الكِباري(مغارة الكِبارا)

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الكِباري(مغارة الكِبارا)

    كباري -- - --
    الكِباري



    الكِباري مصطلح ينسب إلى مغارة الكِبارا في جبل الكرمل على الساحل الفلسطيني، والتي اُكتشفت في العشرينات من القرن العشرين. بدأ التنقيب فيها في الثلاثينات، ثم استؤنف بين الخمسينات والثمانينات من القرن ذاته. وجدت في الطبقات العليا من هذه المغارة أدوات حجرية مميزة، حراب ونصلات ذات تشذيب خاص، نُسبت إلى ما أصبح يُعرف بالحضارة الكِبارية التي تعود إلى القسم الأخير من العصر الحجري القديم الأعلى، الذي شهد غياب الحضارات ذات الانتشار العالمي الواسع، التي سادت سابقاً، لتحل مكانها حضارات محلية الجذور والفروع، ازدهرت في مناطق جغرافية معينة، وانتمى صانعوها إلى عرق أنتروبولوجي محدد، وهو العرق ماقبل المتوسطي Proto-Mediterranean، السلف المباشر للعرق المتوسطي الذي ساد في بلاد الشام في العصور اللاحقة. اشتهر الكباريون بتصنيع الأدوات الحجرية الميكروليتية، وبينها الحراب الكبارية والنصال والأزاميل والمناجل، إضافة إلى الأدوات العظمية كالمخارز والإبر وأدوات الصقل والقبضات والخرز وأدوات الزينة البسيطة، وكانوا جماعات متنقلة عملت في الصيد والالتقاط.

    تؤرخ المرحلة الكبارية الأولى بين 20-14 ألف سنة خلت، وامتدت آثارهم من ميناء العقبة جنوباً حتى البادية السورية شمالاً، ووجدت مواقعهم في مناطق مختلفة، ومهدت للمرحلة الكبارية الثانية التي تُؤرخ بين 14-12 ألف سنة خلت، وتسمى الكباري الهندسي Kebarian geometric بسبب الانتشار الواسع للأدوات ذات الأشكال الهندسية (مستطيل، مثلث، شبه منحرف)، وتمثل الدخول الكامل في العصر الحجري الوسيط (الميزوليت)، وحصلت فيها تطورات شاملة على مختلف الصعد الاقتصادية والاجتماعية، رافقها انتشار واسع للاستيطان الذي لم يقتصر على المناطق الغنية بالمياه (أحواض الأنهار وجوار البحيرات والساحل)، وإنما امتد إلى السهوب والهضاب الأقل أمطاراً.

    ومع تحسن المناخ؛ ازدادت الخيرات البرية ولُوحظ تركيز واضح على صيد حيوانات معينة، أهمها الحيوانات البرية مثل الغزال ثم الأيل والماعز والثور، كما مُورس الصيد البحري بكل أنواعه، وهناك مهارة ملموسة في التقاط نباتات محددة كالقمح والشعير، ثم ما لبثت أن دُجنت في العصر اللاحق.

    سكن الكباريون في مراحلهم الأولى في المغاور والملاجئ استمراراً لما جرى عليه أسلافهم، وغالباً ما أقاموا في مداخل هذه المغاور ونادراً ما دخلوا إلى أعماقها، لكنهم سرعان ما بدؤوا ببناء الأكواخ ثم البيوت البسيطة التي كانت عبارة عن حُفر في السفوح والمنحدرات، أو أبنية دائرية الأشكال استخدموا في بنائها الحجر والطين (إذ لم يعرفوا تصنيع اللبن بعد) والأغصان، وكسوها بالأوراق والألياف والجلود، وقد وجدت أبكر البيوت الكبارية وأهمها في مواقع قليلة، بينها أوهالو Ohalo II على الضفة الجنوبية الغربية لبحيرة طبرية، حيث كُشف عن معسكر كباري يعود إلى نحو 19 ألف سنة خلت، تألف من بضعة بيوت تضمنت مواقد وأدوات زراعية، والأهم من ذلك بقايا الحبال والشباك لصيد الأسماك، وهي أقدم ما وجد في المنطقة والعالم حتى اليوم. واُكتشفت معسكرات مشابهة في مواقع رأس النقب وهايونيم وناحال أورن وشقبة وعين جيف في فلسطين، ووادي الحسا ووادي الحمى في الأردن، ويبرود وجيرود والكوم وجبل عبد العزيز في سورية، وظهورشوير ومغارة جعيتا وكسار عقيل في لبنان.

    لا توجد معلومات كافية عن الحياة الروحية والفنية للكباريين، لكن من المعلوم أنهم دفنوا موتاهم بأوضاع تدل على العناية والاهتمام بعد أن حفروا لها القبور ودعموها بالأحجار. وقد عُثر في مواقعهم على كثير من الخرز والأحجار النادرة والأصداف التي استخدموها في صنع حليهم كالأطواق والأساور والخواتم، كما عرفوا استخدام المغرة الحمراء التي كانت مادة تلوين رئيسية لديهم، استعملوها لطلاء أدواتهم وربما أجسامهم، واُستخرج من مواقعهم بعض الأدوات العظمية المزخرفة.

    أقام الكباريون علاقات خاصة مع محيطهم وبيئتهم التي غدت سيطرتهم عليها محكمة أكثر من أي وقت مضى، فكانت لهم مناطق إقامة وعيش محددة جرت فيها نشاطاتهم اليومية ومناطق تابعة استغلوها عند الحاجة. وعلى الرغم من كون واقعهم الاقتصادي والاجتماعي يدل على نظام مشاعي، إلا أنه يوجد في عصرهم بواكير نظام تملك عائلي أو فردي لم يطل فقط الأدوات والأسلحة، بل الأرض والماشية والخيرات، وهذا يدل على بداية تفاوت طبقي هو الأول من نوعه حتى اليوم، ولعل بعض القبور التي زُوّدت بحلي وأسلحة خاصة- في حين كانت قبور أخرى فقيرة - هي المؤشرات الأولى لهذا التفاوت الذي أخذ أبعاداً أوضح فيما بعد.

    كل ذلك يدل على بداية تطور فكري وفني ومادي ملموس أنجزه الكباريون عبر ابتكاراتهم المتنوعة التي مهدت للتحولات الاجتماعية والاقتصادية التي حققها أحفادهم النطوفيون[ر] الذين أوصلوا الابتكارات الكبارية إلى أوجها، سواء في البناء أم في الاقتصاد أم في الفنون، وأدت إلى التحول الكبير الذي تميز بظهور قرى المزارعين الأوائل في المشرق العربي القديم.

    سلطان محيسن
يعمل...
X