقات الأثرية؛ أعطت الطبقات الدنيا منها الآثار العائدة إلى الحضارة الموستيرية Mousterian، وعلى رأسها المقاحف والسكاكين وحراب الصيد. كما كُشف عن بقايا أثرية ومستحاثية نادراً ما تُحفظ من ذلك الزمن البعيد، بينها أغصان وأوراق أشجار وأحجار تحمل حزوزاً، ربما هي أشكال فنية، وتشكلات لافتة للنظر لأدوات وعظام قد يكون القصد منها التعبير عن أفكار أو معتقدات معينة. وهناك حربة صوانية كُسرت في رقبة حمار وحشي تم صيده، إضافة إلى دلائل وجود القار بعد جلبه من مقالع تبعد عشرات الكيلومترات عن الموقع، واستخدامه في صنع قبضات الأدوات الحجرية، وذلك منذ نحو 70 ألف سنة خلت، وهذا أقدم دليل لمعرفة القار في العالم. عُثر في موقع أم التلال أيضاً على عظم القزال occipital لإنسان النياندرتال الذي عاش في تلك الفترة.

    تراجع استيطان الحوضة في مرحلة العصر الحجري القديم الأعلى منذ نحو40 ألف سنة خلت، واقتصر على بعض المواقع السطحية إضافة إلى الطبقات العليا من موقع أم التلال، حيث كُشف عن آثار الحضارة الأورينياسية المشرقية Levantine Aurignacian. وبقي الاستيطان متواضعاً على امتداد العصر الحجري الوسيط (الميزوليت) دلت عليه الآثار والمواقع العائدة إلى الحضارة الكبارية والنطوفية.

    عاشت في الكوم في العصر الحجري الحديث المجتمعات المستقرة، التي أنشأت أول مرة القرى الأولى ومارست الزراعة وتدجين الحيوانات وعرفت تصنيع الأواني الفخارية ومارست الفنون والمعتقدات، حيث كُشف في تل الكوم عن قرية زراعية مستقرة حضرية عاشت في الألف السادس ق.م، بيوتها من اللبن والحجر وقد طُليت بالملاط وزوّدت بالتمديدات الصحية الأولى. في حين لم يعرف سكان موقع القدير المعاصر بناء البيوت بل كُشف فيه عن حُفر ومواقد ومشاعل مؤقتة تدل على مجتمعات بدوية متنقلة مارست الرعي. وهكذا تكون الكوم المنطقة التي أعطت الدليل الأول والأقدم على ظهور مجتمعات حضرية مستقرة، وأخرى بدوية متنقلة قامت بينها علاقات تبادل، وقد استمر هذا النمط من المجتمعات على امتداد العصور اللاحقة.

    في الألف الرابع ق.م سكنت منطقة الكوم مجتمعات تنتمي إلى حضارة الوركاء التي انتشرت على مساحة امتدت من جنوبي بلاد الرافدين حتى شمالي سورية وكانت أول من ابتكر الكتابة التصويرية التي تطورت إلى كتابات مسمارية واضعة الحد لعصور ما قبل التاريخ. مع نهاية هذه العصور انتهى الدور التاريخي المتميز الذي أدته واحة الكوم، ولكن ذلك لا يعني أن الحياة فيها قد انقطعت بل بقيت مأهولة في العصور التاريخية القديمة وعلى امتداد الألف الثالث والثاني والأول ق.م. وأصبح دورها أكثر أهمية في العصور الكلاسيكية والهلنستية والرومانية-البيزنطية، وحتى العصور العربية الإسلامية.

    سلطان محيسن
يعمل...
X